عانت الفلبين طويلاً من إرهاب جماعة «أبوسياف» التي تأسست على يد منشقين عن «الجبهة الوطنية لتحرير مورو» ممن واصلوا القتال منذ 1991 بقيادة «عبدالرزاق جنجلاني» العائد من الجهاد في أفغانستان، وذلك بهدف إقامة دولة إسلامية مستقلة في جزيرة مندناو الجنوبية (توازي كوريا الجنوبية مساحة ويقطنها 21 مليون نسمة). وعلى مدى عقود من القتال والمواجهات وسقوط الضحايا، ترسخت ثقافة الحرب في أقاليم الجنوب الفلبين وتحولت الأخيرة إلى مستودع للأسلحة والذخائر، وتدفق عليها الغرباء بهدف الجهاد ونصرة الإسلام كما يزعمون.
والمعروف أن «أبوسياف» خسرت الكثير من تعاطف مسلمي الفلبين ودول الجوار بسبب إقدامها على عمليات بربرية بحق أصحاب الديانات الأخرى ناهيك عن قيامها بقطع الطرق والاختطاف واحتجاز الرهائن وطلب مبالغ ضخمة مقابل الإفراج عنهم، إذ لجأت إلى مثل هذه الأعمال بعدما انقطع عنها الدعم المالي من تنظيم «القاعدة» الإرهابي الذي بايعت زعيمه أسامة بن لادن.
ومنذ منتصف عام 2016 بات واضحاً أن هناك انشقاقاً داخلياً على «أبوسياف»، حيث صعدت إلى الواجهة أسماء قيادية لم تكن معروفة من قبل مثل «إيسنيلون هابيلون» الشهير باسم «أبو عبد الله الفلبيني»، والأخوين عمر وعبدالله مواتي اللذين يتبنيان «السلفية الجهادية». أما أسباب الانشقاق فربما على خلفية الموقف من اتفاقية السلام التي وقعتها مانيلا مع «جبهة موري الإسلامية» عام 2014، علماً بأن الجبهة الأخيرة انشقت عن «جبهة تحرير مورو الوطنية» بقيادة نور ميسواري في 1996 لذات الأسباب. أو ربما كان الانشقاق على خلفية الموقف من تنظيم «داعش»، الذي قام «هابيلون» بمبايعة زعيمه أبي بكر البغدادي وتنصيب نفسه أميراً على «ولاية الفلبين»، وتبعه في ذلك «الأخوان مواتي»، وغيرهما لكن وسط منافسة شديدة على الزعامة.
مؤخراً حدث ما كان قد حذر منه الرئيس «رودريجو دوتيرتي» قبل أشهر من أنه لن يسمح بتحول جنوب الفلبين، حيث مسقط رأسه، إلى بؤرة لتجمع «الدواعش» في حالة هزيمتهم في العراق وسوريا، علماً أن سلفه «بنينو أكينو» اعتاد التقليل من وجود تهديد «داعشي» لبلاده، موضحاً أن المسألة تقتصر على مجموعة من المرتزقة يحاولون جذب أنظار «دواعش» الشرق الأوسط من أجل المال.
ففي 23 مايو المنصرم ثبتت خرافة نظرية «أكينو» وصواب تحذيرات خلفه، ففي هذا اليوم نجحت مجموعة مسلحة تضم ما بين 400 إلى 500 عنصر من رجال «هابيلون» و«الأخوين» مواتي، بالإضافة إلى مسلحين عرب وباكستانيين وشيشانيين وإندونيسيين وماليزيين من الاستيلاء على مدينة «ماراوي» ذي المائتي ألف نسمة عاصمة ولاية «ديل سور»، والسير في شوارعها بأسلحتهم وأعلامهم «الداعشية» السوداء قبل قيامهم بحرق بعض المباني الحكومية وإطلاق سراح المجرمين من السجون واحتجاز بعض الرهائن والقساوسة داخل إحدى الكنائس لاستخدامهم كدروع بشرية، بل وإعلانهم عن قيام أول إمارة إسلامية لهم في آسيا.
ولم يكن أمام الرئيس «دوتيرتي»، وهو الرجل الذي عرف منذ تسلمه السلطة بسياساته القائمة على استعمال القوة دون هوادة ضد كل الخارجين على القانون سواء أكانوا متشددين انفصاليين أو متاجرين بالمخدرات أو فاسدين ومرتشين ضمن أجهزة الدولة، خيار سوى فرض الأحكام العرفية في جنوب بلاده لمدة شهرين بهدف التعامل السريع والحازم مع هجمات المتطرفين والإرهابيين، بعيداً عن معايير حقوق الإنسان الغربية، تطبيقاً لما سجل عنه في نوفمبر 2016 حينما قال: «هؤلاء الرجال لا يملكون ذرة من حقوق الإنسان. صدقوني. أنا لن أسمح أن يذبح شعبي من أجل حقوق الإنسان.. هذا هراء».
وبموجب هذه الأحكام قام الجيش معززاً بفرق مكافحة الإرهاب الخاصة ومشاة البحرية والمروحيات المقاتلة بعمليات متتالية تمكن خلالها من قتل وأسر أعداد من الإرهابيين والمقاتلين في إقليم سولو الجنوبي والمناطق المجاورة، إضافة إلى تحرير مواقع وأجهزة حكومية حساسة تم الاستيلاء عليها، وفك أسر بعض الرهائن. ولا زالت المواجهات مستمرة حتى ساعة كتابة هذه السطور، الأمر الذي يبرهن على أن الجيش الفلبيني ومخابراته لم يحسنوا تقدير قوة ومخططات «دواعش» البلاد.
يمكن أن نستنتج مما حدث أن تنظيم «داعش» قد اتخذ قراراً باستثمار جنون جماعة «أبوسياف» وتوحشها وتطرفها وتعطشها للمال في عملية تأهيل ودعم الجماعة بالمال والرجال، لتكون منصة أو رأس حربة له من أجل التمدد في منطقة جنوب شرق آسيا.
وعلى الرغم من أن إمارة «داعش» الإسلامية المعلنة في ماندناو لن تعيش طويلاً بسبب إصرار الرئيس «دوترتي» على دفنها بأي ثمن ورفضه لأي حوار مع قادتها، فإن عدداً من المراقبين قرؤوا في هذا التطور الخطير نذير موجة من المشاكل الجديدة القادمة إلى المنطقة، إذ فسره بعضهم بأنه مؤشر لمرحلة ما بعد خروج «الدواعش» من العراق وسوريا ومناطق شرق أوسطية أخرى، بمعنى أن تنظيم «داعش» سوف يحتاج إلى مكان بديل لأنشطته الهدامة، ولا يوجد مكان يؤدي هذا الغرض أفضل من جنوب الفلبين لعدة أسباب منها أنها منطقة متمردة أصلاً وتسودها الفوضى، ومنها أن بها حواضن للجماعات الإسلاموية المتطرفة، ناهيك عن أنها مهيئة جغرافياً لاستقطاب ذوي الأفكار المتشددة من دول جنوب شرق آسيا المجاورة، خصوصاً إذا تذكرنا ما أقدم عليه بعض المتشددين الآسيويين المقاتلين ضمن ميليشيات «داعش» في العام الماضي حينما نشروا رسالة مصورة يطلبون فيها من مواطنيهم عدم القدوم إلى سوريا والذهاب بدلاً من ذلك إلى جنوب الفلبين للانضمام إلى «أبوسياف» أو مقاتلة حكومة مانيلا «الكافرة».