إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
إلى جانب الفوضى المعتادة التي تُسبِّبَها الحروب، أيقظت الأحداث الأخيرة في لبنان شياطين قديمة!
فمنذ عام 1948، وقيام دولة إسرائيل ونزوح الفلسطينيين إلى لبنان ما زالت هذه الأحداث تطارد البلاد. في البداية، أظهر اللبنانيون من جميع الطوائف حسًا إنسانيًا استثنائيًا في الترحيب باللاجئين وتأمين الملاجئ لهم والاهتمام باحتياجاتهم. ثم بدأ الأمر يتغير إلى الأسوأ.
ُابتداءً من الثورة المصرية (أو الإنقلاب العسكري)، في عهد “عبد الناصر”، ارتفع الخطاب المعادي للاستعمار و ضد الإمبرياليين والغربيين وأذنابهم في المنطقة، كما كان ينظر إليهم عبد الناصر، أي “الصهاينة” (والواقع أنهم كانوا “يهوداً” ببساطة). فُتن الكثير من اللبنانيين بخطابات عبد الناصر القومية. لقد سحرهم هذا الإحياء للعروبة دون أي تلميحٍ للدين أو الطائفية. وبالعكس، حارب عبد الناصر، الذي تبنى شكلاً عصريًا من العروبة، “الإخوان المسلمين” و”حجاب المرأة”.
في وقت لاحق من عام 1958، تُرجمت هذه الحركة الناصرية في لبنان، ولكن ليس بمصطلحات “علمانية”. فقد حَوّلت الجماعات ذات الغالبية المسلمة هذا النضال إلى حركة مناهضة لـ”المؤسسة” (أي بتعبير آخر معادية للطبقة المسيحية الحاكمة)، إذ بات لبنان نفسه يُصوَّر الآن على أنه من صنع “الإمبريالية الغربية” (بعد “اتفاقية سايكس بيكو”)، وكأن “سوريا والأردن وبقية دول المنطقة ليست كذلك! إلا أن المؤسسة اللبنانية كان لديها “رقاقة أخرى في درعها، حيث كان يهيمن عليها السياسيون المسيحيون منذ عام 1943. لذا، بدأت تلك الحركة “القومية” بإظهار وجهها الطائفي القبيح في عام 1958، ولاحقًا في عام 1969، وبلغت ذروتها في الحرب الأهلية التي بدأت في عام 1975.
من دون محاولة رسم أوجه شبهٍ لا لزوم لها، لم تستوعب الجماهير العربية قط (أو لم تَهضِم) قيامَ دولتين في الشرق الأوسط، إسرائيل ولبنان، يحكُمهُما غيرُ المسلمين!
وبالعودة إلى المنطقة بعد عام 1967، فقد أدت الهزيمة الكاملة للجيوش العربية في ساحات القتال إلى زيادة النشاط الفدائي الفلسطيني. وكان على لبنان، البلد الأكثر ضعفًا عضوياً في بلاد الشام (مرة أخرى بسبب المسيحيين في الحكم)، أن يتحمل هذا العبء وحده. هكذا وُجدت “فتح لاند” والباقي من التاريخ.
مع مرور الوقت، ولإخفاء هزائمهم المتتالية والمستمرة على يد عدو مُتفوق تكنولوجيًا، استُخدِمَ “الإسلام” -بدلاً من “العروبة”-ابتداءً من عام 1982- باعتباره القوة الوحيدة المتبقية ضد إسرائيل، “الدولة اليهودية”.
حجة جذابة: “الله ضد الكفار”، كيف يمكن للمرء أن يخطئ؟
إذًا، كان إنشاء إسرائيل وبالتالي تهجير الفلسطينيين سببًا متكررًا للتوترات الداخلية والصراع بين الطوائف الدينية في لبنان. حدث ذلك في أعوام 1958 و1967 و1969 و1975 و1996 و2006 والآن في عام 2024.
وقد أعادت الحرب الدائرة اليوم بين إسرائيل وحزب الله الانقسامات الطائفية مرة أخرى وبقوة.
كم مرة يجب أن يسمح المرء لصائب سلام بالوقوف إلى جانب عبد الناصر، ولكمال جنبلاط بالوقوف إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وللمؤسسة الإسلامية بالوقوف إلى جانب حافظ الأسد، وللطائفة الشيعية بالوقوف إلى جانب إيران، فقط لزعزعة استقرار لبنان وفسيفسائه الدينية الهشة، تحت ذريعة تحرير فلسطين؟ بينما هم، في الحقيقة، يريدون استعادةَ البلد وعزلَ المسيحيين في دورٍ بعيدٍ عن القرار الوطني و السلطة الحقيقية؟
عندما ينادي البعض بالفيدرالية، وأنا واحد منهم، فذلك ليس بدافع الانحياز الديني، أو العاطفة الطائفية، أو رفض الآخر. بل بدافع الشعور بالأمن والأمان على شخصي وعائلتي وممتلكاتي الخاصة وحرية التعبير ونعم، بدافِع الدفاع عن بلدي الواحد الموحد!
إن تركيب نظام مكابح أو أحزمة أمان في السيارة لا يحرم السيارة من مظهرها أو قوتها الحِصانية. بل إنه يجعلها أكثر أماناً، خاصةً إذا كان أحد السائقين قد أثبت تهَوُّرَهُ وتَعرُّضَه للحوادث على مدى 66 عاما الماضية.!