سالم جبران
الأقلية العربية الفلسطينية، داخل إسرائيل، عاشت منذ نكبة 1948 إلى ما بعد حرب حزيران 1967 في قطيعة كاملة عن العالم العربي. وعندما كنا نلتقي في مؤتمرات ومهرجانات دولية مع الأشقاء من العالم العربي كان الطائشون منهم- وهم الأكثرية- يرفضون التكلم معنا، وكان العاقلون الشرفاء بعيدو النظر، يلتقون معنا خفية!
إن السبق الوطني والثقافي والإعلامي الذي قام به الكاتب الشهيد غسان كنفاني بوضع كتاب عن “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” لم يتمكن أن يسقط نظام الجعجعة الكاذبة والمزايدة المأساوية علينا، كأنما نحن “خونة”، لأننا لم نترك أرضنا الوطنية ودورنا!
بعد ذلك حدث انعطاف تاريخي في منظمة التحرير وفصائلها الوطنية واليسارية، فتح، الحزب الشيوعي الفلسطيني، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية والأكثرية الساحقة من الفصائل الأخرى. وحتّى الفصائل التي كان لنا معها نقاش وكان لها معنا نقاش، كان مناضلوها يعانقوننا بحرارة، ليشموا من خلالنا رائحة التراب الوطني.
اليوم، سقطت كثير من الحساسيات. والأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل وصل تعدادها إلى مليون وربع المليون، يعيشون في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية. وعبرنا حاجز الخوف، وأسقطنا الحكم العسكري وأنجزنا إنجازاً تعليمياً وعلمياً. فعندنا الإنتلغنسيا العصرية والعمال المهرة وشعبنا يموج حيوية ونشاطاً، على الرغم من كل التعقيدات والصعوبات.
ولكن هناك نقاش أساسي جداً كان ولا يزال مطروحاً على الساحة. هل عندنا ظروف خاصة بنا أم لا؟ هل يجوز أن يسعى أحد ليفرض علينا استراتيجيته وأدواته النضالية؟
كانت حركة “فتح” برئاسة القائد المؤسس ياسر عرفات عقلانية وواقعية إلى أقصى الحدود. وقد قال لنا عرفات مراراً: “أنتم تضعون تكتيتكم النضالي داخل إسرائيل، طبقاً لظروفكم. لا نطلب منكم شيئاً، بقاؤكم هو مكسب، تجذركم هو مكسب، ونضالكم للتأثير على المجتمع اليهودي هو مكسب متفرد أنتم فقط بإمكانكم أن تقوموا به”.
لم يكن أبو عمار وحيداً في هذا الموقف أو يحمله سرا، كان هذا نهج القيادة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية نتذكر بحب واعتزاز عشرات لقاءاتنا مع الرئيس محمود عباس (أبو مازن) والشهيد خليل الوزير والشهيد وماجد أبو شرار، وياسر عبد ربه ونايف حواتمة وعشرات القادة الشجعان والحكماء الآخرين كان نداؤهم- ووصيتهم، دائماً: تخندقوا في الأرض وأثِّروا على المجتمع الإسرائيلي.
للأسف. اختلطت الأوراق، في العقد الأخير، وصار هناك فلسطينيون وأنظمة عربية، يؤثرون على قوى داخل مجتمعنا الفلسطيني داخل إسرائيل باتجاهات غريبة عن نهجنا وغريبة عن استراتيجية منظمة التحرير. وهذا التوجه صار يُعَمِّق عزلتنا داخل إسرائيل ويشطب دورنا السياسي والاجتماعي والثقافي المؤثر على المجتمع اليهودي. صار البعض عندنا يظن أنه إذا تهرّب من انتماء المواطنة لإسرائيل يصير قومياً أكثر. ونقول لهؤلاء ما قاله لنا مرة الرئيس عرفات في تونس: “دوركم فريد لا يقوم به غيركم، وواجبكم، لمصلحتكم ولمصلحة الشعب الفلسطيني كله أن تختلطوا باليهود، أن تؤثروا عليهم، أن تقربوهم إليكم وتقتربوا منه، أن تجعلوهم يدركون أن الشعب الفلسطيني ليس قاتلاً بل هو رافض أن يُقْتل، لا ينكر الحياة على أحد بل يريد لنفسه الحياة الحرة المستقلة، كالآخرين”.
إن مَن يعتقد أن الوطنية تتناقض أو تتصارع مع الإنسانية يشوِّه الوطنية ويدفعها إلى الفشل، بينما الوطنية الإنسانية- الديمقراطية، التي تخاطب العالم حضارياً هي هي التي تحقق الإنجازات وتحقق الخلاص الوطني.
كل هذا الكلام يقودنا إلى قول الحقيقة، بأقصى ما يمكن من الوضوح: نريد حلاً للنزاع القومي الفلسطيني- اليهودي كما اقترحه الرئيس عرفات، سلام الشجعان ودولتان لشعبين، فلسطين وإسرائيل وكنس الاحتلال وبناء المستقبل الفلسطيني الحر. والمقطع الهام من الشعب الفلسطيني الذي لم يترك وطنه وصار في الظروف الجديدة مواطنين في دولة إسرائيل، دوره المنفرد أن يصارع كل ظلم أو تمييز أو مصادرة أراضٍ ودوره أن يحاور اليهود ويقيم أوسع تعاون مع القوى العقلانية واللبرالية والمحبة للسلام والرافضة للاحتلال، بين المجتمع اليهودي.
هل نكون أبطالاً إذا دفعنا كل اليهود، في البرلمان وفي الأحزاب وفي المجتمع إلى أن يتحدوا ضدنا؟ أم نكون أبطالاً إذا أقمنا حوارات وتحالفات ونضال مشترك مع أنصار السلام، أنصار حرية الشعب الفلسطيني؟
لذلك نقول إن أعضاء الكنيست العرب وشريحة المثقفين الفلسطينيين الممتازين في الجامعات والأدباء والصحفيين العرب داخل إسرائيل ورجال الدين المسلمين والمسيحيين والدروز داخل إسرائيل يخدمون مجتمعنا العربي داخل إسرائيل ويخدمون الشعب الفلسطيني ويخدمون قضية السلام الفلسطيني-الإسرائيلي. إذا تحرروا تماماً من المزايدات والجعجعات والمبالغات التي يحاول البعض فرضها علينا.
هناك خصوصية موضوعية للفلسطينيين مواطني إسرائيل ومَن ينكرها أو يطالب بإلغائها يدعو إلى مغامرة مهلكة، وهذه الخصوصية لا تلغي انتماءنا- ذاكرة وروحاً ودماً وحلماً وانتماءً لشعبنا العربي الفلسطيني وأمتنا العربية.
خلال كل النزاع الفلسطيني –اليهودي والإسرائيلي العربي، كانت المزايدات المنقطعة عن الواقع وعن مناخ العصر مصدر كارثة متلاحقة ومتواصلة لشعبنا وقطّعت أوصاله ومزقته، وجعلت نصفه يعيش في مخيمات اللاجئين.
في فترة غير بعيدة كانت كل القيادات العربية الفلسطينية داخل إسرائيل تتماثل وتتضامن مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ونهجها الثوري –الواقعي. إذا كان البعض الآن، يريد أن “يغيِّر” وأن يتماثل مع نهج “حماس” فهذا شأنه.
إن شعبنا الباقي في أرضه، فوق وطنه، متمسك اليوم أكثر من السابق، بالنهج المسؤول والوطني والإنساني الذي يقود سفينته، وسط العواصف، الرئيس محمود عباس(أبو مازن) وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. إن مَن يتوهم أن بالإمكان شطب التجربة التاريخية لشعبنا والانعطاف التاريخي لمنظمة التحرير، يدعو شعبنا إلى الانتحار السياسي، وشعبنا يريد الحرية والاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل.
كل الأوهام القومجية في الماضي قادت إلى الكوارث ولذلك من حقنا أن نتمسك بالثورية –الواقعية وبالوطنية التي تقود إلى النصر لا إلى القبر!!
salim_jubran@yahoo.com
* شاعر ومفكر فلسطيني يعيش في الناصرة