ً
في العدد الماضي تعرضت لظهور «دولة المدينة» وحكم الرسول، والخلفاء الراشدين، وأن هذا إنما حدث بحكم سياق الأحداث التي فرضته فرضًا وليس بحكم مبادئ وأصول من الإسلام.
وعندما انتفت هذه الأحداث ظهر المُلكُ العَضوض، فالقضية قضية تاريخ وليست قضية عقيدة، لأن الإسلام في حقيقته رسالة للهداية بالحكمة والموعظة الحسنة وبناء للإنسان المؤمن، وهذا ما يتحقق بالدعوة والطرق التربوية وليس بطرق الحكم والسياسة.
ولما كنت أعلم أن الإيمان بهذا صعب وعسير، وأن ما أحاط بفكرة أن الإسلام دين وأمة، ودعوي تطبيق الشريعة من جاذبية تتغلغل في أعماق كثير من المسلمين، فسأعرض في هذا العدد كيف أن أبرز محاولات تكوين دولة إسلامية في العصر الحديث فشلت، ولم تؤد المهمة التي أريدت منها.
حدثت المحاولة الأولي لتكوين دولة إسلامية في نجد بالحجاز أواخر القرن الثاني عشر الهجري وأوائل القرن الثالث عشر علي يدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي نشأ بها وأحكم الثقافة الإسلامية، خاصة فقه واتجاهات ابن تيمية ولفت نظره شيوع الخرافات والعادات والتقاليد، ورواج وانتشار الدعاوي الصوفية التي تقدس الأولياء وتنسب إليهم المعجزات، وتجعلهم شفعاء للناس، وما عنوا به من إقامة القباب علي المساجد وجعلها قبورًا لهؤلاء الأولياء، ورأى أن أي شفاعة أو نذر أو توسل بغير الله هو نوع من الشرك.
كان محمد بن عبد الوهاب محقاً في مقاومته هذه البدع والخزعبلات والمنكرات، التي تصل إلي حد الخرافة، ولكنه ذهب من النقيض إلي النقيض، كما أنه لم يقف عند الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ رأي ضرورة محاربتهم كما حارب الرسول المشركين، وعندما التقي بأمير الدرعية محمد بن سعود وأقنعه قام حلف ما بين الشيخ والحاكم، الكلمة والسيف.
فرأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه سيقوم بمثل ما قام به الرسول، ورأي الحاكم محمد بن سعود أن هذا سيقدم إليه غطاءً أيديولوجيا يمكنه من محاربة حكام هذه المنطقة، ونجحت الصفقة واستطاع محمد بن سعود بمساندة الشيخ، ثم من ولي الحكم من أبنائه، وبمعاونة آل الشيخ،
كما أصبح يطلق عليهم، أن يوسعوا حكم السعودية في عامة الحجاز ويتجاوزوها إلي أطراف شمالية تصل إلي البصرة والكوفة، وفي كل هذه الحروب كان السعوديون يسلكون مع من شنوا عليهم الحرب، كما لو كانوا كفاراُ، يقتلون الرجال ويسبون النساء وينهبون كل شيء وبوجه خاص يجردون مساجد الأولياء من كل ما وجد فيها من ذهب أو فضة.
قال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر عن غارة السعوديون على الطائف: «قتلوا النساء والرجال والأطفال وكان من بين القتلى شيوخ شهد الجميع بحرمتهم والعلوم النقلية التي امتازوا بها، ولكن الغزاة المتشددين المتحمسين لم يرحموا أحداً، لأن المرتدين في نظرهم ليس لهم أمان ولا تجوز عليهم الرحمة ولا الشفقة.
ومن بعد ما فتحوا البلاد قبضوا على ناصية الحكم فيها بيد حديدية، وطبقوا اجتهادهم الديني عليها تطبيقاً دقيقاً فمنعوا زيارة قبور الأولياء وهدموا القباب ودرسوا معالم الآثار وحتموا على الأفراد حضور صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم فمن تغيب لغير ما عذر نفذت فيه الحدود، (كتاب القضايا الاجتماعية الكبرى، طبع ١٩٣٦، ص ١٢٩).
ولك أن تتصور ما تملكهم من نشوة عندما وصلوا إلى كربلاء وشاهدوا «العتبات المقدسة»، وما أهال عليها الشيعة من ذهب وفضة، فانهالوا عليها هدمًا ونهبًا.
وحتى في الفترة الحديثة أعمل الوهابيون معاولهم هدمًا فيما خلفه الرسول والصحابة فطمسوا معالم البقيع وما فيه من قبور الصحابة، وجرفوا خمسة من المساجد السبعة التي أنشئت بالقرب من معركة الخندق وسيُهدم المسجدان الآخران، ودمروا بيت السيدة خديجة، الذي عاشت فيه مع الرسول في مكة، وقد اكتشف في عام ١٩٨٩، ووجدت فيه الغرفة التي كان الرسول يصلّي فيها، كما أنه البيت الذي ولد فيه خمسة من أطفاله، وبعد أن تم تصوير المكان، طمر بالتراب، وتم بناء مراحيض عامة في البقعة التي كان ينام فيها الرسول، وكان الهدف مرة أخري هو ردع الناس عن الصلاة في ذلك الموقع، نظراً لأن المسلمين شأنهم في ذلك، شأن اليهود، لا يصلّون في مكان غير طاهر.
في تاريخ الحجاز انهالت الثروات عليها مرتين:
الأولى: في عهد عمر بن الخطاب عندما أرسلت غنائم كسرى التي كانت الفرس قد راكموها عبر القرون.
وفي الثانية: عندما ارتفعت أسعار النفط في آثار حرب رمضان (١٩٧٣) من ثلاثة دولارات إلي أربعين دولارًا، وما أعقب هذا من ارتفاعات حتى جاوز البرميل المائة دولار.
في المناسبة الأولي وزعت الغنائم علي المسلمين جميعًا بالسوية حتى أنكر أحد المسلمين أن يكون الرداء الذي أخذه عمر مساويا لما أخذه غيره بالنسبة لطوله، وظهر أن عمر أخذ من ابنه عبد الله ما استكمل به رداءه.
هذا ما حدث في المرة الأولى.
وفي المناسبة الثانية قيل إن الثروة قسمت مناصفة: نصف للأسرة المالكة ونصف للحكومة السعودية.
ليس هذا أهم ما في الموضوع.. أهم ما في الموضوع أن الحجاز رغم الإمكانات التي جاوزت الخيال لا يزال حتى الآن دون حرية سياسية أو اجتماعية أو دينية، لا يزال يعوزها النظام القضائي الذي يحقق العدالة والمساواة وحكم القانون.. ومازالت الدولة مستوردة، رغم كل ما نسمع عن صناعات.. لا تزال الدولة متخلفة في مجال الإنتاج العلمي والصناعي والأدبي.. إلخ.
أما المحاولة الثانية فقد حدثت في الأفغان، فقد غزا الجيش السوفيتي الدولة الأفغانية بإغراء حكومة شيوعية فتحت السبيل أمامها، وكان لابد أن يثور الشعب وأن يثور العالم الإسلامي لاحتلال إحدى دوله، وتداعي الشباب المؤمن بفكرة الجهاد للعمل مع الشعب الأفغاني،
ووجدت أمريكا الفرصة السانحة لطعن عدوتها اللدودة الدولة السوفيتية وقام جهاز المخابرات الأمريكي بتزويد المجاهدين بالمال والسلاح والعتاد ونشأ حلف وثيق بين بن لادن الذي برز في مجال المقاومة وبين الولايات المتحدة، وانتصر المجاهدون بفضل شجاعتهم وبفضل السلاح الأمريكي، وعندما تم الانتصار أرادت أمريكا أن يسلم بن لادن أسلحته فرفض، فحلت عداوة مريرة محل الحلف الوثيق السابق.
في الوقت نفسه، فإن قادة المقاومة الأفغانية اختلفوا بينهم في الاستحواذ علي السلطة، وتقاتلوا وسادت البلاد حرب أهلية وظهر «أمراء الحرب»، الذين يتحكمون في مقاطعات الأفغان.
في هذا الوقت كانت مجموعة من الطلبة في إحدى مدارس «دير بوند»، التي تعتمد على السُـنة والأحاديث يرقبون المشهد المأساوي فرأي بعضهم أن يقوموا بواجبهم وهاجموا وهم قرابة خمسين شابًا أحد أمراء الحرب وغنموا أسلحته وكرروا ذلك وكل مرة يزدادون قوة حتى تغلبوا علي معظم البلاد، وقامت دولة طالبان.
ولما كانت السُـنّة هي عماد الدراسة في مدرستهم، وكانت السُـنة قد حفلت بأحاديث ضعيفة أو موضوعة دق تبينها علي المحدثين، فقد طبقت طالبان هذه الأحاديث، فمنعوا ظهور المرأة أو عملها حتى ممرضة أو معلمة، وأغلقوا دور السينما والمسارح وكل ظواهر المدنية الحديثة، وأخذوا أنفسهم بالتقشف، ولم يقسموا «الكعكة» بينهم، بل لم يكونوا وزارات ومصالح.. إلخ، فقد وجدوا فيها بدعة، وحمل رئيسهم لقب أمين المؤمنين، وانتفي منها تمامًا البذخ بكل صوره.
ومع هذا فشلت دولة طالبان.
فشلت، لأنها ببساطة ليس لديها أي فكرة عن طريقة إدارة الدولة، ولهذا لم تعترف بها أي دولة في العالم باستثناء باكستان. كان كل ما حرصت عليه السعودية وطالبان هو تأدية الشعائر والطقوس الدينية، وحجز المرأة في البيوت، ومقاومة الفنون بأطيافها.
وليس لديها فكرة عن أن عماد الدولة الحديثة هو الإنسان.. عقل الإنسان وفكره وقلب الإنسان وإرادته وكرامته التي تصان وتقدر وتحترم.. فحيثما لا يكون الإنسان لا تكون الدولة.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
العمل عبر الأمة وليس الدولة “2-3” كلام عن الطائف وان كنت لا أقبل بغير حكم آل سعود حاليا ليقيني ان زوالهم سيشرذم المنطقة التي تتكون منها الدولة ويثير عداوات ويحيي عداوات ويثير فتن نائمة وتتحول المنطقة الى دماء ما حدث في العراق ليس الا لعبة بجانبها لا سمح الله ولكن ما أورده الأستاذ جمال من أحداث تاريخية حول مذبحة تربة والطائف صحيح100%وجدتي لوالدي رحمها الله وأسرتي من هوازن من أصول الحجاز كان رجالها في مكة المكرمة عندما تم اجتياح الطائف ولم يكن في البيت الا النساء قتلت عندما أندفع الغزاة الى البيوت وكان زوج عمتي مصابا بالفالج صوبوا السلاح نحوه… قراءة المزيد ..
العمل عبر الأمة وليس الدولة “2-3”
بعيد عن شواربك حكم الحجاز بعيد عن شواربك ياجمال اخو حسن