حلّت قبل أيام الذكرى الرابعة لرحيل الناقد والمفكّر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، وتزامنت معها الذكرى التاسعة لرحيل مفكّر كبير آخر هو العراقي هادي العلوي (1932 ـ 1998)، وثمة واقعة تخصّ الراحلَيْن يطيب لي أن أسوقها مجدداً، في هذه الأيام بالذات حيث سعار تكفير الرأي على أشدّه، وحيث يجري كمّ الأفواه في دور القضاء العالي، وليس في زنازين الإستبداد وحدها!
ففي صيف عام 1993 باشر سعيد إلقاء «محاضرات رايث» من إذاعة الـ BBC. وكما هو معروف، كانت سلسلة المحاضرات هذه واحدة من أرفع التقاليد الفكرية في بريطانيا، وقد تناوب عليها كبار مفكّري القرن العشرين، وصنعت على الدوام كتلة نقدية متحركة من الأفكار الخارجة أبداً عن سياق الراكد والمألوف والجامد. محاضرات سعيد تناولت مفهوم المثقف: أنماطه، تمثيلاته، مواقفه إزاء معضلات العقل والمجتمع والسلطة والدين، و«المزاج» الذي يتلبّسه ـ ويؤثّر بالتالي على تفكيره وأفكاره ـ حين يستوطن أو يُنفى، وحين ينضوي في قطيع أو يواصل الإنشقاق عن كلّ قطيع.
فيما بعد، تحوّلت هذه المحاضرات إلى كتاب بعنوان «تمثيلات المثقف» (أو «صُوَر المثقف» في الترجمة العربية التي صدرت في بيروت). ولكن قبل صدورها أخذت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تنشر مقتطفات مستفيضة منها كلّ أسبوع، وكان النقاش حولها قد اندلع لتوّه: ليس بصدد محتواها السجالي الجدالي فحسب، بل حول «إشكالية» أن يُعهد إلى سعيد نفسه بإلقاء هذه المحاضرات المرموقة: هو الفلسطيني، اليساري، ناقد الإستشراق، و«بروفيسور الإرهاب» حسب الآلة الإعلامية الصهيونية آنذاك. غير أن تلك حكاية أخرى. وحين اكتمل عقد المحاضرات، أذكر أن سعيد سألني في سياق مناقشة عابرة عن سلسلة محاضراته: أتظن أننا، في العالم العربي، نملك نموذج المثقف النقدي الإنشقاقي المترحّل الذي أبحث فيه، وعنه، في محاضراتي؟ وأذكر أنني ارتبكت هنيهة حيرة قصيرة للغاية، قبل أن أردّ بنبرة جازمة، أدهشتني أنا شخصياً في المقام الأول: نعم: إنه هادي العلوي… وكيف كان لاسم آخر أن يتبادر إلى ذهني بالسرعة تلك!
إنه المثقف المناضل بالمعنى القاعدي اليومي؛ المنفيّ عن “كرادة مريم” التي ولد فيها، وعن بغداد التي عشقها، بل عن العراق بأسره، وأيّ وكلّ عراق مادّي أو مُتخيَّل؛ الزاهد قولاً وفعلاً، وعلى خطى معلّمه الأكبر شيخ المعرّة أبي العلاء؛ المتصوّف بعيداً عن موضة «اكتشاف» السوريالية في النصّ الصوفي، بعد «إعادة اكتشاف» النصّ ذاته أصلاً؛ الموسوعيّ الذي انكبّ على أكثر من «استطراف» جديد للتراث العربي والإسلامي، في اللغة والأدب والفلسفة؛ الحداثي المناهض للألعاب الحداثوية التي تفقر إنسانية النصّ، وتنقلب إلى «سمكرة» محضة في سوق العرض والطلب.
وكيف كان لي أن أفكّر سريعاً بمثقف آخر غير هذا الماركسي الذي آمن أنّ الماركسية كانت وتظلّ ابنة التراث الغربي، وليس تعريبها على هدي المشاعية الإسلامية المبكّرة (وربما «شَرْقَنَتها» على هدي التاوية الصينية، وبعيداً عن ابتذال مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي) سوى المهمّة العاجلة الأولى، حتى حين تكون الأصعب والأشد انطواء على المخاطر. هذا الماركسي الذي اتخذ من الغرب موقفاً نقدياً منهجياً لا هوادة فيه (الأمر الذي جعله يذهب مراراً إلى بعض الشطط، وبعض التشدّد الدوغمائي)، حين رأى أنّ الرأسمالية لا روح لها لأنها جسد خالص حسّي لذائذي مطلق. والماركسي الذي رأى أنّ التأهيل العقلي للمثقف العربي يقتضي قراءة التحوّلات الفلسفية عند أمثال الغزالي والفخر الرازي، قبل قراءة الألماني غوتفريد ليبنتز والفرنسي ميشيل فوكو. وأخيراً، وليس البتة آخراً: الماركسي العراقي الذي انشقّ عن القطيع المتأمرك بهذا القدر أو ذاك، فميّز بين غزو الكويت عسكرياً، وبين وموقع الكويت في الخارطة التاريخية ما قبل الكولونيالية؛ بين حقّ معارضة الدكتاتور، وواجب موالاة العراق؛ وبين جرائم حصار الفقراء، ومهازل «حصار» النظام.
والعلوي رحل في العاصمة السورية دمشق، وشُيّع فيها وليس في بغداد، وهذا بُعد إضافي لغربة المثقف الدائب الإنشقاق، وسبب آخر لكي أتذكّر الموقف من المنفى كما تناوله سعيد والناقد الألماني الكبير إريك أورباخ، اللذان اقتبسا ـ بدرجة مماثلة من الإفتتان ـ نصّاً فريداً كتبه في القرن الثاني عشر راهب من ساكسونيا يدعى هوغو سان فكتور: «مَنْ يجد وطنه جميلاً فإنه في عداد المبتدئين ذوي المشاعر الرقيقة. ومَنْ يجد وطنه في كلّ أرض يقيم عليها، فهو في عداد أهل القوة. ولكن مَنْ يجد أنّ الأرض بأسرها مقام غريب أبداً، فهو وحده صاحب الكمال. ذو النفس الرقيقة حصر عشقه في بقعة محددة من العالم، وذو النفس القوية وسّع عشقه ليشمل كل أرض يطأها، وذو النفس التامّة أطفأ كلّ عشق لأنّ الإنسان غريب أينما أقام».
وغريباً كان هادي العلوي أينما أقام، في الأرض أو الفلسفة أو اللغة أو الأدب، في الحياة والسلوك اليومي والغياب؛ ومثله بدرجة كبيرة مذهلة، كان إدوارد سعيد غريباً. ذلك جعلهما أقرب إلى نسق قياس أعلى في تمثيل المثقف الغريب/القريب كلّ القرب من روح عصره، والمثقف المنتمي/المنشقّ عن السائد المُسَيّد في الروح إياها. ذلك، أيضاً، ما سيجعلهما في قلب عواصف أيّ انشقاق عقلاني حقّ، في عصور عربية آتية لا يلوح أنها سوف تخلو من روح القلق العظيم.
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري