و”يلي متلنا تعو لعنا” ذاك المثل اللعين..
ويرن في أذني استنكار أحدهم لانتقادي إحداهن، بقوله: كيف تنتقدينها وأنت وهي في خندق واحد؟
في فترة الجامعة في الثمانينات ومابعد ذلك، وحين كان لي تفاعل مع ما يسمى وسطاً ثقافياً في سوريا، كان لدي لهفة أن أكون من بين مجموعة آمنوا بأنفسهم إيماناً قوياً بأنهم “نخبة”، وكانت شدة إيمانهم تجعل أكثر من حولهم يعتبرونهم كذلك، فيحاولون الالتحاق بهم أو يتجنبونهم بتشنج وغضب.. وبالطبع أراه الآن تشنجاً مشروعاً، غريزة طبيعية عند الإنسان حين يواجه بمن ينال الحصة الأكبر.. وكانت هذه “النخبة” على اعتزالهم للآخرين، كثيرون يحسبون لهم حساباً، أو تخوفاً.. اهتماماً سلبياً، وكنت من أولئك الذين لديهم طموح أن يكونوا بين هذه “النخبة” وفي جنتهم. وكنت ممتلئة بقناعة أن لب الثمرة بينهم، ولكن وبسبب عفويتي في العلاقات ودماغي الخالية من أية أيديولوجية، والتي كانت عيبي الكبير في ذلك الزمان، كنت أطعن في هذه الهالة التي يصرون على الظهور بها وأخرج من الخندق، ويصادفونني واقفة أسلم وأتحدث إلى زميل وأصغي وأنا أعرف أن الزميل يعمل مرشداً أمنياً. ونالني الكثير من انتقاد هذه “النخبة” بأني لاأفرز في علاقاتي. كان ينتابني تساؤل ملح، وهو كيف لي أن أعرف معدن الشخص إذا لم أسمع منه؟ وكيف يعرفني إن لم يسمع مني؟ وكان من بين الزملاء من كنت أتحدث وأسمع منه وإن كنت متأكدة بعد ذلك أنه سيمضي وينسفني بتقرير عند المخابرات. واليوم وبعد تأمل في تطورات الواقع وما برهنت الظروف السورية، أجد أن هذه الاختراقات، كانت على عفويتها، داعية حوار..
واليوم، حين يعيش كاتب منطقتنا في مغترب متحضر مرفه وآمن وحر، ينشأ لديه ضيق من أن العالم غير عادل وأن أهل بلده أيضاً يستحقون هذا الرفاه وهذا الأمن وهذه الحرية، وبسبب هذا الضيق وهذا الحنين ينشأ لديه حلم أو وهم أن يساهم مع آخرين في حفر هذا السبيل، عبر الكتابة/ ملعقة بلاستيكية، ولكي لا يكون وحيداً في مغتربه ينشئ صداقات مع ناشطين وكتاب يشعر أنهم يشاركونه همّ الحفر نفسه، أصدقاء يلتقيهم بالكلمة، وقد لايلتقيهم في الواقع، وتتنامى هذه العلاقات وتصبح تجمعات في أماكن افتراضية، في رأس المغترب، قد لاتحيل إلى شيء لكنها تصبح محركاً لنشاطه، وتصبح هذه الصداقات بديلاً عن هذا الوطن الذي يتلهف إلى العيش فيه، ورفيقاً من أجل إكمال الحفر في الطريق الوعر، وليس في خندق ما.
كنت خلال هذا العام قد نشرت بضع مقالات تناولت نوعاً أحد أوجه الوضع الثقافي السوري، وتناولت في مقال موضوع هيمنة خطاب اليساري على الوجه الثقافي السوري، وكنت أعني بالضبط “النخبة” المثقفة، وهنا لا أفرز وإنما أوضح هذا الفرز، إذ يحدث أن نستخدم ألفاظاً غير دقيقة بمعناها العلمي أو المعجمي ولكنها دقيقة بمعناها الواقعي أو الدلالي، نعني ماتدل الكلمة عليه في أذهان الناس في الشارع، وتاريخها وواقعها الذي تعيشه، وهذا بظني إغناء للمخيلة وليس استهتاراً باللغة..
أشرت في مقالي، “السجين الإسلامي، اليساري، حين يعانيان آلام ابن الست وابن الجارية” بتاريخ 9-4- 2010 إلى أن الوجه الثقافي السوري يعاني من انفصال عن واقعه، أهل البلد، ويميل بزاوية حادة إلى اليسار، يعينه في هذا وجه العالم الذي يميل إلى التحرر. وبتناولي هذا الأمر طرقت موضوعاً شائكاً كان أن أثار حفيظة بعض من المهتمين بالشأن الثقافي، وأعتقد أنهم وبقراءة خاطئة مقصودة أو غير مقصودة للمقال، فعلوا أن آثروا فرز كاتبة هذه السطور، وتداعى الدعم المعنوي الرضيّ.
كل من يؤمن بنفسه أنه من هذه النخبة، ويفرز حسب قواعد هذه النخبة التي بنيت منذ عشرات السنين ومازالت برأيي تنهل من ذاك الأساس، التخندق، بظني أن كل من يمارس الفرز بالأسس نفسها أصبح سميناً ويحتاج إلى التمرين.
إيمان كل طرف بنخبته وانتخابه، هو سبب عزوف الناس عن المشاركة، احتلال الواجهة من قبل من يراهم البعض حكماء، هو سبب العزوف، فإنسان منطقتنا يخشى قول حاجته خوفاً من أن يكون بحاجته مذنباً.
الأمر الذي وددت تناوله هنا هو موضوع الفرز، وبسبب هذا الفرز الذي يفعله أهل هذه التجمعات، يخطر في بال كاتبة هذه السطور أن تنشر بأسماء مستعارة ومتنوعة، ليس جُبناً، إنما تلهفاً إلى تفتيت هذه النزعة عند أهل الخنادق، وإبطال مفعول الفرز، وذلك لأن المقال كما هو معروف يُقرأ من خلال اسم كاتبه، وخلال اسم كاتبه هذه، تعني طائفة الكاتب، عائلته، ظروفه الشخصية، منبته، صيته، وصيته بالضبط هو مقتل نصه، لأنه بالتأكيد غير عادل في وسطنا الإعلامي، وقد لايكون أكثر من شائعة مروّجة. وللأسف أكاد أجزم أن لا أحد يقرأ المقال من خلال الأفكار المطروحة بتجرد عن قراءته الذاتية لكاتبها.. وأكاد أرى فرز القارئ بعد قراءته هذه الكلمات أيضاً.
يراودني تطلع أن يصبح للمطبوعات وخصوصاً العربية منها شرطاً على كتابها، نشر نصوصهم مغفلة من أسمائهم، لنرى، كم سيكون تفاعل القارئ مع النص، ذاك النص الذي لا يترك للقارئ سبباً لتخمين ميل الكاتب أونزعته، وإنما يعرّف من يقرأه على ميله الذاتي كقارئ وحاجته كإنسان.
والغاية معرفة حاجة التخندق، إسلامي وغير إسلامي، واذا تناولنا الوضع الثقافي السوري فإني كلما فكرت بهذين الخندقين كي أحدد الفرق بينهما، لا يتبادر إلى ذهني إلا أمر واحد يختلفان عليه هو أن الأول يحلل الكحول والنساء، والثاني يحرم الكحول والنساء.. وأنه من خلال معرفتي ومتابعتي لأهل الطرفين، أعتذر للتعميم، وجدت أن العديدين منهم يحملون النزعات نفسها من حب الهيمنة وغلبة الآخر وعبر خندقه خاصته، وحين تواجههم في هذا يجيبون، لكننا بشر.
بشر.. لماذا لا يلتقون إذن؟
sarraj15@hotmail.com
نُشِرَ هذا المقال في “الحياة” اللندنية، ويعاد نشره بالإتفاق مع الكاتبة.
الفرز هو الأمر الواقع، من خندق إلى خندق آخر!
سوري قرفان
ما يثير القرف هي فذلكة الكاتب وتناقض سيرته مع ما يكتب. السكدسوفرينيا العربيه المقرفه ذات المنشأ التربوي الديني عند الإنسان العربي حتى الغير متدين…..