بدت معركة جلستي تشريع الضرورة معركة مسيحية مصيرية. فقد نجح التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية في فرض معادلة مفادها ان عدم ادراج مشاريع قوانين تتصل بالبلديات، واستعادة الجنسية، وقانون الانتخاب، هو اخلال بشروط الشراكة المسيحية الاسلامية. وقد نجح الطرفان، مع بعض النواب المسيحيين المستقلين، في الزام رئاسة المجلس النيابي بمراعاة شروط هذه القوى الوازنة في الشارع المسيحي. وهذا بعدما كان الرئيس نبيه بري، يحتل موقع الفقيه الدستوري الوحيد والحصري في مجلس النواب والجمهورية اللبنانية، وبحسب مصادر حزبية مسيحية، كانت معنية بالتشاور مع الرئيس بري بشأن جلسة التشريع، انه بالغ كثيرا في حصرتفسير الدستور وتعريف الميثاقية، قائلة “هو يبني دائما على ان ما يقوله كان لا يناقش ولا يرد”.
هذا السلوك الدستوري، الممتد منذ عقد من الزمن على الأقل، بحسب تعبير المصادر نفسها، راكم لدى الرئيس بري ما اعتبره في سياسته نوعاً من الأعراف التي تكاد تكتسب لديه قوة القانون. لذا كان من الصعب على الرئيس بري التنازل او تعديل موقفه في ادراج مشاريع جديدة على جدول اعمال الجلسة التشريعية. ووصفت هذه المصادر “معاناتها” الدستورية مع الرئيس بري بأنه يصدّ من يحاول ان يشاركه في التشاور في قضية تفسير الدستور اوما يمكن ان يناقش من مشاريع قوانين بدل ان ترمى الى جانب العديد من المشاريع المهملة في البرلمان.
يحق للقوى المسيحية المشار اليها أعلاه ان تفرح بما حققته، وأن تحتفي بتأكيد ان الثنائية المسيحية الاسلامية لم تزل موجودة، على رغم استئثار الانقسام السني – الشيعي بالسلطة، الى الحدّ الذي بدا فيه الحديث عن ميثاقية، شكلت اساس النظام السياسي والدستور، ميثاقية بين السنّة والشيعة في النظام السياسي. ولا يقلل هذا من مسؤولية مسيحية ساهمت في تراجع الدور المسيحي داخل السلطة ووعجزوانكفاء عن المشاركة برسم الخيارات الاستراتيجية للبلد. فالقوى المسيحية كانت عوناً لهذا المسار الذي شكل خلاله المسلمون، بالمعنى السياسي، رأس حربة في مشروع تقويض الدولة وتهميش الدستور والنظام.
ذلك ان الحسابات الاقليمية، لا سيما خلال العقد الأخير، شكلت عنصرا اساسيا (مع تفاوت) في اولويات الاطراف الاسلامية على حساب سيادة الدولة. وبالتالي وفّر الغطاء الاقليمي تعويضا لهما عن تهميش الدولة والداخل اللبناني والوطني. القوى المسيحية، بحكم المصلحة المسيحية والوطنية، كانت مؤهلة ومعنية بالانهماك في بلورة مشروع لبناني جدي تحتمي به ويحمي الدولة. لأن وجودها يستند الى شروط لبنانية لا يشكل الخارج عنصرا حاسما فيه. لكنها بدت في سياساتها مصابة بعدوى المسلمين، لكن من دون ان يكون لها سند خارجي يعوض خسائرها ويغفر لها…
القوى المسيحية الاساسية لم تكن وفية بالقدر المطلوب للكيان والدولة، بل كانت دون مستوى التحدي. وقد أغراها الانقسام الاسلامي للانخراط به، في مرحلة مستمرة فيها القوى الاسلامية في الانتشاء بالديمغرافيا السنية أوالشيعية في الاقليم. اما القوى المسيحية التي وضعت بالواسطة كل اوراقها في سلة الاقليم… فلم تشغل بالها او تنهمك بحماية النموذج اللبناني ودولته. لذا فالدور المسيحي تراجع عندما انكفأ من الدائرة الوطنية الى الزواريب المسيحية.
الانجاز المسيحي في جلستي التشريع اليوم وغدا يمكن ان يكون رافعة للدولة اذا لم يصرف هذا الانجاز او يهدر في الزواريب الضيقة بين كسروان والمتن والأشرفية. المهمة المسيحية اليوم، بسبب غرق القوى الاسلامية في مهمات اقليمية وعالمية، هو الذهاب بوضوح نحو المساهمة في استنهاض وطنية لبنانية شرطها الدولة الكاملة السيادة. وسوى ذلك لا معنى للوجود المسيحي سياسياً في لبنان… ان لم يخرج العقل السياسي المسيحي اللبناني اليوم من ذهنية التابع او المنعزل والباحث عمن يحميه، الى ذهنية الطامح لبناء دولة يفخر اللبنانيون بانتمائهم لها.
منعا للالتباس: القوى الإسلامية عموما هي رأس حربة تدمير الدولة أيضا في العقد الأخير، بالحدّ الأدنى، وهذا مجال حديث آخر.
alyalamine@gmail.com
البلد