الفنُّ في كلّ ألوانهِ وتنوّعاتهِ وأشكاله وأجناسه ومشهديّاتهِ، خليط باهر ومزيجٌ بديع من المتعةِ والشّعور والإحساس والذكاء والإبداع والعاطفة والشّغف والحبّ والشهوة. ولذلك، لَطالما كان الفنُّ يتصدَّر مسرح الحياةِ، مُتوّجاً بالاستمراريّة، ومفعماً بالتّدفقات، وصفته الدائمة الحركة والإنسياب واللمعان، وكلّ ذلك لأنّه يتأسَّس على المتعة، ويبعثُ على المتعة، ويجلبُ المتعة، وفي وجودهِ متعة..
وحينما تنظر إلى لوحةٍ ما، على سبيل المثال، لا تفكّر في بادىء الأمر إلاّ بالتمتّع بما تفضي إليه اللوحة. إنّها في الوهلة الأولى تشدُّكَ إلى تفاصيلها الممتعة، وإلى متعتها، التي تتحسَّسها عميقاً في عينك الباصرة والذائقة، وفي روحكَ التّواقة للجمال، وفي تذوّقك الخلاّق. إنّها تمنحكَ متعةً الانتشاء والاشتهاء البصريّ والروحيّ والحسَّيّ، ومتعة البقاء على قيد التأمّل والالهام والتّذوّقِ..
ألسنا نردِّد دائماً، إنّنا قد أحببنا هذه الموسيقى، أو تلك المعزوفة، أو ذلك الشّعر، أو تلك المسرحيّة، أو ذلكَ النحت، أو تلك اللوحة، أو هذا العرض الفنّي، أو هذه التحفة السرديّة ؟ أليس في كلّ هذا الحبّ، متعة عاشقة، ومتعةٌ قد لا نعرفُ كيف استطاعتْ أنْ تستحوذ علينا بالكامل ؟ وأليسَ في هذا الحبّ، حبٌّ شغوف للمتعة ؟ فليسَ باستطاعة أيّ شيءٍ أنْ يأخذكَ إلى معارج الحبّ، إلاّ إذا كانَ مترعاً بالمتعة واللذة والاشتهاء. إنّه الفنّ يقدر أنْ يضعكَ في أولّ الحبّ وفي منتصفه، ويسير بكَ إلى ما لا ينتهي من الحبّ، ويستطيع أيضاً أنْ يلهمكَ، كيف يجب أنْ تحبَّه وتستمتع به، وكيف لا تستطيع الاستغناء عنه. ألسنا نجد متعةً فائقة في التعالق الحميميّ مع ما نحبُّ من الفنون في كلّ وقت، لأنّها تمنحنا لذة التواصل مع الحياة، من خلال مقطوعةٍ موسيقيّة، أو مقطع شعريّ، أو رسمة معلّقة هنا أو هناك، أو مشهدٍ بصريّ باهر..
والمجتمعات التي تتمتّع بمناخٍ فنّيّ زاخر في شتّى صنوف الفنّ، نجدها مجتمعات مفعمة بالذوق والتهذيب والرقيّ والحبّ والنشوة والإنسانيّة. إنّها مجتمعاتٌ تجد أنّ أصل الحياة هي المتعة، ومن غير المتعة لا قيمة للحياة، ومن دون المتعة لا يمكن أنْ تتقدَّم في الحياة، لأنّها تصبح قاتمة، وهادمة وجامدة للحسّ والشعور والتأمّل والذوق. وغير ذلك نجد أنّ هذه المجتمعات، بعد أن تكتفي بالمتعة من خلال الفنون، تصبح مدركة تماماً لاستقبال الحياة الفكريّة والمعرفيّة، وشغوفةٌ بها في الوقتِ ذاته، وتتّجه مباشرة بعد أنْ تشبّعت بالفنون، إلى التحصَّن بالفكر والثقافة والمعرفة، لأنها تدركُ جيّداً أنّ حرّيّتها تكمن أولاً في أنْ تجِدَ المتعة فيما تريد، والمتعة هي الباب الذي تخرجُ منه على رحابة الفكر والمعرفة، وبذلك استوعبتْ هذه المجتمعات عميقاً، إنّها لا يمكن لها أن تتزوّد بِالتنوير الفكريّ والمعرفيّ، وتتخلّق به، وهي مقيّدة في حرّيّة المتعة، ومقيّدة في التمتّع بالفنون. إنّها الفنون التي تجعل من هذه المجتمعات، كياناتٌ دافقة بالحياة، مستمتعة بِالمتعة، متذوقة للجمال والألق والسحر والإبداع، وشغوفة بالآفاق المشعّة بالفنون، ولذلكَ نجدها مجتمعات تملكُ قابلية عظيمة في التنوّر الفنّي والفكريّ والمعرفيّ والأدبيّ والفلسفيّ..
والفنُّ عموماً يتقنُ تماماً صناعة اللحظة، اللحظة التي تشعر معها بأنّك في تفاصيلها مستمتعاً ومتذوّقاً ومستلهماً. وهيَ اللحظة التي تريدكَ أنْ تعيشَ زمنكَ الحاضر بِكلّ تجلّياته وانهماره وتدفّقاته، وهنا تكمن متعة الفنّ، المتعة التي تضعكَ شغوفاً في تفاصيل اللحظة، وفي تخلّقاتها الملهمة. ألسنا نحاولُ دائماً أنْ نستدعي من خلال الفنّ، تلك اللحظة التي تلهمنا شعوراً لذيذاً بِالحبّ والودّ والألفة والعاطفة، وتمنحنا احساساً متدفقاً بِالحياة، وتَهبنا سعادةً بما نشعر به، وبما نحن عليه من المتعة والاستمتاع. ولذلك عادةً ما نجد أنفسنا مغرمينَ دائماً بِالفنّ عموماً، لأنّه يحيل الحياةَ إلى لوحة وموسيقى وأنغام ومشاعر بصرية وأحاسيس سمعيّة ومشاهد مرئية وألوان زاهية، وعواطفَ جيّاشة، وإلى غير كلّ ذلك الكثير، ممّا يبعثُ فينا الأمل والحبّ والألق والجمال والفتنة والتذوّق والرهافة واللذة والتأمّل. والفنُّ ربما وحده الذي يتمتّع بتلكَ القدرة الخلاّقة، على تجاوز اللحظة، والبقاء في الأبديّة، لأنّه مسكونٌ بالعاطفة والأحاسيس والأحلام والمتعة، ولهذا لا تزال مقطوعات الموسيقيين الكِبار، واللوحات الفنيّة العظيمة، والأعمال الكتابيّة الباهرة، والميثيولوجيات الإنسانية، باقيَة إلى هذه اللحظة، ويتعلّق بها النّاس دائماً، هنا وهناك، ولا تزال تؤثر في عواطفهم وأحاسيسهم وأحلامهم، ولا تزال تُفعمهم بالمتعة والنشوة والتوّهج والتّذوق والحبّ..
وفي مقابل التنظيرات والنظريات والفلسفات والديانات، التي لا تنفكُّ تدعونا إلى فهم الحياة، ومعايشتها كما يجب. هناك دائماً الفنّ، إنّه الفنّ الذي يجعلنا نفهم الحياة، على طريقتهِ الخالية من منطق الفروضات والوصايات والأدلجة. فالفنّ الحقيقيّ لا يلزمكَ بفهمٍ محدَّدٍ للحياة، ولا يضعكَ تحت لونٍ واحد من الفهم، ولا يجبركَ على تفسيرٍ ثابت للحياة، ولا يرهنكَ في معتقدٍ شموليّ. إنّه عالمٌ شاسعٌ من الآفاق والألوان والتنوّعات والمستويات، يتخلّق فسيحاً في رحابةٍ من الحريّة الطليقة، إنّه يأخذكَ إلى عالمه، ولكنّه في الوقتِ ذاته، يترككَ حرّاً طليقاً، لا يضع أمامكَ أو خلفك حاجزاً أو سدَّاً. ولذلك مع الفن، نستطيع أنْ نفهم الحياةَ على طريقتنا التي أحبّبناها من خلاله، وعلى طريقتهِ المفعمة بالمتعة، والزاخرة بِالحريّةِ والرحابةِ والشّساعة. ومع الفنّ أيضاً تصبح الحياة ممتعة، وملهمة، وشهيّة، ومترعة بالتّفسيرات والتخلّقات والاشتهاءات والإبداعات. وكلّ أولئك الذين، يردّدون دائماً، بأنّ الحياة مع الفنّ تصبح، ممكنة، ومقبولة، ونستطيع أن نتعايش معها، والفنّ يجعل من الحياة، أقلّ كآبةً وضجراً. أولئك، أستطيع أنْ أصدَّقهم تماماً، وأجد أنّهم، صادقونَ كثيراً في كلامهم هذا، لأنّهم وجدوا في الفنّ ملاذهم ومهربهم الجميل والخلاّق والممتع، ووجدوا فيه فلسفتهم وطريقتهم الخاصَّة، وأسلوبهم المحبّب والمميّز..
والفنُّ وحده، ربما، يستطيع أنْ يضعكَ في أعماق نبضك سعيداً ومبدعاً ومتفنّناً وعاشقاً. إنّه يجعلكَ تتحسَّس بِرهافة جمال الإيقاع في نبضك، من خلال تجلّياتهِ الفنيّة الساحرة الملهمة، حيث متعة الحياة تكمنُ في احساس نبضك وإيقاعه الخلاّق، ومن خلالهِ، ومعه تصبح الحياة قائمة وناطقة ودافقة في أعماقك. إنّه يُحيل الأشياءَ من حولكَ إلى متعةٍ، وإلى نبضٍ وإيقاعٍ وحركة، ويُحيلها إلى أحاسيس ومشاعر وعواطف، نابضة بالمتعة والنشوة والتّذوق، وبارقة بِالتّبصّر والتأمّل. إنّه يستطيع بِكلّ اقتدار، أنْ يُخبرنا بِشفافيّة ناصعة عن مدى أهمّيته وروعتهُ، في أنْ يكونَ متعالقاً مع المتعة والألق والجمال والإبداع، في أعماقنا، وفي شعورنا ومشاعرنا..
وأولئكَ الذين يصنعونَ الفنَّ، بكلّ تجلّياته وألوانه، ويقدّمونه للنّاس هنا وهناك، إنّهم يمنحوننا القدرةَ على امتلاك الحلم والمتعة، وليسَ أجمل من أنْ يحيا الإنسان حياته بِالمتعة، ويحياها أيضاً مدفوعاً بالأحلام. فمع المتعة والأحلام تغدو الحياة ملهمة ودافعة، ومترعة بالأشواق والتفنّنات والتجلّيات والإبداعات والإلهامات. فمَن يُقدّم لكَ الفنّ بكلّ صنوفه، يكونُ قد قدَّم لكَ المتعة والحلم، وبهما تصنعُ واقعكَ الذي يبعثكَ توَّاقاً للمتعة. المتعة التي تجعلكَ متذوّقاً للحظتكَ الطافحة بِجماليّات الإحاسيس والمشاعر والعاطفة، ولا تخلو هذه المتعة من صخب الإبداع وجنون الحبّ، لأنّها متعة النبض في إيقاعات الحركةِ والانسياب والتألق والتخلّق والشغف. وهو الفنّ الذي يجعلك عاشقاً للحلم، الحلم الذي تستطيع معه وبه، أنْ تكونَ قادراً على استئناف حياتكَ في كلّ مرةٍ، بِكامل الشغف والحبّ والشّوق، لِصناعة حلمٍ آخر، أكثر توهَّجاً وسطوعاً من سابقه، إنّه حلمكَ الذي يرافقكَ أبداً، ومعه لن تتخلّى عن ما وجدتَّ نفسك فيه، من إبداعٍ وجمال وحريّة..
وأنْ نكونَ في حضرة الفنّ، هو ما يعني بالتأكيد إنّنا في حضرة المتعة. وأحسبُ دائماً إنّنا في رفقتهِ، ندرّبُ حواسنا على التذوّق والاحساس والفرح والحبّ أيضاً، إنّه يعلّمنا، هذا الفنّ، كيف يجب أنْ نستمتع بما يجلبه لنا من فرحٍ وسرورٍ ومتعة، ويعلّمنا أنْ نحبَّ أنفسنا بملء حواسنا ومشاعرنا، وبما في أذهاننا من متعة التأمّل ودهشة التّدفق ونزعة التحرَّر. فالفنُّ طريق الحبّ، ومعه يغدو الحبّ طريقاً حافلاً بِالتخلّقات والإبداعات والعطاءات والتجلّيات. إنّه يحرَّر الحبَّ من اختناقات الانغلاق والتحزّب والأدلجة والجمود، ويسير به إلى حيث الإنسان في تخلّقاتهِ وإبداعاته الطليقة والرحبة والفسيحة والحرَّة ..
ولا غرابة في أنّ الإنسان قد تعوّد منذ القدم، على أنْ يحيا دائماً في ما يجد فيه متعته وسعادته ولذته، وإلاّ أصبحت الحياة في عينيه قاتمة ومدلهمّة، ومسكونة بِالضّجر والملّل والكآبة. إنّه يريد أنْ يحيا مستمتعاً بما اختاره وأراده، وبما وجد في اختيارهِ من متعةٍ ولذةٍ وتذوّقٍ ونشوةٍ واحساسٍ ملهمٍ وخلاّق. ولذلكَ كانَ أنْ اختار الفنّ واخترعه في أشكالٍ وأنواع مختلفة ومتعدّدة، ووجد فيه طريقه نحو النجاةِ من التعاسة والكآبة والضيق والسأم، إنّه أصبح مع الفنّ يشعر بالحياة تتدفقُ في نبضهِ من خلال احساسه بمتعتهِ في الشعور والحلم والتأمّل والتذوّق، ويشعرُ بجمال الأشياء تنسابُ في عينيه الشغوفتين طبيعيّاً للمتعة البصريّة في تجلّيات اللون والشكل والحركة والضوء والبريق واللمعان واللقطة، ويشعر بمتعة الحياة تهطلُ في أذنيه العاشقتين دوماً للأصوات والإيقاعات والأنغام والأوتار، ولذلك ليسَ من المبالغة القول، بأنّ الإنسان وجد في الفنّ حاجته أكثر من المعرفة..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي