قلنا وكررنا في مقالات سابقة عديدة أن الفساد في الفلبين مرض مزمن، ليس من السهولة لأية حكومة أن تقتلعه من جذوره، أو حتى التخفيف من وطأته بالقضاء على بعض مظاهره المزكمة للأنوف. ودليلنا أن هذه البلاد تأتي في المرتبة 134 على قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم والتي تضم 178 دولة.
غير أن الرئيس الفلبيني الجديد “نوي نوي أكينو”، الذي إكتسح منافسيه وفاز بالرئاسة في إنتخابات مايو 2010 الرئاسية خلفا للرئيسة المنتهية ولايتها “غلوريا أرويو ماكاباغال”، وضع على رأس أولويات برنامجه الإنتخابي هدف القضاء على الفساد في أجهزة الدولة البيروقراطية، فدغدغ بذلك عواطف قطاع واسع من الجماهير الفلبينية التي عانت طويلا من هدر أموال وثروة بلادها على أيدي الساسة والوزراء والنواب المتنفذين، إضافة إلى رموز المؤستتين الأمنية والعسكرية.
وربما لولا إيلائه الأولوية القصوى في برنامجه الإنتخابي لعملية القضاء على الفساد والمفسدين، ومحاسبة كل من أثرى وإستنفع دون وجه حق خلال إدارة سلفه، والتحقيق في مخالفات مالية جسيمة إرتكبتها شخصيات مرتبطة بالرئيسة السابقة ” أرويو”، لما تمكن الرجل بسهولة من تجاوز منافسين كبار من ذوي النفوذ والسيطرة داخل مجتمع المال والأعمال الفلبيني.
والحقيقة أن الرئيس الجديد الشاب سارع فور توليه سلطاته الدستورية في يونيو المنصرم إلى البدء في تحقيق وعوده لشعبه، فأصدر قرارا جمهوريا بإنشاء ما سـُمي بـ “مفوضية الحقيقة والمساءلة”، وذلك بهدف التحقيق في كافة الإدعاءات والقضايا الخاصة بالفساد وإستغلال السلطة أثناء السنوات التسع من حكم السيدة “أرويو”. بل أنه أتبع القرار المذكور بخطوات أخرى تمثلت في الإستغناء عن خدمات المئات من موظفي الدولة ممن عينتهم الإدارة السابقة في مناصب حساسة دون الإلتزام بالقواعد والإشتراطات القانونية المتعبة في مثل هذه الحالات، علما بأن معظم الذين تم طردهم كانوا قد منحوا وظائفهم، معطوفة على صلاحيات واسعة، فقط بهدف التغطية على ممارسات حكومية سابقة غير مشروعة، ووضع العراقيل أمام لجان التقصي البرلمانية.
وإذا ما عدنا إلى الحديث عن “مفوضية الحقيقة والمساءلة” كجهاز مستقل، نجد أن بعض المراقبين والمحللين لأوضاع الأرخبيل الفلبيني يحذوهم الأمل في أن تتمكن من فعل شيء حقيقي وملموس خلال المدة الممنوح لها والتي تنتهي مع نهاية عام 2011 ، خصوصا وأنه أدرج ضمن مهامها التقصي تحديدا عن 23 ملف فساد يتعلق بالسيدة “أرويو” وعائلتها، ومـُنحت صلاحياتها واسعة لجلب كل من يحوم حوله الشبهات للعدالة، ناهيك عن وضع شخصية معروفة بنزاهتها على رأسها، ونعني بها قاضي المحكمة العليا “هيلاريو دافيد الثاني” الذي سوف يرفع توصياته إلى رئيس الجمهورية ومجلسي الشيوخ والنواب للنظر فيها وإتخاذ ما يلزم من إجراءات.
غير أن هناك من المراقبين من يزعم بإستحالة حدوث أي تطور إيجابي على هذا الصعيد، بل ويتوقع فشل المفوضية المذكورة في مهامها، وبالتالي تصدع الإئتلاف الحاكم في وقت لاحق من العام الجاري. وهؤلاء يبنون توقعاتهم على أربعة عوامل:
أولها، تضارب المصالح وتباين التوجهات السياسية للقوى الداخلة في الإئتلاف الحاكم، خصوصا وأن الرئيس ” نوي نوي أكينو” لم يبن لنفسه قاعدة سياسية وحزبية قوية قبل قراره خوض الإنتخابات الرئاسية، مراهنا فقط على شعبية والديه “زعيم المعارضة الأسبق وشهيد الديمقراطية بنينو أكينو، ورئيسة البلاد الأسبق السيدة كورازون أكينو” في أوساط الجماهير.
وثانيها، النفوذ الطاغي الذي زرعته السيدة “غلوريا أرويو” وزوجها رجل الأعمال “مايك أرويو” لنفسيهما وعائلتيهما داخل مفاصل الدولة الفلبينية خلال عهد طويل إمتد من عام2001 وحتى عام 2010 . ولعل أكبر دليل على مدى تجذر النفوذ المذكور، أن الرئيسة السابقة وزوجها نجحا أكثر من مرة خلال فترة وجودها في قصر “مالاكانيان” الرئاسي في التهرب من المساءلة البرلمانية، ومواصلة فسادهما، وهو ما أزعج صغار ضباط المؤسسة العسكرية وقادهم مرارا إلى العصيان وتدبير محاولات الإنقلاب على الحكم المدني. وكان أبرز تلك المحاولات ما حدث في 27 يوليو 2003، حينما قام جنود يقودهم الكابتن في الجيش “جيراردو غامبالا”، والملازم أول بحري “أنتونيو تريلانس الرابع” بإحتلال مجمع تجاري كبير في حي المال والأعمال الراقي المعروف بإسم “مكاتي”.
وثالثها، إحتلال السيدة “ارويو” حاليا لمقعد في مجلس النواب الذي يسيطر عليه أنصارها ومحازبيها. وهؤلاء قاموا مؤخرا بالتكتل من أجل إسقاط قرار الرئيس ” نوي نوي أكينو” بتشكيل “مفوضية الحقيقة والمساءلة”، زاعمين أن قيامها يعتبر عمل غير دستوري. حيث تقدم النائب “إدسيل لاكمان” المعروف بصلاته الوثيقة مع عائلة “أرويو” بإلتماس للمحكمة الدستورية للطعن في شرعية تأسيس المفوضية. وبالمثل، زعمت النائبة اليسارية المشاغبة “مريم ديفنسو سانتياغو” بأن صلاحيات المفوضية تتشابك وتتعارض مع صلاحيات “دائرة التظلمات” المختصة بالنظر في مخالفات الأجهزة البيروقراطية، علما بأن هذه الدائرة تقودها السيدة “مرسيديتاس غوتييرز”، التي عينتها “أرويو” في عام 2005 بتوصية من زوجها “مايك أرويو” الذي كان زميلا لها في المدرسة. وردا على هذا الجميل، بذلت “مرسيديتاس” كل ما في وسعها لتأجيل النظر في الدعاوي المرفوعة ضد الرئيسة السابقة، أو رفضها من الأساس.
أما العامل الرابع فهو وجود مجلس للشيوخ السيطرة فيه لأنصار وحلفاء المرشح الرئاسي الفاشل “مانويل فيلار الثاني” الذي نافس الرئيس “أكينو” في إنتخابات مايو الرئاسية، وحل ثانيا، علما بأنه دارت شائعات قوية وقتذاك قالت بأن “فيلار” إنما دخل المعترك الإنتخابي بتأييد مبطن من “أريو”، وضمن صفقة سياسية تضمن للأخيرة “عدم نبش ملفات الفساد في عهدها” في حالة وصول “فيلار” إلى قصر “مالاكانيان”.
قلنا آنفا أن هناك 23 ملفا للفساد أمام “مفوضية الحقيقة والمساءلة”، لعل أهمها هو ذلك الخاص بمشروع الشبكة الوطنية للإتصالات ذات الترددات العالية والذي منحت حكومة “أرويو” تنفيذها لشركة صينية بمبلغ 329 مليون دولار، قبل أن يلغيها البرلمان لإكتشاف مخالفات فاضحة في طريقة ترسيتها، والإكتساب غير المشروع من ورائها. ثم يأتي بعد ذلك ملف الخروقات التي إرتكبتها الإدارة السابقة لجهة تزوير إنتخابات العام 2004 لصالح “أرويو”. وهناك أيضا ملف فساد لا يقل أهمية هو إختفاء وسرقة تسعة بلايين دولار من أصل عشرة بلايين مخصصة لتنمية ولاية “كورازون”. حيث تم التعتيم على هذا الأمر وتمييعه بحجة أن البلاد لا يمكنها الإلتهاء بهذه القضية، لأنها – كما قيل وقتذاك – في حاجة ماسة للوحدة والتضامن للوقوف في وجه الحركات الإرهابية والإنفصالية، وتهديدات العسكر ضد الديمقراطية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh