هناك احداث غريبة تدور في سوريا. تجري هذه الاحداث في وقت تبدو الإدارة الاميركية الجديدة مصمّمة اكثر من ايّ وقت على اخراج ايران وميليشياتها من هذا البلد في ظلّ السعي الى تحقيق نوع من التفاهم بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. هل يحصل مثل هذا التفاهم؟ أي انعكاسات ستكون له على العلاقة الايرانية ـ الروسية، خصوصا في مجال التنسيق الذي لا يخلو من تنافس بين الجانبين في سوريا؟
ما الذي وراء الاحداث الغريبة التي تدور من سوريا او محيطها، وكان آخرها انعقاد مؤتمر في بيروت ضمّ معارضين، من نوع معيّن، وموالين للنظام؟ من الملفت ان سفراء يمثلون دولا عدة في لبنان، من بينها روسيا، حضروا هذا المؤتمر.
كان هناك بحث في المؤتمر الذي استضافه احد فنادق العاصمة اللبنانية في عودة اهل القصير الى منازلهم وارضهم. معروف جيدا من هجّر اهل القصير ولماذا كان مطلوبا تهجير هؤلاء من منطلق واضح. تختزل هذا المنطلق الرغبة في إقامة منطقة عازلة على طول الحدود اللبنانية ـ السورية خالية من السنّة.
يطرح “حزب الله” نفسه وكأنّ لا علاقة له بتهجير اهل القصير والمشاركة في الحرب التي يشنّها النظام الاقلّوي على شعبه من منطلق مذهبي بحت.
لم تكن روسيا بعيدة عن مؤتمر بيروت، لكنّ اللاعب الاهمّ كان ايران، عبر “حزب الله. من الواضح انّ الحزب، الذي بات يعرف ان لا مجال لتغيير طبيعة التركيبة السكانية في سوريا، بدأ يقيم حسابات للمستقبل. هل يترك المصالحة مع اهل السنّة لروسيا وحدها التي دخلت في تحالف استراتيجي مع تركيا والتي تنسّق كلّ خطوة تقوم بها مع إسرائيل؟
من الطبيعي ان يستوعب “حزب الله” اخيرا ان الدخول في عداء مع الشعب السوري خطأ كبير يرتكبه. سيأتي يوم يهدّد فيه السوريون العاديون أي مكان يوجد فيه “حزب الله”. بل يمكن لهذا العداء ان يصبح عداء سوريا لشيعة لبنان الذين لا علاقة لاكثريتهم بالحرب التي يشنّها “حزب الله” على الشعب السوري. سيتبيّن مع مرور الوقت ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت ايران، عبر ادواتها اللبنانية، الى تنظيم مؤتمر في بيروت من اجل إعادة اهل القصير الى ارضهم من منطلق ان خطر “داعش” و”التكفيريين” قد زال. هل زال الخطر فعلا بقدرة قادر بين ليلة وضحاها؟
هناك حدث غريب آخر شهدته سوريا في الفترة الماضية. ملأت الدنيا اشاعات عن مرض رئيس النظام بشّار الأسد ونقله الى مستشفى لمعالجته من “جلطة”. بقيت هذه الاشاعات مجرّد اشاعات اطلقتها أجهزة روسية او غير روسية لغرض في نفس يعقوب. لكنّ الثابت ان شيئا ما تحقّق من خلف اطلاق الاشاعات المتعلّقة بمرض رئيس النظام السوري. ظهر جليّا ان لا اهتمام داخليا في سوريا بصحّة “الرئيس”. مرض ام لم يمرض. المواطن السوري في عالم آخر وآخر ما تهمّه الحال الصحّية لبشّار. لم يتأثر السوريون بالاشاعات ولم يبتهجوا عندما شاهدوا رئيس النظام يسعى الى تأكيد انّه في صحة جيدة. لم يوجد من يطلق سهما ناريا او رصاصة ابتهاج بظهور من يسمّى “الرئيس”. صار كلّ سوري يعرف ان البلد تحت استعمارين إيراني وروسي وانّ هناك مناطق نفوذ معترفا بها لتركيا وإسرائيل. صار السوري العادي يعرف انّ النظام اصبح من الماضي وان السؤال الحقيقي بالنسبة الى المستقبل هو ما الذي ستفعله الإدارة الاميركية وهل ستدخل في صفقة مع روسيا وما تأثير هذه الصفقة، في حال اتمامها على العلاقات بين موسكو وطهران.
بعد اقلّ من شهر، تمرّ ست سنوات على اندلاع الثورة الشعبية في سوريا. كلّ الأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية مخيفة، خصوصا الأرقام المتعلّقة بعدد القتلى والمهجّرين. الثابت الوحيد انّ هناك دولة ازيلت من خريطة الشرق الاوسط. فكلّ كلام عن بقاء سوريا موحّدة لم يعد له معنى. ستنشأ كيانات عدّة في سوريا. لا يمكن لتركيا التخلي عن منطقة تابعة لها في الشمال السوري، خصوصا بعد الحلف الاستراتيجي الذي اقامته مع روسيا. سمح هذا الحلف لفلاديمير بوتين بكسب معركة حلب بسهولة. يعرف الرئيس الروسي تماما ان ذلك لم يكن ممكنا من دون التواطؤ التركي.
اتاح هذا الحلف الاستراتيجي لبوتين تحسين مواقعه في سوريا. بعد معركة حلب، صار في استطاعته التفاوض مع دونالد ترامب من موقع مختلف. هذا يفسّر كلّ ذلك الاستعجال في انهاء كلّ موضوع حلب قبل نهاية العام 2016 وقبل دخول الرئيس الاميركي الجديد الى البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني ـ يناير الماضي.
في نهاية المطاف، ما الذي تريده روسيا في سوريا باستثناء السيطرة على الساحل لاسباب مرتبطة بانابيب الغاز الذي كان يمكن ان تصل اليه من الخليج؟ هل لدى روسيا نموذج ما تقدّمه لسوريا؟ ليس سرّا ان روسيا تعاني من ازمة اقتصادية عميقة وانّ فلاديمير بوتين يسعى بيديه ورجليه الى التخلّص من العقوبات الاميركية والدولية المفروضة على بلاده منذ احتلالها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام 2014. صحيح ان شبه الجزيرة تلك كانت أصلا ارضا روسية، لكنّ الصحيح أيضا انهّا أصبحت اوكرانية بعدما تخلّى خروشوف لاوكرانيا عندما اصبح امينا عاما للحزب الشيوعي السوفياتي خلفا لستالين في العام 1953.
ليس ما يدعو للغرق في تفاصيل الماضي، لكنّ الواقع يقول انّ بوتين على عجلة من امره بالنسبة الى التخلّص من العقوبات وعقد صفقة مع ترامب. انّه يعرف انّ ذلك ليس ممكنا من دون اخراج ايران من هذا البلد. كيف يوفق “القيصر” بين اميركا وايران؟ هل هذا ممكن عندما تكون هناك إدارة أميركية مستعدة لوضع “الحرس الثوري” الايراني على لائحة الارهاب؟
بعد ست سنوات على اندلاع الثورة السورية، ليست سوريا التي تغيّرت بل طبيعة الصراع على سوريا أيضا. معروف ماذا تريد تركيا ومعروف ماذا تريد إسرائيل. معروف ان هناك حلفا تركيا ـ روسيا في العمق وتفاهما روسيا تاما مع إسرائيل وان العلاقات التركية ـ الإسرائيلية عادت الى سابق عهدها بعد قطيعة استمرّت بضع سنوات.
ليست رغبة ايران في إعادة اهل القصير الى بلدتهم سوى تعبير عن عمق المأزق الايراني ووصول “الجمهورية الإسلامية” وادواتها الى طريق مسدود في سوريا.
في استطاعة ايران ان تشتري كلّ الأراضي التي تريد وان تهجّر مئات آلاف السوريين بهدف تغيير طبيعة دمشق ومحيطها في سياق عملية التدمير المنظّمة للمدن السورية الكبيرة. يبقى ان كلّ ذلك مجرّد اعمال إجرامية لا يمكن توظيفها سياسيا. فالدور الايراني في سوريا انتهى في اليوم الذي سقط فيه النظام الاقلّوي الجاثم على صدور السوريين منذ نصف قرن.
سقط النظام لحظة تحداه أطفال من درعا في مثل هذه الايّام قبل ست سنوات. سقط قبل ذلك، عندما اضطر الى التواطؤ في مثل هذه الايّام ايضا من العام 2005 في جريمة اغتيال رفيق الحريري معتقدا ان ذلك سيبقيه في لبنان بمجرّد تمديد ولاية رئيس للجمهورية كان اسمه اميل لحّود رغم صدور قرار عن مجلس الامن يرفض ذلك بوضوح ليس بعده وضوح…