جمال البنا
سنضرب مثالين للعمل عبر الأمة .. وليس الدولة، هما “الجمعية الفابية”، والحركة النقابية، وسيرى القارئ أن هاتين الهيئتين خلفتا أثرًا عميقاً على عالم السياسة وعالم الاقتصاد، وأنهما قدمتا إضافة منشأة ثمينة لم يقتصر أثرها على بريطانيا، ولكن على العالم الأوروبي أولاً، ثم على بقية العالم.
أسس “الجمعية الفابية” سنة ١٨٨٤ لفيف محدود من المفكرين البريطانيين، الذين أعجبوا بالاشتراكية كدعوة للعدالة قدر ما ضاقوا بالرطانة الماركسية عن «البروليتاريا» و«صراع الطبقات» واستئصال الرأسماليين وإقامة دولة البروليتاريا. لقد استبان هؤلاء ما في هذه الدعاوى من سرف وشطط وما تخلفه من آثار سيئة، فاستبعدوها تمامًا وأوجدوا نسخة من الاشتراكية البريطانية، تلحظ ظروف المجتمع البريطاني وتبرأ من التورط في العمل السياسي، خاصة عندما يقوم على صراع دموي عنيف. وكان البديل الذي قدموه هو «الحكمة والموعظة الحسنة»، ووسيلتها كتيبات تشرح فكرتهم بأسلوب بسيط واجتماعات وندوات تؤدي إلى «تسريب» الفكرة، واختراقها للأشخاص والهيئات واكتساب إيمانها الطوعي.
وكان على رأس المجموعة القليلة التي أسسها الزوجان سيدني ويب وزوجته بياتريس، وهما علمان في الفكر الاشتراكي الاجتماعي والإنساني، الكاتب المسرحي جورج برنارد شو. وهم الذين أعطوا الجمعية هذا الاسم الذي أخذوه من اسم الجنرال الروماني «فابيوس»، وهو الذي تصدي لهانيبال الذي أوقع الهزائم المنكرة بالجيش الروماني في معركتين فاصلتين، فلجأ الرومان إلى فابيوس الذي وضع خطة يتفادى فيها اللقاء المباشر، ويناور ويحاور حتى يستنزف قوى عدوه وعندئذ يضرب ضربته.
في سنة ١٩٢٠ انضمت “الجمعية الفابية” إلى حزب العمال الذي كانت الحركة النقابية قد أسسته، وأصبحت بمثابة الهيئة الأيديولوجية له، كما رزق العمال كاتبًا ومؤرخًا مرموقاً هو «ج. د. كول».
وظلت الحركة الفابية تعمل بوسائلها حتى شاعت الفكرة وآمن بها عدد كبير من الجمهور البريطاني، كما آمنت بها الحركة النقابية. وفي سنة ١٩٤٥، حانت ساعة انتصارها عندما اكتسح العمال الانتخابات السياسية وهزموا تشرشل، الذي كان معبود الشعب البريطاني والذي قاده إلى الانتصار في الحرب العالمية. ولكن الشعب البريطاني كان من نضوج الفكرة وقوة الشخصية بحيث قال إن تشرشل هو بطل الحرب، وقد كسبها، ونحن الآن نواجه السلام .. وأبطال السلام هم أبطال العمال.
وبدأ العمال المتأثرون بفكر الفابية السلطة، وأعلنوا للمرة الأولى «دولة الرعاية» ووضع الميزانية على أسس جديدة «طبقاً للأيدي العاملة وليس طبقاً للنقود»، أن تكون «ميزانية إنسانية»، وأصدر السير وليم بيفردج كتابه «العمالة الكاملة في مجتمع حر» الذي وضع فيه أساساً اشتراكياً لاقتصاد تنتفي منه سوءات الرأسمالية من أزمة وبطالة.
ووضع نظام للتأمين الاجتماعي يغطي جميع المجالات من مرض أو شيخوخة، كما قدمت الدولة «اللبن» لكل الأسر، بحيث كانت كل أسرة تجد زجاجات اللبن الكافية أمام بابها.
كان حكم العمال سنة ١٩٤٥ ثورة سلمية في التنظيم السياسي أثبت إمكان قيام دولة للرعاية، وليس للقهر والاستغلال، وتحقق هذا كله بوسائل سلمية من دعاية وفكر إلى انتخابات حرة.
والحركة الثانية التي عملت مع الجماهير، وبالجماهير، وبعيدًا عن أي علاقة بالدولة هي الحركة النقابية. وأعلم أن سيادة الروح المظهرية والطبقية على المجتمع المصري جعلته ينظر بازدراء إلى النقابات ويظن أنها جماعة من الحدادين والسباكين و«الصنايعية» يؤلفون جمعية للدفاع عن حقوقهم وتحسين حالهم، أو يحكمون على الحركة النقابية بواقع الحركة النقابية المصرية، وهذه كلها تصورات خاطئة. فالحركة النقابية حركة إنسانية، بل لعلها أكثر الحركات الإنسانية مباشرة وقد ظهرت كرد فعل لظهور الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر، وأحلت الآلات الحديدية محل «العدة» الحرفية، فدمرت الحرف وشردت العمال واصطحبت الآلات الحديدية بظهور «الرأسماليين» الذين يملكون المصانع، وتقطب معسكر العمل ما بين عمال دمرت طرق إنتاجهم وشردوا ورأسماليين يملكون المصانع ويتحكمون في ظروف عمل العمال. ولما كان عدد العمال أكثر من عدد الوظائف كان قانون العرض والطلب ضدهم، فضلاً عن أن وضعهم كان بائسًا، لهذا استغل الرأسماليون العمال وشغلوهم ساعات طوال مرهقة، وفي ظروف سيئة تضر بالصحة .
وانبثقت من أعمق أعماق الوعي العمالي فكرة هي أن يكوّنوا هيئة واحدة تتحدث باسمهم جميعًا، فهذا ما سيعطيهم قوة، كما يمكن أن يضع في أيديهم سلاحًا فعالاً هو الإضراب. وبعد أن كان الرأسماليون أحرارًا يوظفون من يشاءون ويفصلون من يشاءون، وجدوا أمامهم هيئة تتحدث باسم العمال، وتقول إن العمال يريدون تحديد ساعات العمل، وتحسين ظروف العمل .. إلخ،
فإذا رفض الرأسماليون فإن العمال سيضربون، وأدى هذا التكنيك إلى شل قانون العرض والطلب الذي كان ضد العمال. وحاول أصحاب الأعمال الرفض فقام العمال بالإضراب وخسر أصحاب الأعمال أضعاف الزيادات المطلوبة للأجور، وهكذا تقبلوا الوضع. وجلس أصحاب الأعمال مع العمال على مائدة «المساومة» الجماعية لتسوية قضايا الأجور وساعات العمل والإجازات .. إلخ،
وكل فريق حريص على نجاح المفاوضة، لأن فشلها كان يعني الإضراب من العمال أو الإغلاق من أصحاب الأعمال وسيدفع كل فريق ثمنه. وكانت المفاوضة تأخذ طابع التساوم والتنازل للوصول إلى الحل المشترك، وعند الاتفاق توقع «اتفاقية جماعية» لمدة من سنة إلي ثلاث سنوات، وعندما تنتهي المدة يجلس الفريقان مرة أخرى لتجديد الاتفاقية، ويفاجأ أصحاب الأعمال بالعمال يطالبون بزيادات جديدة في الأجور وتقصير ساعات العمل .. إلخ،
ويدعمون ذلك بما تحقق للمؤسسة من ربح نتيجة لعمل العمال ولزيادة خبراتهم ولزيادة مسؤولياتهم .. إلخ، ويحاول الرأسماليون التملص ولكنهم يجدون أن إضراب العمال أفدح من الاستجابة، خاصة وأن العمال لم يبالغوا في الزيادات، وهكذا توقع اتفاقية جديدة بزيادة جديدة، وهكذا توصل العمال إلى زيادات دورية (كل سنتين أو ثلاث) في الأجور، وإنقاص في ساعات العمل، وتحسين في ظروف العمل .. إلخ،
وكان هذا يعني أمرًا واحدًا الارتفاع التدريجي لمستوي المعيشة وتحسين ظروف العمل وارتفاع منزلة العمال. وكما يقولون، عندما يرتفع أجر عامل الفحم يرتفع أجر «الأسقف»، لأن زيادة أجر فئة أو مجموعة لا تلبث أن تمتد حتي تشمل الجميع. وبهذا لا يكون عمل الحركة النقابية مقصورًا على أعضائها، ولكنه يمتد لكل العاملين ويأخذ صفة قومية.
وأراد الرأسماليون أن يخدعوا العمال فتقبلوا الزيادات في الأجور، ولكنهم لجأوا إلى رفع الأسعار، ووجد العمال أنهم خسروا بالشمال ما كسبوه باليمين، وتنبهوا إلى وضع مادة في الاتفاقية الجماعية يطلق عليها مادة الميزان المتأرجح Gliding scale تنص على أنه إذا زادت أثمان الفحم والزبد واللحم .. إلخ، على نسبة ٣ % وقت توقيع الاتفاقية، فإن الأجور تزيد تلقائيا بالنسبة نفسها/ ولدى اتحاد العمال، كما لدى اتحاد أصحاب الأعمال الآلات الحاسبة التي تحتسب الزيادة/ وحاول الرأسماليون الرفض ولكن العمال تمسكوا بها واستسلم أصحاب الأعمال، وبهذا لم يجابه المجتمع مشكلة «دعم» الفئات محدودة الدخل لأن الحركة النقابية خلفها .
هل تريد كل الدعوات إلا هذا؟
هل يمكن أن تفعل الاشتراكية شيئاً أكثر من هذا؟
هل تستطيع الديمقراطية أن تجعل العامل مواطناً ديمقراطيا أكثر مما فعلته النقابة عندما جعلت له صوتاً ومشاركة في تحديد موارد عيشه.
إن الحركة النقابية في بريطانيا كافحت طوال مائتي سنة قبل أن تصل إلى تكوين نقابات راسخة تقف للرأسمالية، لأن الحكومات والرأسماليين بالطبع أعلنوا عليها الحرب، وكان عليها أن تدفع الثمن وأن يزج بأعضائها في السجون وأن ينفي بعضهم إلى مجاهل أستراليا. وكان القانون البريطاني يعتبر النقابات «مؤامرة لتعويق حرية التعامل» تحل ويجازي أعضاؤها بالسجن أو النفي، وظل هذا القانون ساريا طوال خمسة وعشرين عامًا حتي توصل العمـــال إلى إلغائه.
***
كان يمكن للإخوان المسلمين أن يفعلوا مثل ما فعلت الجمعية الفابية. وكنت أقول إن الإخوان المسلمين هي الهيئة الوحيدة التي يمكن أن تمحو الأمية، لأن الإيمان بها جعل الشيخ في الصعيد يلبس الشورت ويمارس التمارين السويدية. فلو جعلوا محو الأمية هدفهم لتمكنوا من ذلك وكسبوا مجدًا لهم ولأمتهم، ولكنهم قضوا خمسين عامًا من الصراع على السلطة، أوهن السلطة وأوهنهم، وأخّر البلد.. وهذا كله للتصور الزائف الذي استقر في أذهانهم عن تكوين دولة تطبق الشريعة.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة