فصل من كتاب جورج طرابيشي الجديد “هرطقات 2”. المدهش أن الكتاب عُرِِضَ في معرض الكتاب بمدينة الرياض في حين يبدو أنه جرى منعه في معرض الكتاب بالكويت! فماذا يحدث في الكويت؟
*
عندما يدور الكلام عن العلمانية فغالباً ما يتم تناولها بوصفها آلية -من طبيعة قانونية في المقام الأول- للفصل بين الدين والدولة، وبالتالي لتسوية العلاقات بين الأديان المختلفة، كما بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد. ولكن وجهاً آخر للعلمانية يمكن أن يكون مهماً كل الأهمية للعالم العربي-الإسلامي، وذلك من حيث أنها عنصر فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف. فمن منظور هذه الجدلية حصراً، وبالعودة إلى الأصل الغربي للعلمانية كما للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسائر مذاهب الحداثة، نستطيع أن نطرح السؤال التالي: لئن تكن أوروبا الغربية هي التي سبقت إلى اجتراح مأثرة الحداثة، فهل مرد تقدمها هذا إلى أنها كانت مسيحية، كما يرى ذلك بعض فلاسفة الحضارة ومن طاب لبعض المستشرقين أن يصطاد أطروحتهم هذه في المياه العكرة لما سيسميه صمويل هنتنغتون بـ”صدام الحضارات”؟ أم أن مرد تقدمها ذاك هو إلى أنها كانت هي السباقة أيضاً إلى التعلمن كما نرى نحن؟
وبالفعل، وفيما يخص الإطار الجيو-ثقافي، العربي-الإسلامي، فإن لهذا السؤال أهمية قصوى: فلئن تكن أوروبا الغربية قد تقدمت لأنها كانت مسيحية تحت مظلة كاثوليكية-بروتستانتية مزدوجة أو متناحرة ، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستظل معدومة إن لم يكن إلى الأبد، فلأجل غير مسمى من الزمن. بل أكثر من ذلك بعد: فبما أن الإسلام يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة العربية، فإن العالم الإسلامي العربي سيبقى مستبعداً من حلبة السباق الحضاري أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربي، باعتبار صميمية علاقته اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن تنجز “فطامها” بسهولة أكبر، كما يشهد على ذلك المثال التركي بالأمس والمثال الماليزي اليوم.
أما إذا كانت أوروبا تدين بتقدمها لعلمنتها، لا لمسيحيتها، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو-ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستكون موفورة بتمامها إذا أنجزت هذه القارة نفس سيرورة العلمنة التي أنجزتها القارة الجيو-ثقافية الأوروبية الغربية، وربما في مسافة زمنية أكثر قابلية للانضغاط بحكم المفعول التسريعي لقانون التطور المتفاوت والمركب .
إذن ما الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية؟ بل ما تعريف هذه الحداثة أصلاً؟
بين عشرات التعاريف التي يمكن أن تعطى للحداثة يستوقفنا من وجهة النظر التي تعنينا هنا التعريف الذي اقترحه مرسيل غوشيه عندما أقام بين التحديث والعلمنة علاقة ترادف: الخروج من الدين . ذلك أن القارة الجيو-ثقافية الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين، وما كان لها أن تشق طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى.
وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة sécularisation التي يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه ولكن بالرجوع هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة.
هذه الجهادية الدنيوية، التي لا نتردد في أن نقول بأنها أحدثت في مسار البشرية انعطافاً بمائة وثمانين درجة، تلبست شكل علمنة على مستويات عدة:
أولها –ومهما بدا ما في ذلك من مفارقة- هي العلمنة الدينية. فلوثر، بكسره احتكار الكنيسة الكاثوليكية للإيمان الديني، ردّ هذا الإيمان إلى الشخص البشري، وأوكل إلى عقله المتمتع بالسؤدد الذاتي مهمة تأويل النصوص المقدسة. وقد ترتبت على ذلك نتيجة خطيرة من منظور الحداثة: فالأب الذي صار هو المسؤول –لا الكاهن- عن التعليم الديني لأولاده، صار ملزماً بأن يتعلم قراءة النصوص المقدسة بنفسه وبأن يعلِّم هذه القراءة لأولاده بدورهم. وهكذا اقترن الإصلاح البروتستانتي بثورة حقيقية على صعيد محو الأمية وتحطيم احتكار رجال الدين لعملية القراءة والكتابة.
وثانيها العلمنة الثقافية. فمنذ بوكاشيو (مؤلف الديكاميرون) في القرن الرابع عشر إلى رابليه (مؤلف غرغنتوا) في القرن السادس عشر تطورت حساسية أدبية جديدة، ذات منزع دنيوي ومنعتقة من ربقة التصور الديني للعالم. وهذه الحساسية الجديدة هي التي تمخضت، مع سرفانتس ودونكيشوته في القرن السادس عشر، ودانييل دوفو وروبنسونه في القرن السابع عشر، عن ظهور نوع أدبي جديد هو الرواية التي هي بالتعريف فن متمحور حول الإنسان في مصائره الدنيوية.
وثالثها العلمنة اللغوية. فتلك الحساسية الأدبية الجديدة ترجمت أيضاً عن نفسها بالتمرد على لغة المقدس التي كانتها اللغة اللاتينية، وبتكريس اللغات العامية الدنيوية ورفعها إلى مستوى لغات قومية تكرس بدورها القطيعة، على مستوى الشعوب والدول، مع وحدة الكنيسة المسكونية وإمبراطوريتها المقدسة.
ورابعها العلمنة “الإنسانية”. ونحن نضع هذا النعت بين مزدوجين للإشارة إلى أنه، وإن يكن مضافاً من حيث الاشتقاق إلى الإنسان، فهو مضاف في الدلالة إلى “الإنسانيات” Humanités؛ وهو الاسم الذي أُطلق، في سياق العلمنة الثقافية واللغوية، على دراسة الآداب اليونانية والرومانية القديمة. والواقع أن الإنسانيات بهذا المعنى تعادل عملية إحياء حقيقية للثقافة الوثنية للعصور القديمة، وردّ اعتبارها كاملاً إليها بعد أن كانت تمثل بالنسبة إلى الثقافة الدينية المسيحية للقرون الوسطى ما تمثله “الجاهلية” بالنسبة إلى الإسلام.
وخامسها العلمنة العقلية. في سياق هذه العودة إلى الجاهلية الوثنية أعيد اكتشاف الفلسفة اليونانية. والحال أن الفلسفة هي بالتعريف “التفكير بالعقل في العقل” من حيث أن العقل معطى أول ومطلق. ومع هذا الإعلان للسؤدد الذاتي للعقل كفت الفلسفة عن أن تكون خادمة اللاهوت لتعمل في إمرة العقل وحده وتحت سيادته. وقد لا نغالي إذا قلنا إنه منذ تلك اللحظة التي باتت فيها سلطة العقل لا تعلو عليها سلطة أخرى، بدأ تاريخ جديد للإنسان من حيث أنه، بين سائر الكائنات الحية، هو الكائن الوحيد الذي يصنع نفسه بنفسه ويعيد خلق نفسه بنفسه بقوة عقله.
وسادسها العلمنة العلمية. ففي الوقت الذي تغيرت فيه صورة العالم القديم مع اكتشاف كريستوف كولومب للقارة الأمريكية في نهاية القرن الخامس عشر، جاءت الثورة الكوبرنيكية لتسدد طعنة صماء إلى الصورة التوراتية للكون ولتحدث انقلاباً في المركزية بحيث فقدت الأرض حظوتها التي حبتها بها نظرية الخلق التوراتية / الإنجيلية / القرآنية وغدت مجرد كوكب يدور بصَغار وجبرية حول مركزه الشمسي، بدلاً من أن تكون مركزاً تدور حوله وتتعبد له سائر أفلاك الكون. وهذه الثورة الكوبرنيكية، التي عززتها “الهرطقات” الكوسمولوجية لغاليليو الذي اضطر إلى جحد اكتشافاته العلمية تحت ضغط محاكم التفتيش، وجدت تتويجها في الانقلاب الذي لا يقلّ ثورية الذي أنجزه داروين في القرن التاسع عشر، والذي أجهز بصورة نهائية على قصة الخلق التوراتية عندما ردّ –وقد استغنى عن أسطورة آدم كأب للبشر- أصل الإنسان إلى الحيوان. ورغم كل إدانات الكنيسة وسائر الأجهزة الدينية في العالم، فإن الثورة الكوبرنيكية / الغاليلية / الداروينية استطاعت أن تكتسح جميع المقاومات وأن تكرس حق العلم، وبالتالي العقل البشري، بالتحرر من الأساطير الغيبية وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية.
وسابعها العلمنة الطبقية. فلأول مرة في التاريخ رأت النور طبقة دنيوية خالصة، حصرت جهادها بالأرضيات دون السماويات، ومَحْورت فلسفتها حول المادة لا الروح، هي البورجوازية. ففضلاً عن تثويرها لتقنيات الإنتاج وللعلاقات الاجتماعية، أرست شكلاً جديداً للحكم يتمثل بالديمقراطية التمثيلية التي تستند إلى مرجعية مباطنة، محورها المواطن، لا إلى مرجعية مفارقة مصدرها إلهي. ولئن أمكن للبورجوازية أن تكون سباقة إلى رفع شعار العلمانية وأن تستغني بقدر أو بآخر، وبكيفية ثورية أو تدرجية، عن خدمات الكنيسة، فلأنها ولدت من الأساس كطبقة منتجة، على عكس الطبقة الإقطاعية القديمة الطفيلية التي كانت طفيليتها بالذات تجبرها على التحالف مع الطبقة الكهنوتية تمويهاً لواقعها وشرعَنَةً لاستغلالها. أضف إلى ذلك أن أسلوب إنتاجها بالذات كان يفكّها من أسر التصور الديني للعالم، وذلك بالتضادّ مع الطبقة المنتجة القديمة –أي الفلاحية- التي كان أسلوب إنتاجها هي، يربطها بالسماء، أو بالأحرى بمطر السماء الذي كان البشر يرهونه –قبل أن يتطور علم الأجواء العليا- بإرادة إلهية.
وثامنها العلمنة القانونية. ففي نهاية القرن الثامن عشر جاء إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية ليحوّل المركزية من الله إلى الإنسان، ولينقل مبدأ السيادة وحق التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الأمة وممثليها في المجلس النيابي. وقد نصّ البند الثالث من إعلان حقوق الإنسان والمواطن أن: “مبدأ كل سيادة يكمن أساساً في الأمة، ولا يحق لأي هيئة ولأي فرد (ولو كان الملك) أن يمارس السلطة ما لم تكن منبثقة صراحة عنها”. ومنذئذ بات التشريع وما يستتبعه من سنّ للقوانين موضع تطوير وعقلنة دائمين بالاستناد إلى مرجعية بشرية خالصة، وطبقاً لحاجات الزمان والمكان، ومن منطلق القيم التي يحددها البشر لأنفسهم بأنفسهم دونما تقيد بوثنية أي نص أول.
وتاسعها العلمنة السياسية. فتواقتاً مع العلمنة القانونية التي حصرت مبدأ السيادة بالأمة، واستتباعاً للعلمنة اللغوية التي كرست العامية لغة قومية، كان لا بد من اختراع وتكريس إطار جيوبوليتيكي جديد للدولة تمثل في ما سيُعرف لاحقاً باسم الدولة/الأمة أو الدولة القومية التي قدمت الثورة الفرنسية نموذجها الأول قبل أن تعممها في شتى أنحاء أوروبا الغربية والوسطى، وحتى الشرقية، ثوراتُ 1948 القومية والديمقراطية. وبديهي أن تبلور الدولة القومية جاء نتيجة مخاض طويل تمثل أولاً في تقلص السلطة الزمنية والرقعة الجغرافية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ثم في ظهور الممالك السلالية التي صادرت من بابا روما حق الحكم الإلهي، وبات ملوكها يصفون أنفسهم، أو يصفهم البابا نفسه تسليماً بالأمر الواقع، بأنهم ملوك المسيحية . ولكن رغم هذه المرجعية الإلهية المعلنة فإن الممالك السلالية قد مهدت لتَعَلْمُن ولتَقَوْمُن الدولة في أوروبا، وذلك بقدر ما مثلت انشقاقات دولانية عن الإمبراطورية البابوية المقدسة، وهي الانشقاقات التي تطابقت حدودها في أغلب الحالات مع الحدود اللغوية القومية. وإنما في إطار هذه الانشقاقات المُرْكِسة عن المركز البابوي أمكن، بين ثورتي 1789 و1848، اختراع وتطبيق مبدأ سيادة الأمة التي لا تعلو على مرجعيتها الدنيوية أية مرجعية أخرى حتى ولو كانت من طبيعة لاهوتية. ومبدأ الدولة القومية المعلمنة هذا هو الذي سيحيل إلى متحف التاريخ آخر الإمبراطوريات المقدسة في التاريخ، سواء منها الإمبراطورية الإسبانية-البرتغالية الكاثوليكية التي انفصلت عنها مستعمراتها الأمريكية لتؤسس نفسها في دول قومية، أو الإمبراطورية النمساوية الكاثوليكية أيضاً، أو الإمبراطورية البروسية البروتستانتية، أو الإمبراطورية العثمانية الإسلامية السنية. وحتى الإمبراطوريات التي حافظت على وحدتها ولم تتفكك، مثل الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية، والإمبراطورية الصينية الكونفوشية، فقد كفت عن أن تكون مقدسة، ونسبت نفسها ومبدأ الشرعية فيها إلى إيديولوجيا دنيوية خالصة هي الماركسية.
وعاشرها وآخرها العلمنة الجنسية. وربما تكون الكشوف التحليلية النفسية لسيغموند فرويد وحفرياته في قارة اللاشعور في مطلع القرن العشرين هي التي قدمت لهذه العلمنة ركيزة سيكولوجية مماثلة لتلك التي قدمتها للعلمنة العلمية الثورة الكوسمولوجية الكوبرنيكية والثورة البيولوجية الداروينية . وقد تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معاً. فباستثناء ممارسة الجنس مع القصَّر أو بالاغتصاب، لم يعد أي شكل من أشكال هذه الممارسة يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. يصدق ذلك سواء أعلى العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج أم على الممارسات الجنسية المثلية أم تلك الموصوفة بـ”الشاذة”. وبالإضافة إلى رفع يد الكنيسة عن الحياة الجنسية للإنسان وإقرار مؤسسة الزواج المدني، فقد جرى قانونياً استبعاد مفهوم الخطيئة عن شتى أشكال العلاقات الجنسية، وتم إقرار الحرية التامة في هذا المجال، بما في ذلك حرية الاعتقاد بالخطيئة لدى المؤمنين، شريطة ألا يحدّ هذا الاعتقاد من حرية الآخرين في الممارسة الجنسية. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن العلمنة الجنسية جعلت من الإنسان سيد جسده، مثلما جعلت منه العلمنة العلمية والفلسفية سيد عقله، بدون أية مرجعية مفارقة أو متعالية إلا لمن يريد أن يقيد ممارسته الجنسية عن طوع إرادة واختيار بمثل تلك المرجعية. وإنما ههنا، أي في مجال الممارسة الجنسية، يمكن أن نتحدث ليس فقط عن “خروج من الدين”، بل كذلك حتى عن “خروج على الدين”. فالأصل في الجنس المعلمَن هو الإباحة، والإباحة تلغي الخطيئة ومفهومها. وغني عن البيان أن هذه العلمنة الجنسية هي التي اصطدمت ولا تزال تصطدم بأعتى مقاومة من الكنيسة، وبشكل خاص في البلدان ذات الموروث الطُّهراني، ومن سائر الأجهزة الدينية الأخرى في العالم، لأنه بدون مفهوم الخطيئة أو الحرام يفقد الدين –ومعه كل سلطة دينية- ركيزة حيوية من ركائزه.
إن هذه السلسلة المتتامة من أشكال العلمنة -مقترنة بالثورة الصناعية- هي التي آلت بأوروبا الغربية إلى اجتراح مأثرة الحداثة، وهذا قبل أن تجد سيرورة العلمنة هذه تتويجها القانوني ابتداء من مطلع القرن العشرين في الإشهارات الرسمية لمبدأ فصل الدولة عن الكنيسة كما حدث في فرنسا عام 1905.
هذا التمييز بين العلمنة كسيرورة تاريخية وحضارية وبين العلمانية كآلية قانونية ضروري لا لتفهم واقعة الحداثة الأوروبية وحدها، بل كذلك لتفهم واقعة تعلمن المجتمع بالتوازي والتواقت مع تعلمن الدولة في البلدان الأوروبية على خلاف ما حدث في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية حيث أجبرت الدولة المجتمع على اعتناق العلمانية وفرضتها عليه فرضاً كإيديولوجيا أو حتى كدين بديل.
وبالإحالة إلى العالم العربي-الإسلامي لنا أن نلاحظ أن جميع بلدانه قد عرفت أشكالاً متفاوتة من العلمنة، وإن لم يكن أي منها قد انتهى إلى إشهار علمانيته بصورة جذرية ونهائية. ولئن تكن هذه البلدان متفاوتة تفاوتاً ملحوظاً في حظها من التقدم والتخلف، فلا شك أن أحد المعايير التي يمكن اعتمادها في قياس هذا التفاوت هي درجة التعلمن. فباستثناء البلدان الخليجية التي أنجزت قدراً من التحديث المادي العمراني البحت بفضل عامل “برّاني” لا يقاس عليه هو المنّ النفطي، فلنا أن نلاحظ أن البلدان العربية الأقل تخلفاً هي بصفة عامة الأكثر تعلمناً، والبلدان الأكثر تخلفاً هي بصفة عامة أيضاً الأقل تعلمناً. ولكن خلافاً للدعوى التي يروج لها اليوم الأصوليون وبعض المفكرين الشعبويين الذين يسعون إلى استرضاء جمهور الأصوليين، فإنه لا وجود لأية دولة عربية علمانية، بما في ذلك بطبيعة الحال الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية المشتطّة التي بات يطيب للأصوليين وللشعبويين على حد سواء نعتها بأنها علمانية، وهذا حتى يعللوا دكتاتوريتها الواقعية بعلمانيتها المزعومة
وأما أنه لا وجود لأية دولة عربية علمانية بالمعنى الناجز للكلمة فالدلائل والقرائن عليه أكثر من أن تُحصى.
ونحن لن نتحدث هنا عن الدول الخليجية النفطية التي لم يخرج أي منها من تحت عباءة الدين، والتي يلعب بعضها أخطر دور في ما سنسميه إعادة تديين المجتمعات العربية، بل سنقصر كلامنا على الدول العربية الأخرى الموصوفة تارة بأنها تقدمية،وأخرى بأنها متعلمنة أومتلبرنة أومعتدلة. فجميع هذه الدول العربية تنص في دساتيرها إما على أن الإسلام هو دين الدولة، وإما على أن الإسلام هو دين رئيس الدولة، وإما على أن الإسلام هو المصدر الوحيد أو الرئيسي للتشريع.
وهكذا ينص دستور كبرى الدول العربية وأسبقها إلى التحديث والتعلمن –ونعني مصر- على أن “الإسلام هو دين الدولة… ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”.
وفي الوقت الذي يتميز فيه دستور الجزائر بدرجة عالية من التعلمن، بحكم قوة حضور موروثها القانوني من العهد الكولونيالي الفرنسي(وفرنسا هي الدولة السباقة الأولى الى التعلمن في العالم)، فإنه يفرد مع ذلك مادة تنص باختصار على أن “الإسلام دين الدولة”.
ويصدق الأمر بالمثل على تونس. فلئن تكن هي أبكر الدول العربية إلى العلمنة النسبية لقانون الأحوال الشخصية، فقد نص دستورها على أن “الإسلام دينها”، وإن يكن هذا النص لا يخلو من التباس: إذ هل المقصود أن الإسلام هو دين تونس/الشعب أم دين تونس/الدولة؟
وبالمقابل، إن ثالثة دول المغرب العربي ذي الموروث الكولونيالي الفرنسي، أي المملكة المغربية، تجهر في دستورها بعدم علمانيتها من خلال إعلانهأن “المملكة المغربية دولة إسلامية… والإسلام دين الدولة… والملك أمير المؤمنين… وهو حامي حمى الدين… وشخص الملك مقدس لا تُنتهك حرمته”.
أما الدولتان الصغريان في الشمال الإفريقي، ليبيا وموريتانيا، فإن دستور أولاهما ينص على أن شعبها كان ولا يزال “مستعيناً بالله متمسكاً بكتابه الكريم مصدراً للهداية وشريعة للمجتمع… والقرآن الكريم هو شريعة المجتمع في الجماهيرية الليبية”. وتنفرد موريتانيا بين سائر الدول العربية باعتماد الإسلام في تسميتها بالذات: الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وتنص في دستورها على أن “أحكام الدين الإسلامي هي المصدر الوحيد للقانون… ورئيس الدولة الإسلام دينه”.
ومع أن دستور آخر دولة عربية إفريقية –ونعني السودان- يتميز عن سائر الدساتير العربية بإقراره بالتعددية الدينية (والإثنية) للشعب السوداني، فإنه يتضمن مع ذلك مادة تنص على وجوب أن “تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات التي تُسنّ على المستوى القومي وتطبّق على ولايات شمال السودان”.
أما في المشرق العربي فتطالعنا أولاً حالة معكوسة تتمثل بلبنان. فميثاقه الوطني، الذي يكرس الطائفية السياسية، ينص على أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحياً ومن الطائفة المارونية، شريطة أن يكون رئيس الوزراء مسلماً ومن الطائفة السنية، ورئيس المجلس النيابي مسلماً ولكن من الطائفية الشيعية. أما سورية، أسبق دول المشرق إلى التعلمن والتحديث النسبيين، فعلاوة على أن دستورها ينص أن “الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”، فإنه ينفرد بالنص على أن “دين رئيس الدولة الإسلام” .
واستلحاقاً بدول المشرق نستطيع أن نضيف اليمن التي ينص دستورها على أن “الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات”.
وحتى دستور دولة فلسطين، التي لم تقم بعد، فإنه ينص بالمثل على أن “الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين” و”مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع”.
أما أخيراً العراق فإن الدستور الذي كان معمولاً به في عهد صدام حسين ينص على أن “الإسلام دين الدولة”. كذلك فإن الدستور الجديد المصاغ في عهد الاحتلال الأمريكي، والمعروف –على سبيل التنديد- باسم “دستور برايمر”، ينص على أن “الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع… ولا يجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام” .
وإذا تجاوزنا الدساتير إلى الممارسة فلنا أن نلاحظ –في معرض ردنا على الأطروحة الأصولية/ الشعبوية عن “الدكتاتورية العلمانية”- أن كبرى الدول العربية وأكثرها جمعاً، منذ الانقلاب الناصري عام 1952، بين باطن من الدكتاتورية وظاهر من العلمانية لا تشترط الإسلام في دين رئيسها فحسب، بل أيضاً في كوادر الجيش العليا التي يحظّر على “المواطن” المصري القبطي الارتقاء إليها. بل أكثر من ذلك: فهذا المواطن نفسه –رغم أن مواطنته هذه تفترضه مساوياً كأسنان المشط لكل مواطن آخر في الحقوق– لا يحقّ له أن يشغل وظيفة متواضعة مثل تدريس اللغة العربية بحجة أن هذه اللغة هي لغة القرآن.
وعلى أي حال ليس هناك من دولة عربية واحدة لا تجعل من التعليم الديني تعليماً إلزامياً في جميع المدارس العامة وفي جميع المراحل التعليمية بلا استثناء. بل الأنكى من ذلك أنها توكِل هذا التعليم لا إلى مدرّسين “متعلمنين” أو متخرجين من كليات الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، بل إلى خّريجي المعاهد الدينية وكليات الشريعة والجامعات الدينية ذات المنزع التقليدي الخالص- مثل الأزهر والزيتونة والقرويين- التي ترفع لواء المحافظة والسلفية وتتنكر حتى لحركات الإصلاح الديني التي قادها نهضويون من أمثال الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده . بل إن “الدينيات” تتخطى مجال التعليم الديني الصرف لتحتل مكانة الصدارة حتى في الكتب المدرسية “الدنيوية” مثل كتب القراءة واللغة والأدب والتاريخ والتربية الوطنية. وعلى هذا النحو يمكن القول إن المدرسة العربية هي الخلية الأولى اليوم، في الدول العربية، لإنتاج وإعادة إنتاج الأصولية الدينية، وإن في تفاوت ملحوظ تبعاً للدول ولدرجة “تعلمنها” .
ثم إنه ليس هناك من دولة عربية واحدة، حتى لو كانت موصوفة بأنها “تقدمية”، لا تجعل من الشرع الإسلامي بصورته التقليدية مصدراً أحادياً إلزامياً في مجال الأحوال الشخصية،مع كل ما يترتب على ذلك من تمييز وإجحاف بحق المرأة، ولاسيما في موضوع الإرث الذي يحدّ فيه حقها بنصف حق الرجل. وهذا ينطبق حتى على تونس البورقيبية، “المتعلمنة” إلى حد كبير في هذا المجال، لأنها تميّز هي أيضا تمييزاً حاداً بين الرجل والمرأة في الإرث، فتعطي الذكر ضعف حظ الأنثى .
وباستثناء تونس هذه المرّة، ليس هناك دولة عربية واحدة، مهما تكن درجتها من التعلمن، لا تجعل شهادة المرأة بقدر نصف شهادة الرجل.
وليس هناك دولة عربية واحدة تبيح زواج المسلمة من غير المسلم. وإذا كانت تبيح زواج المسلم من غير المسلمة فإنها تشترط في أولادها منه التنشئة على دين زوجها. وهي على كل حال لا تبيح أن تدفن الزوجة غير المسلمة إلى جانب قبر زوجها المسلم، لأن جميع المقابر في العالم العربي الإسلامي تخضع لتفرقة من طبيعة “أبارثيدية” حقيقية تبعاً للاختلاف في الدين، بل حتى تبعاً للاختلاف بين الطوائف في الدين الواحد. ففي سوريا ولبنان مثلاً هناك مقابر للمسلمين وللمسيحيين وللدروز (كما لليهود قبل قيام إسرائيل)، ولكن للسنة مقابرهم الخاصة التي لا يدفن فيها الشيعي، وكذلك للشيعة مقابرهم الخاصة التي لا يدفن فيها السني، والأمر بالمثل بالنسبة إلى مقابر الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس والسريان، الخ. ثم إن اللامؤمن نفسه لا يملك خياراً في ألا يدفن في غير مقبرة طائفته الأصلية ووفق طقوسها الدينية، كما لا يملك أن يمتنع عن دفن جثته وأن
ينص في وصيته على إحراقها كما الحال في المقابر الأوروبية “المعلمنة”.
بيد أن السلاح الأمضى في يد السلطة الدينية للتحكم بالحياة الجنسية والاجتماعية للبشر يبقى هو الزواج. ومع أن الزواج ليس في الإسلام “سراً” تحتكر الكنيسة تسييره كما الحال في المسيحية، فقد اصطدم إقرار الزواج المدني –ولا يزال- بمقاومة من المؤسسة الدينية الإسلامية لا تقل عتواً عن تلك التي اصطدم بمثلها في بلدان المسيحية الكاثوليكية. وحتى في بلد مثل لبنان متعدد الأديان والطوائف، فإن الراغبين في الزواج المدني يضطرون إلى عقده في قبرص. وعلى أي حال، إن الأولاد المتحدرين من زواج مدني يبقون في نظر المؤسسة الدينية العربية، سواء أكانت إسلامية أو مسيحية، أولاداً غير شرعيين، هذا إن لم يعتبروا أولاد زنا، ومحرومين بالتالي من حق الكنية والإرث معاً.
وعلاوة على غياب الزواج المدني فإن ممارسة الحياة الجنسية في غير إطار الزواج الشرعي، أو بأشكالها المعدودة “شاذة” من قبيل الجنسية المثلية، لا تعتبر فقط مجرد خطيئة يحاسب عليها المؤمن في الآخرة، بل تعتبر أصلاً جريمة تعاقَب بالرجم حتى الموت أو بالجلد، أو في أحسن الحالات بالحبس. ومن هذا المنظور المحدد فإن بعض البلدان العربية، ومعها بعض البلدان الإسلامية، تقدم في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا مشهداً مفجعاً لمجتمعات لا تزال تعيش وفق إيقاع القرون الوسطى وحساسيتها التي لا تجرحها همجية الرجم والجلد ،مثلما ما كانت همجية المحارق تجرح حساسية أوروبا المسيحية القروسطية.
وأخيراً، إن حرية العقل –التي هي المدماك الأول في بناء الحداثة- لا تزال في جميع البلدان العربية محدودة السقف بعدم الجهر بعدم الإيمان. بل إنها لا تزال محدودة السقف، كما في سودان النميري والترابي الذي أعدم محمود محمد طه شنقاً، بعدم الخروج على العقيدة القويمة ولو من منطلق إيمان واجتهاد مغايرين. ومع أن كثرة من الدساتير العربية تنص على حرية الرأي، فإن القوانين السارية المفعول لا تزال تعتبر جريمة الرأي واحدة من أفدح الجرائم.
إذن ما من بلد عربي بعلماني، وإن يكن هناك بونٌ شاسع في درجة تعلمن كل بلد عربي على حدة. وبما أن العلمنة، كما رأينا في مثال أوروبا الغربية، هي آلية، ليس فقط للفصل بين الدين والسياسة، بل عتلة أيضاً وأساساً للإقلاع الحضاري، فلنا أن نلاحظ أن العجز الحالي للبلدان العربية عن هذا الإقلاع –في الوقت الذي تتهيأ فيه الصين والهند، بعد التنانين الصغيرة الأربعة، لتكرار المعجزة اليابانية– يمكن أن يرجع في أحد أسبابه على الأقل إلى توقف سيرورة العلمنة أو حتى تراجعها. والواقع أن استئناف هذه السيرورة –وصولاً إلى العلمانية الشاملة ولو في مستقبل غير منظور بعد- باتت ضرورة مصيرية. فالعالم العربي، في عالم أقلعت جميع قاراته وأشباه قاراته –خلا إفريقيا السوداء- لم يعد يملك حتى خيار المراوحة في مكانه. فما لم يتقدم فإنه مهدّد بالانكفاء نحو قرون وسطى جديدة. وليس من قبيل الصدفة أن القوى السياسية والإيديولوجية الموصوفة وصفاً غير مطابق بأنها “أصولية”، والعاملة من أجل تسريع عجلة هذا الانكفاء، لا تعادي شيئاً اليوم كما تعادي العلمنة والعلمانية. فهذه القوى الناشطة تحت لواء القدامة تدرك بنوع من حدس غريزي ما لا يدركه العقل الشعبوي السائد اليوم في أوساط النخب المثقفة العربية، وهو أن ما تسميه إعادة أسلمة المجتمع، أي تنقيته وتطهيره من أوشاب العلمنة “المستوردة من الغرب”، هي الطريق المضمون الذي يقود مباشرة إلى مقبرة الحداثة “الكافرة”.
وبما أن هذه الحداثة كانت شرعت بالتسرب إلى العالم العربي خلال ما اصطلح على تسميته بـ”عصر النهضة”، فإن إعادة أسلمة المجتمع تلك ترتبط ارتباطاً عضوياً بإعادة تديين الثقافة. وإعادة التديين هذه هي أهم ما يميز المشهد الثقافي العربي في العقود الأخيرة. وقد أخذت إعادة التديين الثقافي هذه، في ما أخذت،وفي ما يتعلق بالثقافة العالمة المكتوبة، شكل إغراق للمكتبات بملايين النسخ الرخيصة الثمن أو حتى المجانية من الكتب التراثية ذات المنزع السلفي والحنبلي المتشدد، وكذلك شكل توظيف للتكنولوجيات الإعلامية الحديثة، ولاسيما شبكة الأنترنت المحقونة بمئات المواقع الدينية المتطرفة والمغذية،كما رأينا في الدراسة السابقة، لثقافة الفتنة الطائفية.أما على صعيد الثقافة الشعبية الشفهية فتتكفّل بإعادة التديين خطب المساجد التي أفلح الأصوليون في تخطيطهم للسيطرة عليها،والكاسيتات والأشرطة السمعية-البصرية التي أغرقت بها المكتبات والأسواق الشعبية وحتى البقاليات، وأخيراً الفضائيات التي تخاطب الملايين والملايين، بمن فيهم الأميون الذين يتجاوز تعدادهم في العالم العربي المئة مليون. ونخص بالذكر هنا قناة الجزيرة، أوسع الفضائيات العربية نفوذاً وتأثيراً باعتمادها استراتيجية ذكية تقوم على احتضان التعددية السياسية، التي يفتقدها أشد الافتقاد العالم العربي المحاصَر بالدكتاتوريات، لتمرير واحدية دينية نكوصية. وقد كانت الحاضنة المادية لإعادة التديين هذه هي الدولارات النفطية التي وظفت بمليارات ومليارات في خدمة استراتيجية الانتقاض على عصر النهضة وموروثه الثقافي، وتحويل قيادة الفكر العربي المعاصر من الأفغاني والكواكبي وقاسم أمين والطاهر الحداد وفرح أنطون وطه حسين وسائر النهضويين إلى ابن تيمية وتلامذته من النيو-وهابيين، وإلى سائر مجددي السلفية المتزمتة في القرن العشرين بدءاً بسيد قطب وانتهاء بيوسف القرضاوي.
الهوامش:
1 – لنا أن نلاحظ أن هذه الدعوى الفلسفية والاستشراقية معاً تستبعد من حلبة السباق الحضاري أوروبا الشرقية التي كانت متقاسمَة في حينه بين روسيا الأرثوذكسية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية السنية.
2 – كان تروتسكي هو من صاغ قانون التطور المتفاوت والمركب هذا عندما لاحظ في كتابه عن تاريخ الثورة الروسية أن الأمم التي قد تدخل متأخرة إلى حلبة السباق الحضاري تستطيع أن تستدرك فواتها التاريخي وتحقق تطوراً مركباً لا بسيطاً وفق مبدأ التوالي الهندسي لا العددي، فتنجز في عشرات من السنين ما انجزته الأمم التي سبقتها إلى التقدم في مئات من السنين.
3 – حذار من تفسير “الخروج من الدين” على أنه “خروج على الدين”. فقولة مرسيل غوشيه التي ارتقت إلى نصاب المقولة الإبستمولوجية التأسيسية في السجالات حول الحداثة، لا تعدل إعلاناً على الطريقة النيتشوية بموت الدين، بل تلحظ فقط، من خلال استقراء واقع المجتمعات الغربية الحديثة، أن المجال العام في هذه المجتمعات لم يعد يتَبَنْيَن بالدين، وأن هذا الأخير قد باتت فاعليته محصورة بالمجال الشخصي. ومن هذا المنظور تحديداً فإن “الخروج من الدين” قد يكون ضرورياً حتى لعدم “الخروج على الدين”، لأنه السبيل الوحيد لعدم إقامة علاقة تعارض وتناف بين الإيمان الديني والحداثة، وذلك بقدر ما أن فصل الروحي عن الزمني، وبالتالي حصر الدين بالمجال الشخصي، يعتقان هذا الأخير من قيود التصورات الإيديولوجية المتقادمة بالضرورة مع تطور التاريخ والتثوير الدائم للعلم.
4 – نؤثر هنا تعبير sécularisation المشترك بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية على تعبير laïcisation الذي تنفرد به اللغة الفرنسية، لأنه أوضح دلالة منه على هذه النزعة الدنيوية.
5 – بخصوص دور الإصلاح البروتستانتي هذا في الثورة التعليمية التي كان لها باع طويل في صنع الحداثة، راجع دراستنا عن كتاب عمانويل تود: اختراع أوروبا، في كتابنا هرطقات، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الساقي، بيروت 2007، ص 187-203.
6 – كنموذج على سعة نطاق العلمنة التي نجمت عن الثورة الفرنسية وشملت بلدان أوروبا الغربية نذكر جملة التدابير والقوانين التي صدرت عن جمهورية الألب الغربية التي جسدت نسخة مصغرة من الثورة الفرنسية. فهذه الجمهورية الصغيرة، التي قامت سنة 1797 والتي ستصبح هي المملكة الإيطالية لاحقة، تجرأت على أن تقف موقفاً حازماً من الكنيسة في بلد يكاد يتطابق في الهوية مع المذهب الكاثوليكي، فرفعت أيدي الأساقفة عن التعليم ومالت إلى أن تجعل منه عاماً وإلزامياً تتولى الدولة الإنفاق عليه. وفضلاً عن أنها “ألغت امتيازات النبلاء، ومنعت التعذيب، وضمنت المساواة لليهود” فقد “جاهرت بطابعها الدنيوي، ففصلت فصلاً تاماً الدين عن الحقوق السياسية والمدنية، وصادرت وباعت أملاك الكنيسة، وسمحت بالزواج المدني، وأخضعت المواكب الدينية لرقابة مشددة، ومنعت قرع أجراس الكنائس ليلاً، ونزعت صور القديسين التي كانت تزين الشوارع، وأطلقت على الشوارع التي كانت تحمل أسماء القديسين أسماء علمانية جديدة” (نقلاً عن روبرت بالمر: 1798 : الثورة الفرنسية وامتداداتها، ترجمة هنرييت عبودي، دار الطليعة، بيروت 1982، ص 237).
7 – كان الملوك لا يحكمون باسم الأمة أو باسم الشعب، بل باسم الله نفسه. وهذه الحاكمية الإلهية كانت تتمثل في ألقابهم. فعن ملك فرنسا كان يقال، رسمياً، إنه الملك المسيحي جدا، وعن ملك إسبانيا إنه الملك الكاثوليكي، وعن ملك إنجلترا إنه حامي الإيمان. وعلى جبهة الإسلام أيضاً كان الخلفاء العباسيون، ابتداء من الانقلاب المتوكلي، لا يلقبون أنفسهم إلا بالإحالة إلى الله: المنتصر بالله، المستعين بالله، المعتمد على الله، المكتفي بالله، المستعصم بالله…
8 – لئن تكن الإيديولوجيا الماركسية قد شهدت سقوطاً مدوياً في العقد الأخير من القرن العشرين فليس من شك في أن هذا السقوط يعود، في أحد أسبابه، إلى أن الماركسية المطبَّقة أعادت تأسيس نفسها في ما يشبه أن يكون ديناً جديداً من طبيعة شمولية. ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذا السقوط ترجم بدوره –ولو بعد طول تأخير- عن انتصار مبدأ العلمنة الذي يتعارض مع أي مبدأ مفارق للحاكمية، سواء أكانت حاكمية الله أم الحزب الواحد أم الزعيم الأوحد. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن مبدأ العلمنة بات يتماهى سياسياً مع المبدأ الديمقراطي من حيث أن الديمقراطية ليست هي فقط حكم الشعب، بل كذلك حكم المتغير والمؤقت والنسبي والجزئي وما سوى ذلك من مفردات المعجم الأرضي، بالتعارض مع حكم الثابت والدائم والمطلق والكلي وما سوى ذلك من مفردات المعجم السماوي.
9 – عن العلاقة العضوية بين هذه الثورات الثلاث أنظر القصة الرمزية الرائعة: حكاية بلا بداية ولا نهاية لنجيب محفوظ كما حللناها في كتابنا: الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، دار الطليعة، ط. 4، بيروت 1988.
10 – هل يمكن أصلاً فصل الثورة الصناعية، التي انفردت أيضاً أوروبا الغربية وحدها بالسبق إلى إنجازها، عن سيرورة العلمنة الشاملة؟ فككل ثورة فإن الثورة الصناعية تمثل نوعاً من قطيعة، وكما في كل قطيعة فإن الدور الأول يعود إلى العقل البشري. ووحده العقل الذي حررته العلمنة من قيد السلفيات والغيبيات يمكن أن يثور ويثوِّر معه التقنية ووسائل الإنتاج.
10 – أما أن العلمانية هي نفسها سيرورة تاريخية فإن فرنسا –وهي البلد الأكثر جذرية والأسبق إلى التعلمن في العالم- تقدم مثالاً على أنه ليس هناك صيغة واحدة وناجزة ونهائية للعلمنة. فعبثاً حاولت الدولة العلمانية الفرنسية أن تعيد تعميد مدنها وشوارع مدنها بأسماء دنيوية، ولكن الموروث الديني الضارب في القدامة كان ينبعث من رماده ويعيد فرض نفسه بقدر أو بآخر من النجاح. والشاهد على ذلك يقدمه مثلث الحي اللاتيني في باريس الذي لا تزال شوارعه تحمل أسماء قديسين: سان جرمان، وسان ميشيل، وسان جاك. كذلك لم تستطع الدولة المعلمنة الفرنسية أن تستبدل جميع الأعياد الدينية بأعياد مدنية. فإلى اليوم لا تزال فرنسا تعطل رسمياً إلى جانب عيد الثورة وعيد النصر وعيد العمل، بأعياد ذات طابع ديني صرف مثل عيد الميلاد والفصح وعيد صعود المسيح والعذراء وعيد العنصرة وعيد جميع القديسين. والعجيب أنه عندما أرادت الدولة أن تلغي عطلة عيد صعود العذراء (وهو عيد استحدثته الكنيسة الكاثوليكية عام 1950) اصطدمت بمعارضة الاتحاد العمالي والحزب الشيوعي اللذين دافعا عن مبدأ العطلة بحد ذاته وليس عن العيد من حيث هو عيد.
11 – ممن تصدى من الباحثين لدراسة ظاهرة تعلمن الدولة في العالم العربي-الإسلامي عزيز العظمة في كتابه العلمانية من منظور مختلف.
12 – الواقع أننا نستطيع أن نعكس العلاقة المزعومة بين الدكتاتورية والعلمانية. فخلافاً لما يروج له الأصوليون والشعبويون فإن الطبيعة الدكتاتورية للأنظمة العربية، ولاسيما منها ذات الأصول العسكرية، هي التي تجعلها تراوغ، بل تتراجع في موضوع علمنة الدولة كما المجتمع، هذا إن لم تنهج مسلك الممالأة الدينية تسوّلاً لنزر من الشرعنة التي تفتقدها افتقاداً تاماً. وحسبنا هنا أن ننوه بأن هذه الأنظمة الدكتاتورية لا تجرؤ، رغم كل عتوها وجبروتها، على أن تتصدى لظاهرة متفاقمة، وهي الآذان بمكبرات الصوت، مع أن التصدي لمثل هذه الظاهرة سهل من وجهة نظر دينية خالصة، باعتبار أن استعمال مكبرات الصوت في المآذن هو “بدعة” مستحدثة لم تعرفها المساجد قبل منتصف القرن العشرين. وقد كنا رأينا أن جمهورية ديمقراطية صغرى، مثل جمهورية الألب الغربية، لم تتردد في منع دق أجراس الكنائس ليلاً رغم التجذر العميق للشعب الإيطالي في الكاثوليكية (لنفتح هنا قوسين لنشير إلى أن الدولة العربية الوحيدة التي حظرت الآذان بمكبرات الصوت هي تونس البورقيبية. ويوم أصدر الحبيب بورقيبة قرار الحظر هذا لم يكن دكتاتوراً على طريقة العسكريين العرب، بل كان زعيماً وطنياً وشعبياً ذا شرعية ثابتة).
12 – على سبيل المقارنة لنلاحظ أن دولة متعددة دينياً وطائفياً، ولكن علمانية مثل الهند، لا تمنع دستورياً ولا واقعياً أن يكون رئيسها من الأقلية المسلمة، لا من الأكثرية الهندوسية، كما هو واقع الحال اليوم مع رئيسها عبد القلم.
13 – إنه لمما يلفت النظر أن هذه الاستمرارية الدستورية بين العهدين الصدامي والبرايمري تجد ترجمة لها في الموقف من العلم الوطني العراقي. فقد كان صدام حسين، في مسعاه إلى توظيف الدين في الشرعنة السياسية، قد عمد إلى “تديين” العلم العراقي -الموروث من العلم “المعلمن” للجمهورية العربية المتحدة- من خلال الأمر بإضافة عبارة “الله أكبر” إليه. والحال أن العهد ما بعد الصدامي لم يجرؤ ليس فقط على إلغاء هذه الإشارة الدينية، بل لم يجرؤ حتى على إلغاء الغلطة الإملائية التي تتمثل بوضع همزة قطع فوق ألف الوصل في كلمة :ألله.
14 – يضطلع الأزهر من هذا المنظور بالدور الأخطر. ذلك أن عدد الطلاب في جامعة الأزهر يتجاوز اليوم 110 آلاف، كما يبلغ عدد طالبي التسجيل نحواً من 450 ألف طالب. ولكن ما هو أبلغ دلالة بعدُ من تضخم الأزهر بما هو كذلك تكاثر المعاهد الابتدائية والإعدادية والثانوية التابعة له والمعروفة باسم المعاهد الأزهرية. فقد قارب تعداد طلبتها اليوم المليونين. وقد عرفت هذه المعاهد تطورها الأول في عهد عبد الناصرقبل أن يتسارع في عهد السادات، ثم تضاعفت سرعة تطورها في عهد مبارك ليرتفع عددها من نحو ثمانمائة إلى نحو تسعة آلاف. وعلاوة على ذلك فقد أنشئت مئات من المعاهد الأزهرية في بلدان إفريقيا مثل نيجيريا وتنزانيا وكينيا وتشاد والصومال وجنوب إفريقيا وجزر القمر، ولاسيما السنغال التي تأوي اليوم أكثر من376 معهداً أزهرياً. بل امتدت حركة التوسع الخارجي هذه إلى آسيا، ولاسيما باكستان وإندونيسيا وماليزيا، وكذلك الهند والصين، وحتى إلى أوروبا وأمريكا.
15 – يمكن للقارئ أن يراجع في هذا الموضوع الفصل الممتاز عن “التربية والحداثة” الذي كتبه محمد الشرفي، وزير التربية والتعليم والعلوم في تونس بين 1989 و1994، في كتابه: الإسلام والحرية، الالتباس التاريخي.
16 – الجدير بالذكر أن هذه القاعدة الفقهية التمييزية بين الجنسين تطبق حتى على غير المسلمين من مواطني الدول العربية، خلا لبنان الذي يطبق قواعد تشريعية متباينة تبعاً للانتماء الديني أو الطائفي للوريث أو الوريثة. وقد خرقت الدولة السورية مؤخراً هذه القاعدة عندما أعفت طائفة الروم الكاثوليك من تطبيق الشرع الإسلامي السني عليها في مجال الإرث، فصارت الكاثوليكية ترث بقدر ما يرث الكاثوليكي. ولكن هذا الاستثناء لم يشمل بالمقابل الطوائف المسيحية الأخرى مثل الروم والسريان الأرثوذكس، وهذا ما احدث بلبلة وحِراكاً مطلبياً في صفوفهم.
17 – قد يكون ضرورياً هنا أن نتوقف لنشير إلى أن التشريعات المعمول بها من هذا المنظور في جميع البلدان العربية إنما تجد مرجعيتها المفترضة في الآية 11 من سورة النساء: “للذكر مثل حظ الأنثيين”. ولئن سوّدنا هنا كلمة مفترضة فلأن هذه الآية ،إذا أخذت في نسبيتها التاريخية، تبدو أكثر إنصافاً للمرأة بكثير من التشريعات السائدة اليوم في العالم العربي الإسلامي. فهذه الآية لم تنزل تاريخيا لتظلم المرأة، بل لتنصفها بالأحرى. فالمرأة العربية -كما يوضح جواد علي في دراسته الكلاسيكية: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام- ما كانت في الجاهلية ترث شيئاً، إذ كان كل الميراث يذهب إلى الابن البكر أو إلى الذكور القادرين على القتال. ومن ثم فإن الآية المذكورة ضمنت للمرأة حدّاً أدنى كانت محرومة منه حرماناً تاماً. والحال أن ضمانة قانونية للحدّ الأدنى لا تعني حدّاً للحدّ الأعلى –أي حدّ المساواة كما في الحالة التي نحن بصددها. ولكن ما حدث هو أن الاجتهادات الفقهية السلفية والتشريعات العربية الإسلامية، بدلاً من أن تأخذ بغائية تلك الآية، أخذتها بحرفيتها، وأخرجتها عن منطق نسبيّتها لتخلع عليها طابعاً مطلقاً. وهكذا، وبدلاً من ضمانة حد أدنى، جعلت من الحدّ الأدنى حدّاً أعلى ودائماً ديمومةً سرمديةً.
18 -غني عن البيان أن هذا التمييز في الشهادة بين الرجل والمرأة، الذي يخلّ إخلالاً خطيراً بمبدأ المساواة القانوني والديموقراطي بين الجنسين، إنما هو نتيجة إلزامية للتطبيق الميكانيكي للشرع الإسلامي الموروث من دون أي محاولة- ضرورية كل الضرورة هنا -لإعادة فتح باب الاجتهاد. وحسبنا هنا أن نشير إلى أن قاعدة نصفية شهادة المرأة ينطبق عليها نفس مبدأ النسبية التاريخية الذي قلنا إنه ينطبق على آية الإرث. فالآية 282 من سورة البقرة ضمنت هي أيضاً للمرأة الحق في نصف شهادة في زمن كان مضنوناً عليها فيه حتى بربع شهادة. وعلى أي حال، إن الآية المذكورة تحصر الشهادة بعقود الدين المحررّة لدى كاتب بالعدل. وبالمقابل، إن الآية الثامنة من سورة النور- وبصددها يمكن إعادة فتح باب الاجتهاد لمن يريد إعادة فتحه- تنصّ نصاً صريحاً على التعادل التام بين شهادة الرجل وشهادة المرأة في موضوع أخطر بكثير من موضوع عقد الدين: ألا وهو موضوع “الزنا” باللغة العتيقة، أو “الخيانة الزوجية” بلغة أكثر حداثة.
19 – في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات، أي في تشرين الأول/أكتوبر2007، أصدرت الحكومة الأفغانية المتعاونة مع قوات التحالف الغربي بياناً أكدت فيه استمرارها في تطبيق عقوبة الإعدام رجماً لا في حالات الاغتصاب فحسب، بل كذلك في حالات الزنا. ونلاحظ على كل حال أن المعجم العربي لم يخترع بعد لتسمية العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي مفردة أخرى غير الزنا المثقلة بحمولتها الترجيسية القروسطية.
tarabichi5@yahoo.fr
* كاتب سوري – باريس
العلمانية كجهادية دنيوية
ان يكون الطرابيشي مؤمنا او ملحدا فهذا لا يغير شيئا في مسألة العلمانية. ذلك ان العلمانية تحترم حق المؤمن في ان يكون مؤمنا ، كما حق الملحد في ان يكون ملحدا.
العلمانية كجهادية دنيوية
أعتقد أن أحد خصائص العلمانية هي الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان، غير أني أعتقد أن الأستاذ الكاتب يميل نحو الإلحادية و ليس العلمانية… أرجو التوضيح