في الصومال، الحرب الاهلية هي النظام الآن، وحتى تترسّخ سلطة رئيسها الجديد، شيخ شريف شيخ احمد، المنتخَب منذ ايام. مضت 18 عاما من الحرب الاهلية بعد سقوط رئيسها سياد بري عام 1991 على يد امراء حرب من ميليشيات وقبائل، تخلّلتها محاولات دولية واقليمية ومحلية لإعادة شيء من القانون اليها. ولكنها انتهت كلها بعودة التنازع. شواطىء الصومال الفريدة، بامتدادها 3300 كلم، تشهد اثناء هذه الحرب حركة صيادين ضد السفن التجارية الكبيرة والصغيرة التي تنهب مياهها الغنية بسمكة التونة. وايضا ضد السفن الآتية لرمي نفايات نووية في عرض هذه الشواطىء نفسها. وهذه قضية، في بدايتها، محقة، لا تستطيع إدانتها: أناس يدافعون عن الثروات الطبيعية لبلادهم، عن نظافة شواطئها، وعن لقمة عيشهم، وذلك بالمواجهة المباشرة. فهذه الشواطى الطويلة مستباحة لأن لا دولة تحميها ولا قانون يردع من نهب خيراتها؛ وهي تنظم وتقنّن عملية استثمار ثرواتها الطبيعية.
وكما يحصل في حالات مماثلة، تنحرف حركة الصيادين الفقراء عن هدفها الاول، ويتلقّفها «شجعان» من ابناء الوطن الواحد، فيفرضون الأتاوات والرسوم على الاساطيل التجارية الكبرى. ولا تلبث الامور ان تتطور فتنتظم الحركة وتتقدم، لتتحول الى قرصنة بحرية بالمعنى الذي نعرفه في افلام السينما: يهاجم ابطالها السفن المارة في «مياههم»، يحتجزون بضائعها وبحاريها وطواقمها رهائن. ويشترطون لإطلاق أسراهم فدية مالية ضخمة. وفي سياق القرصنة نفسها، يتم تهريب الافراد والسلاح مما هو مجهول الى جهات مجهولة…
إذاً، من حركة صيادين شجعان الى عصابات مسلحة بالاسلحة الاتوماتيكية والصواريخ؛ ومرتبطة بزعماء العشائر والميليشيات، في العمق «الداخلي». 1100 رجل موزعون على اربع مجموعات، يختلط بداخلها صيادون ورجال خفر سواحل ومسؤولون امنيون يؤدون المهمات «العملانية»، ثم رجال ميليشيا او قبائل يديرون الأمور ويغطّون… ويتقاتلون، اذ لا يخلو هذا «التحالف» العريض من صراعات داخلية كلها تدور حول «الارباح». واحدة من معارك هذا الصراع ادت الى مقتل احد كبار رجالات القرصنة، بير عبدي. وكان عند رحيله من اكبر الاثرياء في بلاده.
المعلومات قليلة عن عمليات القرصنة. لكنْ أُحصيت عام 2004 عشر هجمات على سفن. وعام 2007 حصل 25 هجوما. وعام 2008 حصل 95 هجوما. وبلغت الفِدى في هذه السنة الاخيرة 30 مليون دولار. هل نحتاج الى تكرار آثار القرصنة الخطيرة، من مدّ الحرب الاهلية بل تأسيسها على مصالح القراصنة وحماتهم والمتنعّمين بـ»خيراتهم»، ومن تعريض حيوات البحارين واطقم السفن للخطر، ومن عرقلة المساعدات الانسانية والاغاثية لللاجئين الصوماليين، ومن ارتفاع اسعار البضائع التي تعرّضت لابتزازت القراصنة، وارتفاع مبالغ التأمين على السفن وبضائعها، وعزوف العديد من السفن عن المرور بقناة السويس، لأنها تمر بالضرورة في المياه المقرْصنة (يقال ان 15 مليون دولار تقدير الخسارة السنوية للقناة جراء القرصنة). العالم كله متضرر من القرصنة الصومالية. مؤتمرات دولية واقليمية، وآخر يعقد اليوم في كينيا. ثم قرارات للامم المتحدة تجيز دخول السفن البحرية الى المياه الاقليمية لحماية السفن الاخرى التجارية الخ.
المهم: انه وضع يجرّ الصومال الى مزيد من الفوضى والحرب وتدخل الجميع فيه. وهذا فقط لأن الصومال من غير دولة ولا قانون.
ماذا يجد، ازاء هذه الظاهرة، الرئيس الجديد للاتحاد الافريقي؟ «ملك ملوك افرقيا»؟ صاحب الفاتح من سبتمبر، العقيد معمر القذافي؟ ماذا يجد افضل من القول بأن «القرصنة نوع من التصدي للأمم الغربية الجشعة»؟ وبأن هذه ليست بالقرصنة، وانما «دفاع عن النفس، دفاع عن لقمة عيش الاطفال الصوماليين»؟. هل تحصل على افضل من هذه الاقوال قرصنة مجموعات ميليشياوية لسفن العالم؟
طبعا، لا يصعب دحض هذه الاقوال، جملة وتفصيلا. لا بل يمكن الادعاء بأن «الجشع»، دون غيره من الرذائل الانسانية، هو الذي يعطي لعمل القرصنة اندفاعته وديناميكيته. شبكة من رجال امن وفساد وقوة وعزوة، تأسست مصالحها وارباحها الطائلة على انقاض الدولة والقانون. وقد بدا للوهلة الاولى، في اللحظات الاولى، انها كانت على طريقة روبن هود، تسرق لقمة الغني لتعطيها للفقير… ثم تحول أصحابها مع الفوضى العارمة والحرب الى رهط من الحرامية والزعران والناكرين لقيمة حياة الانسان ومصالحه. اما النزاعات المستدامة بين مجموعات هذا التحالف، فلا تفصح عن جشعهم فحسب، بل عن عدم تقنين هذا التحالف بقانون ينظم العلاقة بين افراده، اللهم ما خلا قوانين ميزان القوى المباشر على ارض، المتقلّب دائما بسبب الحرب الاهلية نفسها.
اما ان يكون ما يتصدى له هؤلاء «الشجعان» هو الامم الغربية، فلا يقوى امام الوقائع نفسها. السفن ضحية القرصنة وابتزازها المالي لكل جنسيات العالم، والعربية خصوصا. آخرها سفينة مصرية يستغيث طاقمها وبحارتها يوميا لإنقاذهم من هؤلاء الذين يتصرفون باجرام صريح. هذا لكي لا نقول ان السفن التي دأبت على نهب التونة الصومالية كانت سفنا «شرقية»، هندية ويابانية. لا اميركية ولا اسرائيلية.
لكن الاهم من ذلك: الفكرة الخلفية الرابضة وراء هكذا اقوال. كيف يفكر القذافي بالسياسة؟ واضح ان في «مخيلته» السياسية لا وجود لدولة ولا لقانون ولا مؤسسات. فهو حكم عقودا من الزمن من دون الحاجة اليها؛ اللهم تلك «اللجان الجماهيرية» ذات «الديموقراطية المباشرة» التي لم تفعل سوى افتداء روحها ودمها من اجله. وان لا يكون للصومال رئيس، فهذه فرصة يجب ان لا يفوتها بمساندته طرفا او اطرافا من الميليشيات المتحاربة، باسم محاربة المشروع الاميركي والصهيونية العالمية؛ تماما كما فعل في الحرب الاهلية اللبنانية، حيث كانت له جماعاته الممولة تمويلا رغيدا. وقضيته، اذا جاز استنباطها، هي الحث على استخدام القوة العارية؛ ومن ثم تركيب حق من الحقوق المشروعة على معناها. وحق محاربة الغرب هو في أبهى عصوره الآن… لعلّه بذلك يكسب موطئا لـ»قضيته». «رقم صعب» آخر.
انها الصبيانية السياسية بعينها. الوجه الآخر للفيروس العربي، للاستثناء العربي. فيروس نقصان الدولة ونقصان القانون باسم قضية عادلة مشوّهة. فيروس الفوضى الذهنية والمعيارية؛ قبل فيروس القمع والتسلط والاستبداد. هل كانت افريقيا تستأهل هكذا رئيس؟ افريقيا المنسية والنازفة، الرازحة تحت نير الذين حرّروها من الاستعمار الاوروبي؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة