التقديم والترجمة : مصطفى إسماعيل
لم يتأخر الكاتب التركي الشهير “أحمد آلتان” عن الرد على تصريحات رئيس أركان الجيش التركي الجنرال “إلكر باشبوغ”، التي أطلقها على الموقع الرسمي لرئاسة الأركان أمس الثلاثاء 25 أغسطس، وكانت تدخلاً في الشأن السياسي في البلاد، وتحديداً في ملف الانفتاح الحكومي التركي على القضية الكوردية، الذي تضمّن وعوداً من حكومة حزب العدالة والتنمية بالحل الديمقراطي السلمي. ويضع “آلتان” في مقالته هذه النقاط على الحروف، مبيناً ما للعسكر وما للسياسيين، وأن الأولى بالجنرالات التزام الصمت والإهتمام أكثر بوظيفتهم العسكرية، وترك أمور السياسة للساسة. فالنظام السياسي الموجود في تركيا كريهٌ في قراءة “آلتان”، وتحتاج تركيا وفاقاً لرأيه إلى نظام مغاير ومختلف هاجسه الأوحد رفاهية المكونات في تركيا، أما ذهنية إلقاء الزيت الحارق عبر حزمة اللاءات التي تضمنها تصريح الجنرال “باشبوغ” أمس الثلاثاء، فلا تخدم المرحلة الحالية في البلاد، التي تشهد أجواء تفاؤل لم تحظَ بها من قبل، منذ تأسيس الجمهورية وإلى تاريخه، ولعل اختيار “آلتان” للعنوان دلالة على الدور الممعن في السلبية الذي يريد العسكر لعبه، لزجِّ البلاد في نفق مظلم، من شأنه تدشين مرحلة قهقرى أخرى، تكون سمته الغالبة ” لا وت يعلو فوق صوت المعركة “، وهو منطق مرفوض كلية من لدن “أحمد آلتان” كمثقف عضوي أيقوني تركي يرفضُ التصفيق للعقل العسكري الوصائي المتهافت. إليكم نص المقال مترجماً ومنسقاً وفاقاً للنص التركي المنشور في عدد اليوم الأربعاء 26 أغسطس من صحيفة “طرف” TARAF التركية الليبرالية:
*
أحمد آلتان : غبار ودخان
رئيسُ الأركان العامة موظفٌ حكومي.
حينَ يستلزمُ الأمرُ، يستدعيه رئيسُ الحكومة، ليتلقى منه المعلوماتَ في المواضيع العسكرية.
ويسأله إبداءَ اقتراحاته.
بعدها تُقرِّرُ الحكومةُ.
ورئيسُ الأركان العامة يقومُ بتنفيذِ تعليمات الحكومة.
خارجَ ذلكَ، لا يُمكنُ لرئيس الأركان العامة توضيحُ أفكاره للرأي العام.
ولا انتقادُ البرلمانِ أو الحكومة بشكلٍ علني.
وإذا كانَ يريدُ القيامَ بشيء من هذا القبيل، فعليه بدايةً كتابةُ استقالته.
يتحققُ النظام في غالبية الدول المتقدمة في العالم بهذا الشكل.
في الحرب العراقية الأولى، كان على رأس القوات الأمريكية جنرالٌ ناجحٌ جداً أُطلقَ عليه اسمُ ” ثعلب الصحراء “.
ربحَ الحربَ، وفتحَ طريقَ بغداد.
كانَ بإمكانه الاستيلاءُ على بغداد، وكانَ يريدُ بالفعل الاستيلاءَ عليها.
كانَ ذلكَ برأيه ضرورياً من الناحية العسكرية.
أما الحكومةُ الأمريكيةُ, فقدْ قرَّرَتْ عدم الاستيلاء على بغداد، آخذةً بعين الاعتبار توازنات الشرق الأوسط.
مُخمنةً أنَّ الاستيلاءَ على بغداد سيُصَّعدُ من القوَّة الإيرانية في المنطقة.
الجنرالُ الذي نظرَ إلى القضية من الزاوية العسكرية فقط، لمْ يستوعب تماماً الدوافعَ التي ألجأت الحكومةَ إلى اتخاذ قرارٍ كهذا، وانتقدَ حكومته بتصريحٍ إعلامي.
فأقالوهُ فوراً.
وهذا هوَ التصرفُ الصحيحُ.
فالحربُ تستوجبُ عقلاً عسكرياً، فيما تحتاجُ السياسةُ إلى عقلٍ مدني.
أعلمُ أنَّ معايير العالم المُتمدنِ مُثيرةٌ للاستغرابِ لدينا.
يقبلونَ تُركيا كدولةٍ ” غيرَ مُتقدمة “، ولا يُريدونَ تقدمها.
إنهم يريدونَ ” الجنرالات ” مُتحدثينَ، والمدنيين مُتوافقينَ معَ عقولهم.
وقد ضغطَ حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية كثيراً، لأجل أنْ ” يتحدثَ” رئيسُ الأركان العامة، ويوَّضحَ “الخطوطَ الحُمرَ”.
ورئيسُ الأركان العامة تحدَّثَ.
ليستْ من وظائف رئيس الأركان العامة تبيانُ الكيفية التي ستُحلُّ بها المسألة الكوردية، ولا اللُّغة التي ستُعتمدُ في التعليم.
هوَ مسؤولٌ عن الحربِ.
حينَ يقولونَ الحربْ، يُحاربُ.
وحينَ يقولونَ السلام، يُسالمُ.
لا يُقرِّرُ الجنرالاتُ أمرَ الحربِ والسلام.
قبلَ دخول الحربِ، يُبيِّنُ للحكومةِ “جاهزيةَ أو عدم جاهزية الجيشِ والشروطَ العسكرية”.
ذلكَ فقطْ.
أمَّا رؤساءُ أركاننا، فما شاء الله، إنهم يتحدثونَ في المواضيع كافة.
فبدلاً من الانشغال بأمورهم العسكرية، ينشغلونَ بالسياسة.
هلْ سنحلُّ المسألةَ الكوردية بواسطة العقل العسكري؟
منْ أجلِ حلِّ هذه المسألة، تلزمنا طرقٌ مُستجدةٌ وأساليبٌ ومُقارباتٌ لمْ نصادفها إلى يومنا هذا قطُ.
باتَ مفهوماً، أنَّ تركيا ستُعاني كثيراً في موضوع السلام.
بعدَ أن تحدث رئيس الأركان العامة، أدلى المتحدثُ باسم الحزب الحاكم بتصريحٍ يُشدِّدُ على صوابيةِ “الباشا”.
فبدلاً من قولهم “لا تتدخلْ يا باشانا”، قالوا “أنتَ على حقٍّ باشانا”.
ففي حين عملَ حزب العدالة والتنمية على التكيُّفِ مع الجنرال، بدأَ حزبُ المجتمع الديمقراطي على الطرف الآخر بالتشدد.
أصلاً كان حزب العمال الكوردستاني قد هبَّ مُنتفضاً قبلَ ذلك بيوم.
والأصلُ أنَّ اللاعبين في الساحة السياسية التركية، بما فيهم المسلحون، يتعقبونَ “مُعجزةً”.
فهمْ يُريدونَ تحقق السلامِ، لبدءِ حياةٍ جديدة، وفي الآن نفسه يُريدونَ إدامةَ مواقعهم السابقة.
هذا غيرُ مُمْكِنٍ.
إذْ سيتغيَّرُ كلُّ شيء معَ حلّ المسألة الكوردية. فحزبُ العدالة والتنمية سيضطرُّ إلى الانفتاح على العالم بشكلٍ أسرع، ولن ينالَ حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية أصواتَ الناخبينَ بناءً على “القومجية والحماسة”، وسيضطُّر حزبُ المجتمع الديمقراطي إلى تركِ “السياسات الأحادية”، لخلقِ مشاريعَ مُتعلقة برفاهية الناس، وسينسحبُ الجيشُ إلى ثُكناته، فيما سيتخلى حزبُ العمال الكوردستاني عن أسلحته، وينزلَ من الجبال.
قد لا يُسَّرُ هؤلاء اللاعبون لهذه التطورات.
ولكن لا حلَّ آخرَ أمامهم.
هذه الدولةُ ذهبت مع الحرب إلى النقطة التي أمكنها الوصول إليها، من الآن فصاعداً يمكنها التقدم بالسلام فقط، وإلا فإنها ستبقى على أطرافِ أوروبا مثلَ زائدةٍ دوديةٍ عمياء، مستسلمةً لفقرٍ مُلتهبٍ.
مرحلةٌ جديدةٌ تبدأُ.
تستلزمُ أحاديثَ جديدة.
خمسٌ وعشرونَ عاماً، ونحنُ نُنصتُ إلى هذه الأحاديث المحفوظة عن ظهرِ قلب، وماتَ الآلافُ من أولادنا.
يلزمنا نظامٌ لا يشهدُ موتَ أولادنا.
يلزمنا جنرالاتٌ يُجيدونَ السكوتَ، وسياسيونَ يُجيدونَ الكلامَ.
قتلُ الناسِ أمرٌ سهلٌ، وقدْ رأينا أنَّ بإمكان الجميعِ ارتكابَ ذلك.
ولكنْ صعبٌ جعلُ الناس يعيشونَ، لمْ نرَ بعدُ منْ بإمكانه ذلك.
ولكنا نُريدُ رؤيته.
المُجتمعُ كلُّه يريدُ ذلكَ.
المُجتمعُ يُريدُ رؤيةَ طريقٍ تمنحنا السلامَ والصبرَ والسعادة.
لأنَّ الطرقَ السابقة ملأى بالدماء.
ونحنُ تعبنا وسئمنا من الدماء.
mbismail2@hotmail.com
*
*
ارئيس الأركان التركي يقلب الطاولة ويعلن لاءات الجيش حيال الملف الكوردي
قلب رئيس أركان الجيش التركي الجنرال إلكر باشبوغ، اليوم الثلاثاء، الطاولة على رؤوس المتفائلين بولادة سلام داخلي ووئام أهلي في تركيا بعد عقدين ونصف من المواجهات بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكوردستاني، وأفرغ مشاورات الحكومة التركية بغية حل القضية الكوردية في البلاد من كل محتوى، وذلك حين خرج عن صمته إزاء تصاعد النقاشات حول فرص حل القضية الكوردية، معرباً عن لاءات المؤسسة العسكرية حيال التطورات في الملف الكوردي.
وقد أوضح الجنرال باشبوغ في تصريحه الصحفي الخطوط الحمر في البلاد التي لا يمكن المساس بها، مركزاً على المادة الثالثة من الدستور التركي النافذ منذ 1982، والموضوع من قبل العسكر بعد إنقلاب 12 سبتمبر 1980 الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين رئيس الأركان حينها. ويفهم من تركيز رأس المؤسسة العسكرية التركية على المادة الثالثة من الدستور، توجيهه رسالة تحذيرية إلى الحكومة التركية، للحيلولة دون تجاوزها الخطوط الحمر الواردة في المادة إياها، والتي تنص على أن “الدولة التركية، وطناً وشعباً كلٌّ لا يتجزأ، ولغتها الرسمية التركية”. وهذا يعني رفض المؤسسة العسكرية لأي مساس بشكل الدولة شديدة المركزية بمقتضى مواد أخرى من دستور 1980، في رد غير مباشر على أحاديث ومطالب كوردية بحكم ذاتي في مناطقهم، وقبول اللغة الكوردية كلغة رسمية أخرى في البلاد.
وشدد الجنرال باشبوغ في تصريحه على أهمية الدور الذي لعبه الجيش في مواجهة حزب العمال الكوردستاني، مذكراً الرأي العام التركي والحكومة بفقدان أكثر من خمسة آلاف جندي تركي لحياتهم في المواجهات العسكرية الدائرة منذ 15 أغسطس 1980، مؤكداً أن الجيش سيستمر في الحرب ضد حزب العمال الكوردستاني، مبدياً موافقته على مقاربة الحكومة للقضية الكوردية المزمنة في البلاد انطلاقاً من تدابير اقتصادية واجتماعية وثقافية فقط.
وقد رتب الجنرال إلكر باشبوغ آراء المؤسسة العسكرية من حل الحكومة المزمع للقضية الكوردية في النقاط التالية:
– عدم الإضرار لأي سبب كان بشكل الدولة – الأمة، والدولة الموحدة الحالي.
– تحترم المؤسسة العسكرية الفروق الثقافية في البلاد، ولكنها ترفض تسييسها، ولا تقبل بإدراجها في الدستور.
– عدم السماح بفتح الطريق لأية علاقة مع حزب العمال الكوردستاني وأنصاره للانخراط في أية فعالية في البلاد.
– ينبغي عدم نظر أوساط ناشطة في البلاد – مستفيدة مما أتاحته الساحة الديمقراطية لهم – بإيجابية وانفتاح إلى تنظيم يصادر الحق في الحياة، ويشير باشبوغ هنا إلى حزب المجتمع الديمقراطي الممثل للكورد في البرلمان التركي.
– وتؤمن المؤسسة العسكرية بأن حرية مناقشة أيما موضوع سيعرض وجود الدولة للخطر، وتؤمن بضرورة عدم تضمين مواضيع في النقاشات، من شأنها حشر الدولة في القطبية والتفكك والصراعات.
وتأتي تصريحات رئيس الأركان التركي هذه بعد أيام قليلة من اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الذي انعقد يوم الخميس 20 أغسطس، وقبل يوم من لقاء المحامين بزعيم حزب العمال الكوردستاني عبد الله أوجلان في سجن إيمرالي. ويتوقع أن تصدر عقب اللقاء خارطة الطريق التي يعدها أوجلان في سجنه منذ أشهر، وتتضمن آراءه حول سبل حل القضية الكوردية في تركيا.
تصريحات الجنرال إلكر باشبوغ الرافضة لأيما حل سلمي ديمقراطي على أسس متينة هي الثانية من نوعها خلال فترة انفتاح الحكومة التركية على المكون الكوردي في البلاد، وذلك بعد تصريحات مماثلة أدلى بها لصحيفة “حرييت” التركية في 4 يونيو، حين كان في زيارة رسمية للعاصمة الأمريكية واشنطن.