فَتَحَ ملف عودة اللاجئين السوريين في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، السجال مجدداً عن العلاقة الرسمية مع النظام الأسدي، فأظهر إشكالية التحالفات غير الطبيعية للقوى الأساسية في لبنان والتي لا غنى لها بعضها عن البعض، على رغم الزلازل التي تهدد بإثارتها اختلافات حادة تشمل غالبية المفاهيم والقيم والخطابات التي صبغت حيثية هذه القوى.
ويمكن توقع مآل الأمور لجهة القبول مواربةً بإعادة تطبيع العلاقة الرسمية اللبنانية مع النظام الأسدي لأن “حزب الله” أطلق “أمر اليوم” بعدما استوت لديه معطياته، فقد أعلن نائب أمينه العام نعيم قاسم أن المطلوب الآن التفاوض مع هذا النظام لإعادة اللاجئين السوريين.
وترافق الإعلان مع اصطناع أزمة وتضخيم حملة لإظهار أخطار هذا اللجوء ونسج مسألة مخيمهم في عرسال، كما ترافق مع “جوقة الممانعة” التي بدأت طرحها التبسيطي للتطبيع على اعتبار أن قنوات التواصل بين البلدين قائمة فعلاً ويتولاها أطراف لبنانيون تدين لمحور الممانعة بوجودها السياسي، ولا تغييرات نوعية في استكمال التواصل الرسمي من خلال هذه الاطراف بحيث لا يحرج من يريد ان ينأى بنفسه، وكأن كل ما حلّ على صعيد هذا الملف لم يحصل، وكأن ميشال سماحة ليس مسجوناً بعد الامر المباشر له من قمة هرم هذا النظام بتفجيرات تهز الاستقرار اللبناني.
لكن أبعد من المواضيع الخلافية في مجلس الوزراء والتي استعادت صيغة “التقية” بسحبها عن الطاولة، ليتم التداول بها وعقد صفقاتها الملغومة عـ”السكيت”، يبقى ان ما يحصل في ملف اللاجئين السوريين أخطر بكثير مما يمكن تخيله.
فالمتابع لهذا الملف لا يمكنه تجاهل تضافر الجهود لغرس الفتنة من خلال هؤلاء اللاجئين التي فتحت عمداً حدود التهريب لعبور معظمهم، وبكل مهارة وخبث وروِّية زرعت بينهم عيون للنظام الاسدي ومحور الممانعة بحيث تمت تصفية كل المعارضين السوريين الأوائل الذين رفضوا العنف والادلجة الدينية، وها نحن اليوم نستفيق ونرى مشهداً قد يجعلنا نترحم على الخلاف “الفلسطيني- المسيحي” الذي فجر الحرب الاهلية، وقد تصبح “بوسطة عين الرمانة” أشبه بحكاية “الكلّة” التي أدت الى حرب 1860.
وفتيل التفجير جاهز. فاللجوء الى لبنان كان للهرب من الموت على يد جيش النظام الذي لا ولن يعترف بوجود شعب سوري، وساهم “حزب الله” وغيره من ميليشيات إيران، في تنظيف المناطق المحيطة بـ”حدوده” من أهلها وغيّر طبيعتها السكانية بما يزيد نفوذه، وحشر من هجّرهم في مخيمات أكثر من بائسة، وحضر لهم تهمة الانتساب الى “داعش”، ووجد من يعاونه في إرساء اسلوب القمع والظلم وصولاً الى الوفاة الغامضة، وفي رفض أي أسئلة او انتقادات وتصنيفها من جانب مؤيدي الدويلة المدججة بالسلاح خيانة عظمى ومؤامرة على الوجود والكيان.
وحتى يحمي الحزب نفسه من ردود فعل من نكل بهم بالتكافل والتضامن مع النظام الاسدي، استخدم الجيش واجهة. وضعه في عين العاصفة. ومراجعة ما تعرضت له هذه المؤسسة الوطنية في عرسال وجرودها يوضح ما يحصل الآن ويدعم الحجة التي تمنع أي مساءلة عندما يقدم مسؤولون فيها “خدمات” تصب في مصلحة محور الممانعة، لكن الخوف يبقى على هذا الجيش الذي أريد له أن يتولى ظاهرياً الحرب على المخيمات والتجمعات السورية بحجة “العمليات الاستباقية”، وذلك في إطار متواصل وممنهج لزرع حقول ألغام تفاقم تعقيدات الوجود السوري في لبنان، بحيث يتجاوز هذا الوجود السرقة والنهب والإقامة غير الشرعية ويتحول قنبلة موقوتة يراد لها في مرحلة ما أن تفجر لبنان بحرب جديدة قد تقضي على الأخضر واليابس.
وفي حين شهدنا انه يصعب العثور على فلول “داعش” او حتى على بقايا ملابسهم واحذيتهم، في المناطق العراقية والسورية التي تحررت من هذا التنظيم الإرهابي، وفي حين نفتقد صور المعارك التي بفضلها تم التحرير، وفي حين تغيب أي حبكة تحترم عقولنا في مهزلة الانتصار على التطرف الذي يقوده محور الممانعة بلا رقيب وحسيب، فقط حتى ينجز خرائطه الجديدة وفق توزيعات ديموغرافية تستهدف الغاء سُنَّة “الهلال الشيعي” إما بالقتل أو بالتشريد، مما يدل على التنسيق اللصيق بين محور التطرف ومحور الممانعة، نشهد اليوم جيش دواعش يجتاح اللاجئين السوريين، ويفرخ عندنا كما تفرخ ماكينات التفقيس صيصانها. وتلك لعمري حجة لا يمكن دحضها لتبرير كل الارتكابات التي لن تزرع سوى حقد القتلى الذين يسقطون مجاناً في لعبة الخرائط الإقليمية المستحدثة.
وبموجب العنصرية التي يرفض البعض اتهام الشعب اللبناني بها، مع ان ادلتها واضحة وضوح الشمس، واسبابها مذهبية وطبقية مباركة من شرائح واسعة من اللبنانيين، يتمحور العمل حول إبعاد القوى الأساسية اللبنانية عن ملف اللجوء السوري ليحصر بمحور الممانعة ورجالاته اللبنانيين، مع الترويج بأن الحل الأمثل سيكون أمنياً بامتياز، وعبر القنوات الأمنية.
وهكذا يصبح النظام الأسدي ملاكاً مقارنة بما ينتظر اللاجئين في لبنان، لا سيما بعد الجمع بين صفتي “لاجىء” و”ارهابي” كما نقرأ ونسمع هذه الأيام سواء في الاعلام او الخطاب الرسمي لبعض المسؤولين، ومع أخبار يومية عن القبض على عشرات “الدواعش” السوريين – تحديداً- مما يؤكد أرجحية التعسف الأمني المترافق مع استخدام العنصرية في سبيل غرس الغام الفتنة التي ستقوم بين “هؤلاء السنة المتطرفين” ومن يلف لفهم، مقابل كل من ينطوي تحت لواء محور الممانعة ومعه بالطبع من يعتبر اجتياح السنة لبنان تهديداً لوجوده ومن يصنف نفسه من “انصار الجيش”. والله يستر…
وفي خضم هذه السيناريوات، ننسى ان قضية اللاجئين لا تُلخص بمفاوضات واعتراف بالنظام الاسدي ومن ثم عودة ميمونة. ففي الأساس، تهجير ما يقارب المليوني سوري، معظمهم من المعدمين، لا يزعج هذا النظام ومحور الممانعة من خلفه، فكل لاجئ سوري يخفف عبئاً على هذا المحور ويفرِّغ الأرض له ولمرتزقته، ويساهم في ترسيخ الديموغرافيا الجديدة المطلوبة.
كذلك يساهم هذا النزوح بخلق أزمات لا تستطيع الدولة اللبنانية الفاشلة مواجهتها، ولا مواجهة أعبائها الاقتصادية والاجتماعية. بالتالي يرغم هذا الملف المسؤولين اللبنانيين على التواصل مع النظام الأسدي واستجدائه حتى يعيد اهل البلد الى أرضهم، وتالياً ينتهز النظام هذه الخطوة الأولى ليعود ويكرس وجوده الى جانب محور الممانعة سكيناً على رقاب اللبنانيين.
لا شيء عفوياً في ما يحصل. سيصبح النظام اللبناني مداناً بالظلم حيال االلاجئين في المحافل الدولية وستصبح الفتنة قتلاً وتقاتلاً… ولا شيء يمكن استبعاده. المعطيات الحالية تكفي لنترقب انفجار حقل الألغام الذي تستعر ناره في ظل غياب الوعي السياسي والاجتماعي سواء لدى الطبقة السياسية او على ارض الواقع اللبناني…
مرة جديدة… الله يستر…
sanaa.aljack@gmail.com
النهار