إن كان من الممكن للدول أن يكون لها “دين” وأن تصلي وتصوم، فعلا أو مجازا؛ فلماذا لا يكون لها بعضٌ من صفات الأفراد وأيضا، وهو الأهم، أمراضُهم ـ بدءا من الإيدز و جنون البقر وأنفلونزا الطيور، ومرورا بالأنيميا وفقدان البصر والألزهايمر، وانتهاء بالاكتئاب والهذيان والهلوسة وانفصام أو اضطراب الشخصية، وغيرها من الأمراض ـ حمانا الله جميعا منها كلها؟
يبدو أن هذا ممكن الحدوث!
***
نشرت ﭙيجي هيكس، مديرة أنشطة الدفاع (Global Advocacy) في جمعية “هيومان رايتس واتش” مقالا (الهيرالد تريبيون 21 يونيو) حول “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة والذي تم تكوينه في يونيو 2006 ليحل محل “مفوضية حقوق الإنسان” بهدف تصحيح عيوبها والقيام بدفع قضية حقوق الإنسان عالميا.
يتكون المجلس، الذي كانت ولادته قد تعثرت لفترة طويلة، من 47 عضوا موزعين على مجموعات إقليمية هي الأفريقية (13) والآسيوية (13) وأوروبا الشرقية (6) وأمريكا الجنوبية والوسطى (8) وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وباقي دول العالم (7). ولكي تُنتخب دولة لعضوية المجلس، يجب أن تحصل على 97 من أجمالي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعادة ما تتفق المجموعات الإقليمية فيما بينها لترشح العدد المطلوب انتخابه فقط، فتكون مهمة الجمعية العامة الموافقة أو عدم الموافقة، وليس انتخاب أو اختيار من بين المرشحين. وهكذا فإن مصر كانت أحد أربع دول أفريقية مرشحة لملء أربعة مقاعد شاغرة، نجحت في الحصول على الأغلبية الكافية؛ وهي مدغشقر (182) وجنوب أفريقيا (172) وأنجولا (172) ومصر (168).
كان الكثيرون في العالم المتحضر قد أصيبوا بإحباط شديد إزاء المجلس الجديد الذي نجح في دخوله العديد من الدول المعروفة بانتهاكاتها، أو تلك التي لا تعرف أصلا معنى “حقوق الإنسان” إلا عن طريق السمع (مثل السعودية وغيرها) ـ عبر آلية التمثيل الإقليمي، وأساليب “راعني وأراعيك”. ويؤدي ذلك أحيانا لإصدار توصيات عجيبة أو قرارات غريبة، مثلما حدث في نهاية مارس 2007 بفعل تضامن كوبا والصين وبعض الدول الأفريقية مع الدول الإسلامية الـ 17 في المجلس…
ولكن السيدة هيكس في مقالها تدعو لعدم “إلقاء طوبة” المجلس بعد، إذ تشير إلى نجاح المجموعة الدولية في منع دولة بيلاروسيا من دخول المجلس في الدورة الجديدة، بفضل تضافر جهود عدد قليل من الدول ومجموعة من الجمعيات غير الحكومية، “مما يبين أنه عندما تناصر الدولة المهتمة قيام مجلس ذي فاعلية، فإنها يمكن أن تُحدِث فرقا”. وتضيف: [لكن الطريق ما يزال طويلا. ففي نفس اليوم الذي هُزِمت فيه بيلاروسيا، تم انتخاب مصر ـ وهي “منتهكة تسلسلية”(Serial Abuser) أخرى ـ بالتزكية. ولو كان هناك عدد أكبر من الدول المستعدة للوقوف في وجه تلك ذات السجل الرديء، فإن عددا أقل من الدول المنتهِكة سيُنتخب”].
***
إذن مصر، في عرف المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان العالمية، هي من بين الدول “المنتهِكة التسلسلية”!
لكن ماذا يعني هذا التعبير؟
هو مأخوذ عن آخر أكثر شيوعا في علم الجريمة، يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وهو “القاتل التسلسلي” (Serial Killer)، يُعَرّف بكونه الذي “يقتل ثلاثة أشخاص أو أكثر، في حوادث مختلفة، عبر فترة من الوقت تتخللها فترات تبريد وتهدئة (Cooling-off) قد تستمر أياما أو أسابيع أو شهور”.
وطبقا لما يقوله علماء الجريمة والمهتمون بالموضوع من النواحي الاجتماعية والفنية (عبر الأعمال الروائية والسينمائية التي تتناول حالاته)، فإن القاتل التسلسلي هو قاتل محترف، يتمتع بأعصاب باردة في تهيئة عناصر الجريمة، وفي اختيار الضحية. ولا تردعه “عاطفة” أو علاقة إنسانية مع الضحية ذاتها، ويُنتِج الاحتراف عنده “عقلاً ميكانيكيا” مجرداً، وكأنه “غرفة عمليات سوداء” مسكونة بفكرة متسلطة تهتم فقط بالنتائج
ويستكمل هذا القاتل معنى كونه تسلسليا من قدرته على إنجاز عملياته في مناخ من الاطمئنان الذي يضمن له الاستمرار، دون أن يترك أي أثر “جنائي” يستدل منه على الجريمة، فهو لا يترك إلاّ الأثر الذي يشير بوضوح إلى “معنى” الجريمة وخط سيرها ووجهة استثمارها. أي إنه يترك دلائل، تشبه بطاقات الزيارة، في مكان الجريمة بصورة توحي بالفاعل وتشير إليه بدون أن تفضحه.
وتختلف الدوافع والبواعث للقيام بأعمال وحشية مرة بعد الأخرى.
فهناك القاتل الرُؤَيُّVisionary) ) الذي يتوهم أن هناك من يدفعونه للقتل ويوجهون حياته عن طريق سماعه لأصواتهم داخل عقله المريض. وهناك من يسمى بـ”صاحب المهمة” ( (Mission-Orientedالذي يؤمن بأن مهمته هي تخليص العالم من العناصر الفاسدة التي تعطل مسيرة الحياة أو لا تحدث فارقاً فيها، وغالباً ما يمتزج بشعوره أنه المُخَلٌِص أو المنقذ للعالم والمجتمع. وهذا النوع يكون غيرَ واعِ بالعالم والمجتمع من حوله، ومنفصلا تماماً عنه حتى وإن اندمج فيه. وهناك أيضا المريض بالصادية، الذي يقتل بدافع الاستمتاع (Thrill-Oriented) وكلما استمر في القتل كلما زادت لذته. ويصعب جدا القبض على القاتل من هذا النوع، فهو يتمتع بذكاء اجتماعي شديد، ومن المستحيل تقريباً التفرقة بينه وبين أي شخص عادي لكثرة اختلاطه بالناس وعدم ظهور صاديته على الملأ. بمعنى آخر فهو مريض نفسي (Psychopath) أي لديه اضطرابات في الشخصية ـ ولكنه ليس مجنونا. وهكذا فإنه غالبا يبدو في صورة طبيعية تماما، بل يمكن أن يكون ساحرا ولطيفا ـ مما يطلق عليه المختصون تعبير ارتداء “قناع السلامة العقلية” (Mask of Sanity).
وأيا كانت الدوافع فإن القاتل التسلسلي لا يتوقف أبداً عن قتل ضحاياه إلا إذا تمت إعادة تأهيله.
أما “المنتهِك (أو المغتصِب) التسلسلي”، الذي يمارس الانتهاك بدلا من القتل، فهو أيضا يقوم بعملياته بطريقة محسوبة، وليس عفوية، أي تدبيرية احتيالية تآمرية. وهو متمرس في القيام بهذه اللعبة الملتوية بتكرار.
ويتميز سلوكه بكونه “متثبتا” (Fixated) أي مستقرا عند مرحلة سابقة من النمو العاطفي والعقلي والثقافي؛ و “افتراسيا” (Predatory) يحب الإغارة، كما كانت تفعل القبائل الهمجية المغيرة. وهو عادة ليس فقط في موقع قوة، بل يهوى السلوك “الاستعراضي” للقوة، إذ يتعمد إهانة الضعيف الذي لا يشكل له خطرا إذ يدرك، بخبرته، عدم قدرته على الرد أو المقاومة، وعدم وجود من هو مستعد لمساعدته. وتشتمل آلية العمل ضد الفريسة على الترهيب والتهديد (Intimidation) والإفزاع، ويَعتبر أي محاولة منها للشكوى تحديا غير مقبول ويجب مجابهته بشدة. وإذا حاولت الفريسة إجباره على احترام “القواعد والأصول” المتعارف عليها، يلجأ إلى اتهامات وادعاءات باطلة بهدف قلب الأمور، ثم المضايقة الاستفزازية (Malicious Harassment) معتمدا على أن أحدا لن يصدق الضحية إذا اشتكت.
والمهم ملاحظة أن شعور الضحية بالظلم لا يفيد، لأن “القواعد” المتبعة معها من قبل المنتهك التسلسلي الذي في موقع القوة، غير القواعد المعلنة والمتعارف عليها ـ والتي هي بغرض “الاستعراض” والتباهي فقط. وإذا قبلت الضحية الخضوع “للقواعد” الحقيقية، كان بها؛ وإن رفضت فهذا في حد ذاته يصبح مطلوبا، لإثبات استحقاقها للعقاب على أي حال!
***
نأسف للتطويل عليك بعض الشيء في تحليل وتفسير المصطلح؛ لكن ندعوك أن تراجع، بتأنٍ، التوصيفات السابقة والدوافع المرتبطة بها، ومقارنتها بما تقوم به بعض الدول (وجماعات ساعية للحكم)، لعلك تتبين كيف تقترب تصرفاتُها بصورة مدهشة، بل تكاد تتطابق، مع الحالات السايكوباتية الفردية!!…
ولا داعي للتفصيل حتى لا نثير حنق “دولٍ تسلسلية”، فتخلع قناع السلامة العقلية ـ وعندها قد يحدث ما لا تحمد عقباه!…
adel.guindy@gmail.com