المخاض الأخير لإخراج سلسلة الرتب والرواتب الى حيز الوجود، كشف مرة جديدة أن أهل السلطة عندنا يواصلون التشاطر للبقاء على قيد الحكم، سواء باللعب على أوتار الدستور والقانون أو باختلاق الخلافات والأزمات، ومن ثم الإيحاء بتنازلات متبادلة حفاظاً على الاستقرار الداخلي، أو بكلمات تشكل مفاتيح سحرية توحي بالوئام والوداد خوفاً من الشعب الذي لوّح لهم بما يهدد هذا البقاء.
هكذا، وعبر اجتماعات متلاحقة أقرّت السلسلة وتمّت التسويات التي تكفل تقاسم الجبنة بما لا يقتل الذئب وبما يعيد الغنم الى الحظيرة.
لكن إقرار السلسلة لن يحقق قيامة ما مات، لأن لا دراسة علمية وعملية للبدء بإعادة احياء النمو الاقتصادي. كما أن إنقاذ البلد قد فات أوانه على ما يبدو. ذلك ان الأسباب المؤدية الى وفاة الوطن لا تقتصر على الاقتصاد. الأمور أكثر تعقيداً، والمعالجات الموضعية لا تسمح الا بترقيعٍ، هدفه إحكام قبضة من لا يسعى الاّ الى مصادرة الوطن الفقيد.
الأعمى وحده لا يرى أننا لم نعد كياناً مستقلاً بحد ذاته، فقد أصبحنا جزءاً من محور، حجر شطرنج يتم تحريكه في الاتجاه المطلوب. ولن تنفع الفذلكات الحكومية وغير الحكومية لبثّ الروح في الكيان.
كذلك لن تثمر تحركات قوى سياسية تورطت ولم يعد في وسعها اجترار قناعاتها أو استعادة ثقة الناس بها، بعد خطيئتها المميتة عندما سلّمت أوراقها ومصيرنا للمحور المصادر، لتبدو ردود فعلها هزيلة حيال مشهد من هنا أو موقف من هناك، مع أن لا تغييرات درامية في متن ما هو مرتقب ومتوقع ممّن لم يكن يصح الرهان عليهم.
علنية سياسات مَن يدين بمواقعه الى المحور الإيراني المتفوق حالياً، لا تتناقض مع ما كان قبل أوراق التفاهم السرية والعلنية، سواء جاءت من داخل المدار أو من خارجه. فاللعب بات على المكشوف مع ترجيح كفة عدم انهيار النظام الأسدي، ومن خلفه الذين يدعمونه. لذا كان طلب الرضا تحدياً، على أن يتم تحصيل الفواتير في الاستحقاقات المقبلة، ما يؤكد أن لبنان الكبير صار فقيداً، وقد ووريت الثرى سيادته، والكل عالم بهذه الحقيقة، وإن دارى وتصرف بما يوحي بشبهة حياة كلما استدعت الحاجة ذلك.
وفي حين يشكل الموت نهاية وإن مؤلمة، ويطوي صفحة ليفتح أخرى، الا أن النهايات في حال لبنان، ممنوعة لأن جهابذة المحور الإيراني صادروا الفقيد بغية استخدامه عندما يحتاجون الى الهوية اللبنانية. على سبيل المثل، تصير العقوبات الأميركية، غير الفعالة الا لاستنهاض بيئة “حزب الله”، عقوبات على لبنان واللبنانيين وليس على السلاح غير الشرعي وغير المشكوك في تبعيته للنظام الإيراني، سواء عندما استخدم للقضاء على الثورة في سوريا أو عندما زرع الفتن في دول تزعج هذا النظام، أو عندما رعى صناعة الحبوب المخدرة وتصديرها الى هذه الدول وغيرها، بما يخدم الاجندة الإيرانية على حساب لبنانيته ولبنانية أبناء الوطن الفقيد، أو عندما اخترع “داعش” وادّعى الحرب على هذا التنظيم، لإبقاء النظام الأسدي سيفاً مسلطاً على رقاب السوريين، وها هو يجدد مفاعيل هذا التنظيم المتطرف بكبسة زر بغية القضاء على احتمال نشوء دولة كردية تزعج ايران وتركيا لأن العراق وسوريا اصبحتا أيضاً دولتين فقيدتين ولم يرحمهما أحد.
في كل هذا المسار المستمر منذ إحياء أحلام الامبراطوريات المندثرة، يتجاهل الجهابذة أن من يحب الفقيد يحب أبناءه ولا يقودهم الى التهلكة، سواء على جبهات قتال لا تخدمهم بصفتهم اللبنانية أو بحرمانهم الحدود الدنيا لحياة كريمة ترعاها مؤسسات لا فساد فيها ولا عدالة استنسابية تحاكم قتلة وتمجد قتلة آخرين وفق أجندة ممانعة لا تولّد الا الفتن ولا تسمح بأيّ بارقة أمل لقيامة وطن.
مع كثافة التطورات الحاصلة على أكثر من محور، لدينا حالياً جثمان الفقيد الذي ابتلى بعلل أدت الى موته التدريجي. لكن اللافت في الأمر أن هذا الجثمان لا يزال بقرة حلوباً لمن يتناتشون ما تيسر من النفوذ، ما يدفعهم الى مصادرته وعدم السماح لأهل الفقيد بتشييعه ليتولوا العزاء عنهم، فارضين عليهم البقاء في الصفوف الخلفية لأن لا دور لهم في البرامج الفئوية والخاصة للمحور وجهابذته.
على رغم أن هناك من لا يزال يتحدث عن الوطن الفقيد كأنه موجود في غير الجغرافيا، فيواصل المناداة بسياسة النأي بالنفس عن أزمات المنطقة ولا يريد الإقرار بأن لبنان الدولة والمؤسسات لفظ أنفاسه على مذبح هذه الصراعات، وتحديداً في ملهاة الحرب الوهمية لجرود عرسال وجرود القاع ورأس بعلبك، عندما أطلق المحور الإيراني على الجيش رصاصة قاضية لا رحمة فيها ولا قيامة بعدها.
أكثر من ذلك، منع ممثلو هذا المحور “شركاءهم في السلطة” حتى من الاحتفال الشكلي بانتصار معنوي يبرر لهؤلاء الشركاء قصر نظرهم السياسي.
المؤسف هذا الصمت حيال المصادرين الوقحين، وهذا الضعف والمواقف الهزيلة التي لا تكف أيدي الذين يقودون رفات لبنان الى حيث خططوا، مع مواصلة فرض الصورة التي يصرون على استثمارها مع قليل من الوجدانيات المبتذلة والكثير من الفجور لتغييب الأبناء الفعليين للفقيد، على عادتهم عندما يخدمهم الاستثمار. لكن أي عاقل يعرف ان هذا الاستثمار بالطريقة التي تتم بها الأمور عندنا، لن يؤدي الا الى مزيد من الاهتراء والتفسخ وصولاً الى العدم.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار