هذا الخبر بات مؤكدا ، خاصة بعد أن حسم خطاب أمينه العام السيد حسن نصر الله أمس الجدل الدائر حول الموضوع. لكن الأمين العام اعترف في خطابه بنصف الحقيقة فقط في ما يتعلق بعدد العملاء وهوياتهم, كما لم يتطرق إلى الشائعة التي يتداولها “مجتمع المقاومة” ومفادها أن اعترافات مرافق الوزير السابق وئام وهاب المعتقل منذ شهرين بتهمة التجسس على قيادات في المقاومة هي التي أدت إلى اكتشاف شبكة التجسس الجديدة! بأي حال، سواءً تكتم حزب الله على بعض الحقائق في هذه القضية واعترف بأخرى، فإن ذلك لا يغير واقع الحال الذي آلت إليه المقاومة، بما أن المتورطين الجدد بالعمالة هم كوادر حزبية على درجة عالية من الحساسية الأمنية.
ما يحرّض على التعليق أن السيد نصر الله طمأن أمس “جمهوره” بأن المقاومة ما زالت بخير، وفي ذلك استخفاف بعقول هذا الجمهور!
فكيف تكون المقاومة بخير وبيئتها تطرح العميل تلو العميل، عدا أن عملاء اللحظة الأخيرة خارجون من رحمها. وكان أجدى بأمين عام حزب الله، عوض الحديث عن “الإنجاز النوعي” الذي حققه حزب الله باكتشاف شبكة التجسس الجديدة، أن يتحدث عن الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا العدد الهائل من العملاء في بيئة حاضنة للمقاومة وفي وقت قياسي. فالجرأة أو الشفافية التي لاحت في خطاب الأمين العام من خلال تسمية الأشياء بأسمائها ليست كافية لقطع دابر العمالة والحد من تفشّيها. وليته وَعَدَ جمهوره بإعادة قراءة للسلوكيات التي جعلت كوادره ينتقلون من عرين المقاومة إلى وكر العمالة، واعترف بفضائح لا تقل شأنا عن العمالة، كقضايا الفساد المالي والسرقات وابتلاع حقوق الناس والتجاوزات الأخلاقية التي طبعت مسيرة المقاومة منذ مرحلة ما بعد حرب تموز 2006.
اكتشاف شبكة التجسس الأخيرة شكل صدمة كبيرة لمجتمع المقاومة ، فالألسن، وإن تناقلت اسماء المتورطين وصفاتهم الحزبية سرا وجهارا، تسأل للمرة الأولى، من باب “سؤال العارف”، عن سبب تفشي ظاهرة العمالة بهذا الحجم في بيئة حاضنة للمقاومة وداعمة لها على مر الأوقات واختلاف التحديات، باعتبارها ظاهرة خطيرة لها أسبابها التي لا تحتاج إلى الكثير من الشرح.
يقول الإمام السيد موسى الصدر “ما دخل الفساد بيتا إلا ودخلته العمالة”!
والفساد لا يدخل إلا من باب المال. وقادة المقاومة، وكوادرها، وشريحة كبيرة من جمهورها، غارقون جميعا في بحار الأموال، ما يسهل علينا تفسير الواقع الذي وصلوا إليه. والحقيقة التاريخية التي لا يعتريها التزوير ولا التغيير أثبتت أن الثروة والثورة نقيضان لا يجتمعان أبدا، و صعود الأولى سيؤدي حتما إلى هبوط الثانية، وبالعكس.
كما أن التجارة لا دين لها، والعلاقات التي تتولد من إدارة العمليات المالية قد تجمع بين الثورة وأعدائها وتسقط الحواجز بين الثوار والجواسيس وبين الأعداء والأصدقاء! أما المقاومون الحقيقيون عبر التاريخ والجغرافيا فدينهم أوطانهم، وتجمعهم سمات و شِيَم متشابهة، أولها البساطة وليس آخرها التواضع. كذلك، لا يتهاون أي جمهور مقاوم بأهدافه وعقائده ما دام الكل واحدا في الحقوق والواجبات، وقد أثبتت الشعوب المناضلة أن التسلح بصفات الوفاء أنفع بكثير من التسلح بأحدث الصواريخ.
في رواية “طواحين بيروت ” للأديب اللبناني توفيق يوسف عواد، التي أرّخت لبدايات الصراع بين فئات المجتمع اللبناني فترة الستينيات بكل تعقيداتها وإشكالياتها، ودخول المقاومة الفلسطينية في فترة السبعينيات على الخط،وانقسام اللبنانيين في موقفهم منها وتفسيرهم لتحركاتها، وبناء على ما اقترفته حركة المقاومة الفلسطينية من أخطاء قَسَّمَ عواد في طواحينه طبيعة العمل الفلسطيني المقاوم إلى ثلاثة أقسام، مشيرا إلى وجود “فدائي فدائي” وهو الذي لا يفارق خنادق القتال، و”فدائي نصف فدائي” وهو الذي يتخذ من الأماكن الآهلة بالسكان مواقع عسكرية، و”فدائي غير فدائي” وهو الذي يدّعي العمل المقاوم!
في المقابل، يُروى عن الجنرال الفيتنامي جياب الذي هزم قوتين استعماريتين (فرنسا والولايات المتحدة) خلال عشرين سنة أنه كان يحمرّ خجلاً عندما يناديه أحد بالقائد، وكان يتنقل بزيه العسكري دون أوسمة ونياشين. وهو يعيش حاليا في كوخ ريفي صغير بعيدا عن الأضواء. ومُلهِمُ المقاومين المناضل المتواضع تشي غيفارا كان يعيش في الأدغال، وحين قُتل بكمين عسكري لم يعرف قاتلوه أنهم تمكنوا منه إلا بعد أن شاع الخبر. وفي قصيدة بالعامية اللبنانية يصف الشاعر الجنوبي عصام العبدالله رجال المقاومة اللبنانية بقوله: “ما بعرفن، ما شايفن، لفوا وجوهن بالقهر، خبوا سلاحن بالوعر، خبوا أساميهن، ما في حدا بيشوفهن إلا إذا ماتوا…”، إلى آخر القصيدة.
في الأمثلة أعلاه استحضار لنموذجين في العمل المقاوم، أحدهما يودي إلى التهلكة والآخر يصنع الإنتصارات الحقيقية. هذا إذا تنبَّه من يهمه الأمر إلى ضرورة الإستفادة من خبرات حركات التحرر في العالم، بحلوها ومرّها، واستلهام تجاربها الخاصة والعامة قبل فوات الأوان.
(الصورة: “مقاومون” قعدوا على “قلب” مدينة بيروت لمدة سنة كاملة لتدخين.. أراكيلهم!)
الفدائي غير الفدائي”: حزب الله يكتشف جيلاً جديداً من العملاء”!
Excellent article – Bravo