ظلت الهند طوال العقود الماضية تنظر إلى كل من الصين وباكستان كطرفين يهددان أمنها القومي وسيادتها ووحدة أراضيها. فكيفت استراتيجياتها وسياساتها الداخلية والخارجية والعسكرية بطريقة تمكنها من مواجهة هاتين الجارتين اللدودتين. إلا أنه في السنوات الأخيرة برز تهديد جديد من داخل الحدود ممثلا في الجماعات الماوية الراديكالية التي ما فتأت تسبب الصداع للحكومات الهندية المركزية والمحلية على حد سواء، وتهدد بالمزيد من المتاعب، إلى درجة أن رئيس الوزراء الدكتور “مانموهان سينغ” وصفها مؤخرا بالتهديد الأعظم الذي تواجهه بلاده، فيما راح خصومه ومنافسوه السياسيون يتساءلون عما إذا كان لدى الحكومة خطط فعالة لمواجهة هذا الوباء الذي تسبب خلال العقد الماضي وحده في مقتل نحو 8000 مواطن، بدلا من تذكير رئيس الحكومة شعبه في كل مناسبة بخطورة التمرد الماوي فحسب. فما اصل هذه الجماعات؟ وماهي أهدافها؟ وكيف تعمل من أجل تحقيق طموحاتها؟ ومن أين تحصل على الدعم؟ ثم ما هي العوامل التي تجعل نيودلهي تشعر بالقلق منها؟
سنحاول هنا الاجابة على كل هذه الاسئلة وغيرها، خصوصا وأن الخوض فيها يستمد اهميته مما شهدته الهند مؤخرا من عملية عسكرية ناجحة قام بها 500 عنصر من الميليشيات الماوية ضد قافلة للجيش الهندي إنطلاقا من معاقلها في غابات وأحراش ولاية “تشاتيسغار” الشمالية الغربية (عاشر أكبر الولايات الهندية لجهة المساحة، والولاية 16 ضمن أكبر الولايات لجهة الكثافة السكانية) ، وهي العملية التي قتل فيها العضو البارز في حزب المؤتمر الحاكم “ناند كومار باتيل” وإبنه “دانيش باتيل” إضافة إلى “ماهيندرا كارما” قائد جماعة “سالوا جودوم” وهي جماعة مدنية موالية للدولة تلاحق الماويين وتقتص منهم.
يعود أصل هذه الجماعات الراديكالية المتمردة ضد السلطة المركزية إلى إندماج جماعة الحرب الشعبية (تنظيم شيوعي ماركسي لينيني) مع الحزب الشيوعي الهندي المركزي الماوي في21 سبتمبر 2004 وتشكيلهما لما صار يعرف بـ “حزب الهند الشيوعي الماوي”، وهو حزب غير معترف به بموجب قوانين مكافحة الارهاب، ويقوده الأمين العام “موبالا لاكشمانا راو” الشهير بـ “كاناباتي”، ويضم تحت جناحه نحو 40 ألف عضو(من بينهم 22 ألف مقاتل ومقاتلة، معظمهم من الفلاحين الأميين الجياع ممن إستطاعت كوادر الحزب إقناعهم بأنهم يزدادون فقرا بينما المسؤولون يزدادون ثراء) خصوصا بعدما حوّل هؤلاء المسؤلين نحو 10.5 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في ولاية “تشاتيسغار” إلى مخططات صناعية.
أما أهداف الحزب المعلنة فتتلخص في تأسيس جماعات ثورية دائمة في أرجاء الهند، وخوض غمار حرب شعبية طويلة من أجل إسقاط النظام الديمقراطي الحالي وإقامة نظام شيوعي حقيقي ملتزم بحماية حقوق العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة، ولاسيما الجماعات القبلية التي تسكن حزام الغابات في وسط الهند والحفاظ على ثرواتهم المعدنية التي يجري نهبها – بحسب الحزب – من قبل الشركات الرأسماية الكبرى المتواطئة مع الدولة مثل “تاتا” و “إيسار”.
ورغم أن “كاناباتي” يحدد مصادر تمويل حزبه بما يتلقاه من تبرعات الأنصار والمحازبين، فإن هناك مؤشرات كثيرة تفيد عكس ذلك، وتقول أن الحزب يحصل على الأموال عن طريق الإتجار بالأفيون، وإبتزاز الشركات العاملة في مناطق تواجد ميليشيلته، والسطو المسلح على البنوك، وطلب الفدية مقابل إطلاق الرهائن، وفرض الإتاوات.
ولعل أطرف ما في مانفيستو الحزب، وهو الحزب الشيوعي الملحد الذي لا يعترف بالأديان كافة، أنه ينظر إلى حركات الجهاد الإسلامية وعمليات تنظيم القاعدة وما شابهه على أنها إنتفاضات تحرر وطنية ضد الإمبريالية، وليست من قبيل ما يسميه الغرب بـ “صراع الحضارات”، بل ذهب أحد رموزه أبعد من ذلك حينما قال: “إن صحوة الجهاد الإسلامي يجب أن ندعمها ولا نقاومها لأنها موجهة بطبعيتها ضد الولايات المتحدة والإمبريالية”.ومن هنا قيل أن أحد مصادر السلاح والتدريب للميليشيات الماوية الهندية هو جماعة “لاكشار طيبة” الاسلامية المتطرفة العاملة ضد نيودلهي من الأراضي الباكستانية. أما المصادر الأخرى، طبقا لبعض المراقبين، فيأتي على رأسها الحزب الشيوعي الماوي الفلبيني، أحد أطول الأحزاب الراديكالية تاريخا في التمرد ضد حكوماتها في منطقة جنوب شرق آسيا، رغم نفي الأخير لأي تعاون مادي بينهما، وإن لم ينف الإرتباط والتعاطف الأيديولوجي.
صحيح أن الحكومة الهندية نجحت في مناسبات عديدة في مطاردة هذه الميليشيات وسحق عناصرها وإحباط مخططاتها، عبر استخدام القبضة الأمنية، وتأسيس جماعات مدنية موالية لها للرصد والمتابعة والابلاغ. وصحيح أنها تعمل من أجل تنمية معاقل تمركزها كي لا تترك لها ورقة تستخدمها لتحريض السكان ضد السلطتين المحلية والمركزية، غير أن الصحيح أيضا هو عدم وجود خطة منهجية متكاملة لدى نيودلهي للرد على هذا التمرد المسلح وما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات.
ولعل أكثر ما يقلق صناع القرار في نيودلهي حيال هذا الملف يمكن تلخيصه في ما يلي:
• استخدام الماويين لحرب العصابات القائمة على الكر والفر وسط الأدغال والاحراش الموحشة من تلك التي لا يمكن للجيش النظامي مواجهتها بسهولة.
• ابقاء أجزاء واسعة من البلاد، ولاسيما ولاية تشاتيسغار الغنية بالمعادن (تحتوي على 19% و11% من إجمالي ثروة الهند من الحديد والفحم على التوالي) في حالة من عدم الإستقرار وبالتالي الحيلولة دون إستثمار ثرواتها المنجمية وأراضيها الزراعية الخصبة.
• إنتقال حالة التمرد ضد السلطات المحلية والمركزية إلى المزيد من الولايات، خصوصا مع إقدام الماويين سرا في العامين الأخيرين على إفتتاح فروع لتنظيمهم المحظور داخل ولايات جديدة مثل “اوتار براديش”، و”مهاراشترا”، و”بيهار”، والبنغال الغربية” و”أوريسا”.
• الخوف من أن يؤدي إستخدام السلطات الأمنية للعنف مع الميليشيات الماوية وأنصارها إلى إسالة المزيد من الدماء، وبالتالي دفع الناس للتعاطف معها ومنحها شرعية تفتقدها.
• نجاح الماويين في إستخدام وسائل الإتصال والمعلوماتية الحديثة من تلك التي تفوقت الهند فيها لخدمة أغراضهم، وفي مقدمتها السعي لتشويه وجه النظام القائم وتصويره بالنظام الطبقي الفاسد المنحاز للأغنياء والرأسماليين والمتماهي مع مخططات الإمبريالية الغربية، وخصوصا في أوساط الأميين محدودي الإطلاع.
• إحتمال أن تستغل باكستان او الصين اوالجماعات الاسلامية الجهادية حركة التمرد الماوية لتحقيق مصالحها المتعارضة قطعا مع المصلحة الهندية العليا. فهناك مثلا من يزعم أن ماويي الهند يتلقون دعما خفيا من سدنة الماوية القدامى في بكين، إنطلاقا من نظرية أن كل ما يشغل الهند ويبدد موارها ويشتت جهودها يصب في صالح الصين في عملية تنافس القطبين الآسيويين إقتصاديا وعسكريا وعلميا.
• إحتمال أن تغري النجاحات التي حققها الحزب الماوي النيبالي لجهة إسقاط النظام الملكي في كاتماندو في تشدد الميليشيات الماوية الهندية ومواصلتها لأعمالها العنيفة على أمل تحويل وهم إسقاط النظام الديمقراطي الهندي إلى حقيقة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh