يفخر الاشقاء من مسيحيي مصر بعصر الشهداء، ويفخر به ايضا مسلموها. فكل له اسبابه، بغض النظر عن ما في النية من حسن او سوء. ولان للفخر منطلقات دينية نابعة من الهدف الديني، فلم يسلم المصريون من تبعات فخرهم، فعانوا من فتن هي اصلا من صلب الاديان. والفتن كما تعودنا علىها من اصولها القادمة إلىنا في جزيرة العرب مقرونة دائما بالعنف مع التصفية للخصوم حيث ينتمي كل خصم إلى مذهب ديني ولو داخل الدين الواحد. لهذا ظلت الاديان تحمل قدرها من العنف إلى حد ان تصور بعضهم ان احداث العمرانية بحي الجيزة الاخيرة هي “تورا بورا” مصرية.
استشهد الشهداء قديما في مواجهة الرومان لانهم محتلون، بينما تبادل الاشقاء الاقباط حديثا الطوب والحجارة مع جنود الأمن المركزي وقلّ عدد الشهداء بالرصاص، وليس على الصليب إلى مواطن واحد لا غير. ولأننا لسنا على علم ودراية كافية باسباب المعركة، الا ان الثابت انها معركة اصيب فيها قادة من الامن وجنود ومواطنون. وخرجت الاخبار تؤكد ان مسلمين ايضا شاركوا في الدفاع عن الاقباط في مواجهه الأمن.
لو راجعنا ملف الفتن الاسلامية منذ عصر السادات في “حادثة الزاوية الحمراء: انتهاءا بـ”تفجيرات الحسين” التي راح ضحيتها سائحة قرنسية، لادركنا ان لا سبب له سوى الفشل السياسي في التعامل مع الداخل ومع الخارج على السواء. فالمشكلات السياسية مع الخارج تمت تسويتها بفوضى لازالت تقذف بحممها إلى الداخل. اما الداخل فظل عاريا تقبل خنادقه كل ما يلقي إليها من الخارج لتنميته واعاده استثماره كجرائم تشعل النسيج الوطني. فالملفات القديمة الباقية منذ الفرمان العالى المعروف بـ”الخط الهمايونى”، والتي هي من كراكيب زمن ما قبل يوليو، إضافة إلى مخلفات زمن يوليو، كلها اصبحت قابلة للاشتعال تنتظر اتفه الاسباب لتنطلق الشرارة إلى ما ليس قابلا للاشتعال فتحرقه ايضا. لكن ان يصل الامر إلى خروج ألوف المسيحين المصريين للعراك مع امن الدولة لاسباب دينية فهي نقلة نوعية علينا بقتل أسبابها على الفور.
لم أستوعب أن يجري شارع الهرم ومنطقة “العمرانية” إقتحام مبنى محافظة الجيزة، وهو تحول نوعي بختلف تماما عن ما نسمعه او نقرأه عن عصر الشهداء. فالمسيحيون المصريون، سلالة الفراعنة العظام، هم اكثر الفئات المصرية احتراما للدولة ولمعانيها السياسية رغم ما شاب تاريخهم الديني من اعمال تنفي هذه الفرية ايضا. لكن الفوضى الادارية والعنف الثقافي في الخطاب إليومي الذي ساد الحياه المصرية اوصل الامور إلى الحد الذي جعل رمانة الميزان في الحياة المصرية تنحدر إلى مستويات من التمرد غير مسبوقة في تاريخ المصريين.
فمن حق الأقباط أن يغضبوا لامور كثيرة غير مبررة فى مسائل متعددة، كالترقيات في الجامعات وشغل المناصب وبناء الكنائس وحق الكتابة في الصحف بما يتناسب والتعابير المسيحية التي تختلف جذريا مع العقيدة الاسلامية. وهي امور تعطي الجاهل والمسطح حضاريا وثقافيا من مواطني الدولة جرأة باستضعاف شقيقه المواطن المسيحي. فاذا كانت الدولة تستنفر قدراتها لمنع حقوق طبيعية للمسيحيين، فلماذا لا يفتئت عليها الجاهل والامي من الديانة الاخري (وللاسف فهم كثر) لتنفيذ ما بقي وما توحي به سياستها ازاء الاقباط. الم يفتِ الغزإلى الذي يوصف بالجليل بان قاتل فرج فودة افتأت على السلطة، اي قام بما لم تقم به السلطة من واجبات شرعية؟
قامت الدولة الحديثة على اربعة اعمدة هي الدفاع، الامن، التعليم والصحة. ورفع محمد علي القواعد من البيت على هذه الأسس، وتوقع الجميع استكمال البناء وكسوته بكسوة مشرفة بقانون عام يضمن الحقوق للجميع دون أدنى تفرقه. فاللوم إذن لا يقع على عاتق مواطن جاهل يحمل رشاشا ليقتل مثقفا لأن دينه الذي هو مصدر من مصادر التفرقة يوحي له باخذ زمام الفعل بدءا من لسانه انتهاءً بيده. فالدولة الحديثة التي تعرف القضاء كفيلة بوقفه عند حده اما بالتعليم واما باقامة العدل الذي يساوي بين المواطنين. هذا العجز دفع بالأقباط أن يهبوا للدفاع عن كنائسهم، رغم ان المسلم والمسيحي يدفعان سويا تكلفة حراسة نشهدها جميعا امام دور العبادة المسيحية وليس امام المساجد التي تتمتع بامن تام، مما يعطي انطباعا لكل زائر ان العدوان صادر من طرف ضد طرف آخر. ومع ذلك فان وسائل الاعلام تؤكد روح التسامح في الاسلام. ان حقائق اوضاع الحراسة والامن تقول ان التسامح الان اصبح مسيحيا وليس اسلاميا.
فمصلحة هذا الوطن ليست رهنا بحراسة دور عباده انما هي مرهونة بمن يصلي في الداخل. وعلى من يدعو في صلاته. فغير مفهوم مراقبة الالغام في الخارج بينما يزرعها المؤمنون في الداخل، وفي بيوت السكن ايضا. بعد صلاة الجمعة، في احد ايام هذا الصيف، قطع احدهم الخطبة وخرج قبل اقامة الصلاة وقرر ان يصلي خلف جهاز التليفزيون في منزله لان الإمام الذي في الجهاز هو احد نجوم الفتن. فالرجل خرج من المسجد دون اشباعٍ كاف لعدوانيته التي يغذيها الاعلام المئي والمسموع. فنيران الفتنة يشعلها الموظفون في الاعلام وفي الروتين الاداري وفي تنفيذهم لقوانين يعرفون مسبقا انها تصادر حقا. فلماذا لا يصادرون هم وعلى مسؤوليتهم نفاقا للنظام وللدولة وللدين ايضا.
في الاحداث الاخيرة لم يقم احد بدور الشهيد كاطفاء لنار وجعلها مجرد رماد. بل اصبحت عنفا لاسباب يمكن للمحافظ او اي مسؤول اداري او موظف روتييني فاسد ان يقيم حجته على انها افتئات على القوانين وعلى الدولة بينما هي في حقيقتها اعتراض على اوضاع لم يعد ممكنا بقاؤها لان البعبع الذي في الخارج والذي ترهب به السلطة المواطن سيأخذها ماخذ الجد ويستفيد منها، بغض النظر هل هو جهاز الموساد كما حاول مصطفي الفقي الصاق التهمة به في محاضرته بالامس، واما بلحركة الوهابية الارهابية التي تريد هدم كل ما لا يتفق واسلامها الجديد غير الحنيف الذي لم تعرفه مصر طوال تاريخ اسلامها.
elbadry1944@gmail.com
* القاهرة