منذ نشوء الهند ككيان مستقل وضعت حكومتها على رأس أهدافها محاربة الأمية على اعتبار أنها أم المشاكل، فهي التي تولد البطالة والفقر والجريمة والاحباط وتجاوز القانون. ورغم كل الصعوبات التي واجهتها في تحقيق هذا الهدف بسبب اتساع رقعة البلاد وضخامة عدد السكان وتنوع ثقافاتهم ولغاتهم فإنها استطاعت أن تتقدم بخطى ثابتة نحو الأمام، من خلال سن قوانين تفرض التعليم الاجباري حتى سن الرابعة عشرة؛ ونشر الوعي بأهمية التعليم كوسيلة لتحقيق مستويات معيشية أفضل؛ واستقطاع نسب معتبرة من الميزانية العامة من أجل الإنفاق على التعليم. وبموازاة ذلك راحت الحكومة تحث الأثرياء على مد يد العون للدولة في خططها التعليمية، وتحث المواطنين المتعلمين أيضا على التطوع في حملات نشر التعليم ومحو الأمية في أرجاء البلاد.
وكان من نتائج جهود اشراك المواطنين والمنظمات الأهلية في هذه العملية ظهور مبادرات تعليمية غير تقليدية مثل “برنامج الهند تقرأ” الذي انطلق من مدينة بومباي واستهدف الوصول إلى أكبر عدد من الأطفال الهنود في المناطق النائية والفقيرة لضمان حصولهم على حقهم في التعليم الأولي على الأقل، بل عملت المبادرة على أن يكمل كل طفل برنامج القراءة والكتابة خلال 50 يوماً. وكان من أسباب نجاح المبادرة ووصولها إلى نحو 35 مليون طفل في 20 ولاية هندية مختلفة، وضع أهداف مرحلية سهلة التحقيق؛ واستثمار جهود الشباب المتعلم من خلال التواصل المباشر معهم؛ وترغيبهم أولا في محو أمية أطفال بلداتهم وقراهم.
ومن جانب آخر ظهرت مبادرات تركز على محو أمية الأمهات والجدات من خلال مدارس قروية يذهبن إليها يوميا بعد انتهائهن من أعمالهن المنزلية أو واجباتهن اليومية في الحقول الزراعية، حيث يؤدين الصلاة ثم يشرعن بحماس في تعلم الكتابة والقراءة والحساب على أيدي نساء متطوعات.
وهكذا فإن نسبة الأمية التي كانت تصل في السبعينات إلى اكثر من 66 بالمائة انخفضت في عام 2011 مثلا إلى 25 بالمائة، وهذا دليل قوي على ما حققته الهند على صعيد محو امية مواطنيها، في الوقت الذي فشلت فيه بلاد أصغر مساحة وأقل سكانا وأكثر موارد واخف تعقيدا جهويا في تحقيق إنجاز مماثل. غير أن منظمة اليونيسكو قالت في تقرير لها في عام 2014 أن الهند هي الأعلى عالميا في نسبة الأمية، مضيفة أن عدد مواطنيها الأميين يبلغ 286 مليون نسمة! هنا يجب الحذر من الوقوع في اللبس. فالتقرير يستخدم الرقم المطلق الذي، رغم ضخامته، يبدو متواضعا بالنسبة لعدد سكان الهند البالغ تعداده نحو 1.25 مليار نسمة، ولا يمثل سوى أقل من 25 بالمئة.
وبطبيعة الحال فإن نسبة من يقرأون ويكتبون من الهنود تختلف من ولاية إلى أخرى، ما بين عالية ومتوسطة وقليلة. فمثلا احتفلت ولاية “كيرالا” الجنوبية قبل سنوات قليلة بمحو أمية آخر مواطن من مواطنيها البالغ تعدادهم 30 مليون نسمة. وهذا في الحقيقة أمر لم يتحقق من قبل في أي ولاية هندية أخرى. وقد يُعزى سبب نجاح”كيرالا” إلى عوامل مثل عدد سكانها القليل نسبيا؛ وهيمنة الحزب الشيوعي على حكومتها المحلية لأكثر من ربع قرن وبالتالي إيلاء الحزب كعادته اهتماما خاصا بتعليم المواطنين من أجل خلق كوادر متعلمة له؛ والتركيز على تعليم الفتيات والنساء إنطلاقا من مفهوم مفاده “أنك إذا علمت رجلا فإنك تعلم فردا واحدا، لكن إذا علمت إمرأة فإنك تعلم عائلة بأكملها”؛ ووجود مدارس الإرساليات الأجنبية في مدن الولاية منذ القدم.
وفي هذا السياق يذكر أن أبناء”كيرالا” شغوفون بالتعلم ومن ثمّ نقل ما تعلموه إلى ذويهم، بدليل أن شواطيء الولاية عادة ما تكتظ بالصغار، ليس من أجل السباحة أو اللهو أو استخدام رمالها لبناء القلاع، وإنما من أجل حضور حلقات لتدريس الكتابة والخط على الرمال.
إن ما تحقق في”كيرالا”، التي تعتبر واحدة من أفقر الولايات الهندية، شيء رائع ودرس في كيفية خلق رأس مال بشري في ظل موارد محدودة.
بعيدا عن الأمية ومعالجتها، لكن في سياق الحديث عن العملية التربوية في الهند، لابد من الإشارة إلى أن الهند قد حققت في العقود السبعة الماضية انجازات مشهودة. فقد حافظت على ما خلفه المستعمر البريطاني وراءه من جامعات ومعاهد وكليات (مثل الكلية الهندية في كلكتا التي تأسست في 1817، ومؤسسة فيسمتون التعليمية في بومباي التي تأسست في 1834، وجامعات كلكتا وشيناي وبومباي التي انشأت بالتزامن في 1857) ومدارس تبشيرية ونظم تربوية ومناهج صارمة، ولم تقم باجتثاثها بحجة قطع الصلة بالماضي الإستعماري كما فعل العديد من الأنظمة الثورية. ثم انطلقت من هذه القواعد التعليمية الصلبة لتضيف مئات الجامعات والكليات التقنية المتنوعة والمعاهد المتخصصة في طول البلاد وعرضها من تلك القادرة على تأهيل وتخريج ملايين الطلبة سنويا في مختلف التخصصات (منها 4338 كلية للهندسة والتكنولوجيا). وهكذا، صارت الهند اليوم صاحبة ثاني أكبر شبكة تعليم في العالم، وصارت عشر من جامعاتها ضمن قائمة أفضل مائة جامعة في العالم، وصارت تملك كتلة من الحرفيين المدربين من خريجي المدارس الفنية في حدود مائة مليون نسمة.
ومما لا شك فيه أن هذه الانجازات انعكست بصورة ايجابية على الإقتصاد الوطني، بمعنى أنها خدمت الشركات الوطنية العاملة في قطاعات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والتصدير والاتصالات والفضاء والدفاع، وبالتالي ساهمت في الارتقاء بالبلاد ووضعها على دروب التقدم.
Elmadani@batelco.com.bh
*استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين