يزداد تبلور العامل الدولي المتحكم بمجريات الصراع في سورية، والمتمثل بالدورين: الروسي والأميركي، فيما يتقلص الدوران الإقليميان: التركي والإيراني على نحوٍ مضطرد، أو ينضويان في إطار الدورين الأولين. وإذا كانت الدول المعنيّة قد اكتفت بإدارة الحريق السوري، فإن إطفاء النيران ما زال بعيد المنال في ما يبدو؛ بسبب تعقيد الصراع، من جهة، وإغفال العوامل التي قادت إليه أو رافقته، من جهة أخرى.
بيد أن مجزرة خان شيخون الأخيرة، والضربة الأميركية التي تلتها، منحت الولايات المتحدة أوراق قوةٍ جديدة على حساب الدور الروسي، ومن المنتظر أن يتعزز النفوذ الأميركي شرق الفرات بعد تحرير الرقة المنتظر، وما ينجم عنه من تقلص لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، بينما يبقى الدور الروسي متركزًا في المناطق التي يسيطر عليها النظام؛ أي في الساحل وشريط المدن المركزية الأربع، دمشق وحمص وحماه وحلب. وينضوي النفوذ الإيراني في إطار النفوذ الروسي، بعد أن كان أساسيًا في هذا الجزء من سورية. أما تركيا فقد حققت هدفها الأساس، بمنع التواصل الجغرافي بين الجزيرة ومنطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية، وذلك من خلال الجيب الذي سيطرت عليه في الشمال.
يبقى مصير منطقة الجنوب، والجنوب الغربي من سورية معلّقًا؛ حتى تتحدد طبيعة العلاقة المستقبلية مع العدو الإسرائيلي الذي يهتم بإبعاد “حزب الله” وإيران عن المناطق المحاذية لحدوده، إلى حين تبلور تسوية سياسية للمناطق المحتلة من الجولان، وما قد يتلوها من تطبيع للعلاقات، ربما بالتزامن مع عملية البناء السياسي السورية الداخلية، وبما يرضي الجميع، ويؤمن استقرارًا طويل الأمد. ويرتبط مصير محافظة إدلب بالكيفية التي سيُفرز فيها المسلحون؛ بالسياسة أو بالقوة، أو بكلتيهما معًا، وبطبيعة القوى – الدول التي ستسهم في ذلك.
لكن، ما علاقة ذلك بمشروع الفدرالية أو الأشكال الأخرى للامركزية؟
إن حال الفرز والتباين المستمرة منذ ست سنوات تجعل من الصعوبة بمكان أن تُحكم سورية بنظام مركزي، لا بل إن شبح التقسيم يلوح في الأفق، إن لم تتوافر إرادة أميركية- روسية كافية للمحافظة على الحدود الدولية لسورية، سايكس بيكو. وإن من أهم مثالب طريقة الحكم المركزية السابقة/ السائدة هو تطبيق قوانين واحدة على بيئات مختلفة، فضلًا عن التحكم المركزي بالثروات والخطط التنموية؛ ما أفضى إلى نوع من الشعور بالغبن.
كان الأكراد السوريون أول من طالب بحكم ذاتي، ومنذ مدة طويلة، ثم تطور الأمر إلى المطالبة بالفدرالية في السنوات الأخيرة. وتداولت عدة أوساط دولية صيغًا مشابهة للفدرالية، منها الوثيقة الأميركية للحل في سورية، والتي سُرّبت في كانون الثاني/ يناير 2016، وما سمي بمشروع الدستور الروسي لسورية في الشهر ذاته من عام 2017، وقُدِّم إلى وفدي النظام والمعارضة في مؤتمر أستانا.
يعكس التخوُّف من مختلف أشكال الحكم اللامركزية المطروحة طريقةَ التفكير الاستبدادية، سواءً من أنصار النظام أم من بعض معارضيه، يظهر ذلك في التشنج والخوف المبالغ فيهما من جراء مطالبة الأكراد بالفدرالية، الحالة التي تستثيرها أيضًا بعض حالات الغلوّ في الأوساط الكردية.
الفدرالية، ببساطة، هي تقاسم الحكم بين سلطة مركزية وسلطات إقليمية بضوابط دستورية واضحة، وبذلك لا تتعارض الفدرالية مع الديمقراطية، لا بل إنها تشترطها في أفضل النماذج، كما في وضع الولايات المتحدة الأميركية. قد تتشكل الفدرالية من اتحاد دول مستقلة، أو على أنقاض تفكك دولة مركزية وإعادة تجميع أجزائها سياسيًا في نظام حكم اتحادي، الحالة الثانية تجعل الفدرالية ممكنة في سورية من حيث المبدأ، وهي لا تتناقض، جوهريًا، مع مصطلحات أخرى مثل الحكم الذاتي أو اللامركزية أو اللامركزية الموسعة.
وفي كل الأحوال، ستكون الحال السورية مميزة ولها خصوصيتها، منها أن الفدرالية ستتشكل، في الغالب، من تجميع المناطق التي تسيطر عليها الدول، أكثر من كونها تبلورًا لرغبات السكان القاطنين في هذه المنطقة أو تلك، في المرحلة الأولى، في الأقل، ما قد يفضي إلى مزيد من عمليات التهجير أو الانتقال الطوعي بين المناطق، وفقًا للمصالح وأنماط الحياة وسهولة العيش وتوافر الأمان والخدمات الأساسية، ومنها، لحسن الحظ، أن سورية لا يمكن تقسيمها على أساس ديني أو عرقي خالص. ومع أن المجتمع السوري متباين الثقافات، وهذا يغنيه في الحال الطبيعية، لكنه متكامل المصالح أيضًا؛ بسبب تباين تموضع الثروات وتنوعها من منطقة إلى أخرى، ومن ثم؛ ثمة فرصة لتبادل المنافع في دولة تعتمد حكمًا يتصف بالمرونة الإدارية. مع ذلك، قد يحتاج السوريون إلى مدة محددة من السلام الاجتماعي واستعادة الحياة الطبيعية تحت الهيمنة الدولية، إلى أن يقتنعوا بأهمية العيش المشترك في شروط جديدة لتقاسم السلطة، سواء بين سلطات الدولة ذاتها أو بينها وبين المناطق.
وفي حال استمر النزاع الروسي- الأميركي على الأرض السورية، فإنّ ثمة مخاوف من أن تلجأ روسيا التي ما زالت في وضع انتقال إلى الديمقراطية، ويحكمها نظام شبه مطلق، بالمقارنة مع الصيغ الديمقراطية المتداولة في الغرب، إلى تثبيت النظام المركزي المنسجم مع بنائها السياسي في الجزء الذي تسيطر عليه، مع أنّ ذلك مستبعد، نظرًا إلى تفعيل السياسة الأميركية المتعلقة بسورية على نحو متزايد، ما يرجح اتّفاق هاتين القوتين الدوليتين على الصيغة السياسية النهائية لبلدنا في المستقبل.
في هذا الصدد، يمكننا العودة إلى مجريات تقاسم النفوذ في ألمانيا، بُعيد الحرب العالمية الثانية؛ إذ حال عدم الاتفاق على طبيعة الحكم إلى فرض الاتحاد السوفياتي لطريقة الحكم الشيوعية في الجزء الذي كان يحتلّه، وعُرف بألمانيا الشرقية، استمر ذلك إلى أن توحدت ألمانيا بعد انهيار جدار برلين السياسي عام 1989، في حين انضمت المقاطعات الثلاثة المحتلة من الأميركيين والإنكليز والفرنسيين؛ لتتشكل منها ألمانيا الاتحادية- الغربية. وفي حال تحقّق هذا السيناريو الروسي، فإنّ واقع التجزئة سيستمر حتى يأتي يوم يعبر السوريون فيه عن إرادتهم، إن كانت هذه الإرادة باتجاه العودة إلى سورية موحّدة بطريقة ما.