إذا أغلقنا النوافذ والأبواب في بيت مدة عقود طويلة، ينبغي ألا نشكو رائحة العطن، وفساد الهواء. فلنقل إن الحقل السياسي، أي الفضاء الذي تتم فيه عمليات توزيع الثروة، واتخاذ القرارات، وصياغة وتعديل شروط العقد الاجتماعي، وتوليد آليات الرقابة والثواب والعقاب، يشبه البيت. ولنفكر في حقائق من نوع أن هذا البيت قد أُغلق في العالم العربي منذ أواسط الخمسينيات، وأن ثورات الربيع العربي كسرت النوافذ، وفتحت الأبواب.
يُغلق الحقل السياسي عندما تحتكر نخبة بعينها عمليات توزيع الثروة، واتخاذ القرارات، وحق صياغة وتعديل العقد الاجتماعي، وتنجح في تزييف آليات الرقابة، والثواب والعقاب. وهذا، في الواقع، ما حدث في سورية ومصر واليمن وليبيا والعراق والجزائر والسودان. للملكيات (وهي بالمناسبة أكثر شرعية من أنظمة الانقلابيين) قصة أخرى، ولمشيخات الخليج قصة مختلفة تماماً وعلاجها يقع خارج نطاق هذه المعالجة.
اللافت للنظر أن ثمة الكثير من أوجه الشبه بين النخب الحاكمة في سورية ومصر واليمن وليبيا والعراق والجزائر والسودان. فقد تغيّر النظام السياسي في تلك البلدان، إما عن طريق الانقلاب العسكري، أو تحقيق الاستقلال بعد طرد المستعمر الأجنبي، كما هو الشأن في الحالة الجزائرية.
وفي تلك البلدان نشأت أنظمة من طراز جديد، تصدرتها أحزاب حاكمة رفعت شعارات اشتراكية ومساواتية، وتبنت سياسات راديكالية. وقد وصلت كلها إلى طرق مسدودة: أخفقت في تحقيق التنمية، والعدالة الاجتماعية، وأنشأت أجهزة أمنية كلية القدرة والجبروت، وتحوّلت إلى جمهوريات يحكمها رئيس مدى الحياة، ويوّرث الحكم لأولاده، باستثناء الحالة الجزائرية.
نجح حافظ الأسد في سورية، ويدفع السوريون في الوقت الحاضر التكلفة الباهظة لذلك النجاح، ونرجو ألا يطول عذابهم. في مصر أطاحت ثورة شعبية بالحاكم مدى الحياة وألقت به، ومعه أولاده، ونصف حكومته في السجن. وفي العراق قُتل الحاكم مدى الحياة، وقُتل أولاده في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق (الذي تقع مسؤوليته على عاتق الحاكم نفسه)، وفي ليبيا قُتل الحاكم وبعض أولاده. وفي اليمن أُرغم الحاكم على الخروج من المشهد السياسي، ولم يحسم مصيره ومصير أولاده وأقاربه بعد. وفي الجزائر والسودان مصائر الحكّام معلقة في الهواء.
في أغلب الحالات المذكورة، أصبحت النخبة الحاكمة مع مرور الوقت عصابة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعندما تهيمن عصابة على دولة تصبح الدولة نفسها ملكية خاصة، وتتمكن العصابة من البقاء في سدة الحكم إلى ما لا نهاية، أو حتى يقع زلزال من نوع الثورة الشعبية، أو يطيح بها تدخل أجنبي.
وهذه الخصائص، بالذات، لا تخدم فرضية التراكم الإيجابي والإصلاح التدريجي، ومعنى هذا الكلام الصبر على التوزيع غير العادل للثروة، وغض النظر عن احتكار السلطة، والعمل على تحقيق إصلاحات تؤدي مع مرور الوقت إلى تحقيق قدر أكبر من العدالة في التوزيع، والحد من احتكار السلطة.
إغلاق الحقل السياسي يعني الحكم بالفشل على فرضية التراكم الإيجابي، والإصلاح التدريجي. في سورية، مثلاً، راودت هذه الفرضية بعض المثقفين السوريين بعد وصول بشّار الأسد إلى سدة الحكم، وكادت تتحوّل إلى حقيقة مع “ربيع دمشق القصير” في العام 2000، لكن التطورات اللاحقة أثبتت بطلان هذا الوهم.
وهي الفرضية، نفسها، ولكن مع عملية تحوير طفيفة، التي لعب بها سيف القذافي في ليبيا، للتدليل على اختلافه عن أبيه قبل اندلاع الثورة الليبية. وهي أيضاً وأيضاً الفرضية التي أراد القائلون بها التمهيد لرئاسة جمال مبارك، النجم الصاعد في سماء الاستثمار والمصارف ومؤتمرات الحزب الوطني، الذي يتكلّم عن عالم أفضل بحيوية الشباب، وحكمة الكهول.
فلنضع فرضية التراكم الإيجابي جانباً. الإنسان حيوان سياسي، ومجرّد طرده من الحقل السياسي يعني تعطيل خاصية أساسية من خواص الاجتماع البشري في إطار جماعة أو مجتمع. تتم عملية إقصاء الفاعلين الاجتماعيين (وهؤلاء هم الحاضنة الطبيعية لتوليد السياسة وممارسيها) عندما تعيد النخبة المهيمنة إنتاج نفسها من خلال الشبكات العائلية والمهنية والتحالفات.
بمعنى آخر، لا يقتصر الأمر على الحاكم الفرد، الساعي لتوريث الحكم، بل يشمل كل أعضاء الدائرة الداخلية للحاكم من عائلة ومقرّبين، وكبار موظفيه، وقادة جيشه وأجهزته الأمنية. يحكم هؤلاء عملية الدخول إلى النخبة والخروج منها، وهم من يحدد شروط الانتماء إليها. وعادة يرث أولادهم ليس المناصب نفسها بالضرورة، ولكن ما يماثلها من حيث القوة والنفوذ في الحقلين السياسي والاقتصادي، وفي أجهزة الأمن والجيش بطبيعة الحال. تشبه هذه العملية دائرة مغلقة يصعب اختراقها من جانب المواطنين العاديين.
وفي مجتمعات تتسم بالتنوّع الطائفي غالباً ما تتمفصل عمليات التمركز الطائفي، أو الجهوي، مع آليات النخبة الساعية إلى تأبيد مكانتها المهيمنة، وتوريث الهيمنة استناداً إلى شبكات عائلية ومهنية (سلك الضباط، مثلاً) وتحالفات جهوية ومصلحية (قيل الكثير عن تحالف نظام آل الأسد مع تجّار حلب ودمشق).
ومن النتائج المُفزعة لهذه العملية المعقدّة أن المؤسسات الاجتماعية والسياسية المستقلة عن بنية النظام يُحكم عليها عن طريق القمع والتهميش وشراء الذمم بالعجز والشلل والإفقار، فتفقد القدرة على التحوّل إلى حقول تدريب وتربية، وتوليد، للسياسة والسياسي على حد سواء). لذا، لا نعثر في ظل أنظمة تحوّلت إلى عصابات على ساسة معارضين من وزن ثقيل، لأن ظهورهم في الحقل السياسي غير ممكن. وهذا يفسر، في جانب منه، خواء الحقل السياسي بعد سقوط الحاكم الفرد وأولاده ونخبته المهيمنة، وظهور ساسة على قدر واضح من التفاهة والجهل. ويفسر، بالقدر نفسه، التخبط، والفوضى، وضياع البوصلة، وحتى الحنين إلى زمن الطاغية. فقد أُغلقت النوافذ والأبواب منذ زمن بعيد، ولن يهب هواء نظيف قبل مضي بعض الوقت. وبعض الوقت دمٌ، وهزائم، وخراب، وفوضى، عطن، وهواء فاسدٌ. كأن قدر العرب أن يتجرّعوا الكأس كاملة، حتى الثمالة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني- برلين