يتفق خصوم العلمانية في الساحة الثقافية العربية المعاصرة، سواء أكانوا من دعاة الحداثة أم من دعاة القدامة، على اعتبارها نموذجاً لإشكالية مستوردة.
فالعلمانية في رأيهم رأت النور في الغرب، وتحديداً الغرب المسيحي. وما رأته إلا لتقدم جواباً عن إشكال هو من إفراز الغرب المسيحي حصراً: الصراع اللاهوتي والسياسي، الذي أخذ شكل حرب متوالية الحلقات دامت ثلاثين عاماً، بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية البروتستانتية. وعن طريق الترجمة والمحاكاة الرثة، الموسومة بـ”التفرنج” كما يقولون، جرى ازدراع تلك الإشكالية الغربية في جسم الثقافة العربية الحديثة بدون أن تكون بها إليها حاجة حقيقية، وبدون أن تلبي طلباً فعلياً –أو متوهَّما أنه كذلك- إلا للجماعة الأقلوية التي تطوعت لاستيرادها: نصارى الشرق.
هكذا كان برهان غليون في كتابه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” قد سبق له –ولنعترف له بهذه الأسبقية- أن قال إن العلمانية “إشكالية مصطنعة ومنقولة عن الغرب”. ومن بعده أعلن محمد عابد الجابري بدوره أن العلمانية هي نموذج لإشكالية عادمة اللزوم ومستغنى عن خدماتها لأن العلمانية تعني “فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصله عن الدولة” . ولئن يكن كل من برهان غليون والجابري قد ربطا استيراد إشكالية العلمانية بحاجة الأقلية المسيحية إلى إعادة ترتيب علاقاتها بالغالبية المسلمة، فإن داعياً ثالثاً من دعاة الحداثة المفترضين قد ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير باتهامه مستوردي هذه الإشكالية العلمانية، أي نصارى الشرق، بالعمالة الحضارية للغرب قائلاً بالحرف الواحد: “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح انطون ونقولا حداد وسلامة موسى وولي الدين يكن ولويس عوض وغيرهم يدعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي، فصل الدين عن الدولة. والملاحظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، لا ينتسبون إلى الإسلام ديناً ولا حضارة”.
هذا عن دعاة الحداثة المفترضين.
أما دعاة القدامة- وهم غير مفترضين على الإطلاق في زمن الردة هذا- فإنهم ينطقون بلا تمايز بلسان واحد يجد نموذجه في الشاهد التالي: “ليس غريباً أن يكون أول من دعا إلى العلمانية بشعارها الصريح أو تحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق، فإن الحياة المطمئنة التي كفلها لهم المجتمع الإسلامي –بل المحاباة الزائدة في الكثير من الأحيان- لم تكن لتطفئ نار الحقد المتأججة في صدورهم. ولئن كانوا يدركون أن هيمنة الشريعة الإسلامية هي العائق الأكبر لشفاء غيظهم ونفث أحقادهم، فقد استماتوا في سبيل إنهاء هذه الهيمنة وإحلال الأنظمة اللادينية محلها… لكي تقضي على الإسلام”.
بديهي أننا لا نماري في أن العلمانية في وجه من وجوهها –في وجه من وجوهها فقط وليس على الإطلاق في كل وجوهها- يمكن أن تمثل مطلباً للأقليات بقدر ما يمكن أن تقدم لها ضمانة للمساواة التامة أمام القانون. ولكن ما نماري فيه بالمقابل هو أن تكون الأقليات المعنية في الدائرة العربية الإسلامية هي الأقليات المسيحية حصراً. ذلك أن العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد . والحال أن التعددية في الدائرة العربية الإسلامية ليست محض تعددية دينية أو إثنية، بل هي أيضاً تعددية طائفية. فالإسلام العربي، بواقعه الديموغرافي الحالي، يتألف من غالبية سنية بكل تأكيد، ولكن أيضاً من أقليات شيعية ونصيرية وزيدية وإسماعيلية ودرزية وإباضية. ومن منظور هذه التعددية الطائفية الإسلامية، فإن قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية-إسلامية، كما يطيب لخصوم العلمانية تصويرها، بل هي أيضاً، وربما أساساً، قضية إسلامية-إسلامية. ولعلنا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن تركيز خصوم العلمانية على البعد الأقلوي المسيحي لإشكالية العلمانية في العالم العربي إنما يخفي، مثله مثل كل منطوق به، مسكوتاً عنه هو أعظم خطورة وفداحة بعد، ونعني به بعدها الطائفي الإسلامي. وقد كان لا بد من انتظار كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق حتى ينفجر ذلك المسكوت عنه بكل القوة التي لا مناص من أن ينفجر بها المكبوت الذي طال كبته. ومع ذلك فإن آلية الدفاع الساذجة، المتمثلة بتعليق أمراض الذات على مشجب الغير، سارعت إلى الاشتغال هنا أيضاً لكي تعزو انفجار “الفتنة” الطائفية في عراق اليوم إلى التدخل الأمريكي. ونحن لا نماري في دور هذا التدخل. ولكننا نحدّه فقط بكشف الغطاء عن مرجل المكبوت الذي لا نتردد في القول –وكما سنثبت حالاً- بأنه لا يفتأ يغلي منذ أكثر من ألف سنة. وباستعارة لغة المتكلمين الأشاعرة فلنقل إن التدخل الأمريكي لم يفعل أكثر من أن يقدم المناسبة لانفجار الحرب الطائفية، ولكنه لم يكن هو عاملها على صعيد السببية. فعلى هذا الصعيد لا بد أن نعود إلى التاريخ، وهو تاريخ مديد لا يقاس بعشرات السنوات كما في مثال الحرب الكاثوليكية-البروتستانتية التي تمخضت عن تكريس العلمانية كآلية قانونية لتسوية العلاقات بين الطوائف، بل يقاس بمئات السنين من صراع سني-شيعي بقي إلى اليوم متجذراً في مستنقع الطائفية القروسطية بحكم غياب وتغييب المخرج العلماني.
ولأن هذا التجذر في تاريخ الذات هو ما تغيِّبه نظرية العامل الأجنبي -وهنا الاحتلال الأمريكي- فإن هذه الورقة لن تفعل شيئاً آخر سوى استحضار ذلك التاريخ المغيَّب.
الطائفية كثابت دائم في التاريخ الإسلامي
معلوم أن الانشطار السني-الشيعي بدأ سياسياً خالصاً، ولكن بالغ العنف، مع حرب الخلافة التي تتالت فصولها في وقعتين رئيسيتين دارتا في عام ستة وثلاثين للهجرة بين علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وختنه، من جهة أولى، وبين عائشة بنت أبي بكر، زوجة الرسول، ومعاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية. وفي هاتين الوقعتين، الجمل وصفين، خلَّف الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما . وبصرف النظر عما قد يكون في هذه الأرقام من مبالغة، فإن مثل هذا العدد الهائل من القتلى –بمن فيهم المئات من صحابة الرسول- كان لا بد أن يخلف أحقاداً وضغائنَ مؤرثة، ولا سيما في مجتمع ذي بنية قبلية ترفع الثأر إلى مرتبة القانون. وقد أعقبت هاتين الوقعتين، بعد خمس وعشرين سنة، مجزرة أقل حجماً بكثير، ولكن ذات بعد مأساوي أكبر بكثير أيضاً، تمثلت في وقعة كربلاء التي تمخضت في عام واحد وستين للهجرة عن مقتل الحسين، حفيد الرسول، واثنين وسبعين من أهل بيته وأصحابه. وقد قُتل مع الحسين اثنان من أولاده، وخمسة من إخوته، وثلاثة من أولاد أخيه الحسن، وستة من أولاد عمه عقيل، وكذلك أخوه من الرضاعة. وقد احتزت رؤوس القتلى الثلاثة والسبعين جميعاً، وحملت إلى يزيد بن معاوية في دمشق بعد أن طيف بها في الكوفة. وعدا بشاعة المقتلة بحد ذاتها، فقد أخذت مأساة كربلاء بعداً تأسيسياً لما لن يتردد بعض الدارسين في تسميته بـ”الديانة” الشيعية بالنظر إلى ما تولد عنها من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة –وذريتهم من بعدهم- ممن كانوا دعوا الحسين إلى الخروج بهم ثم خذلوه. وقد تضافرت هذه العقدة التأثمية- التي لا تقوم للديانة النبوية بدونها قائمة كما لاحظ فرويد في دراسته عن موسى والتوحيد- مع الحقد المكظوم الذي استثارته سياسة لعن علي بن أبي طالب على منابر المساجد طيلة ألف شهر من الحكم الأموي لتحدث في الإسلام انشقاقاً داخلياً أكثر استعصاء على التسوية والالتئام من ذاك الذي عرفته المسيحية الغربية مع الانشقاق اللوثري الذي قادها إلى حرب الثلاثين عاماً الضروس وكان مدخلها في الوقت نفسه إلى الحداثة من خلال الإصلاح البروتستانتي ثم الإصلاح الكاثوليكي المضاد.
والواقع أن تفعيل عقدة الشعور بالذنب تلك هو الذي لعب الدور الأكبر في استبطان الانشقاق الشيعي وتحويل نصابه من التسييس إلى التديين. فطيلة العهد الأموي والشق الأول من العهد العباسي اقتصرت الشيعة على التعبير عن نفسها من خلال حركات الخروج المتتالية التي قادها الطالبيون بشتى منازعهم والتي قمعت الواحدة تلو الأخرى بقسوة كربلائية . كما أن الانتفاضات الطالبية التي قُيِّض لبعضها النجاح المؤقت لجأت هي الأخرى إلى ممارسة عنف انتقامي لا يقل بشاعة .
وقد تميز العهد العباسي الأول بتهدئة نسبية للصراع تمثلت بوجه خاص في الموادعة التي تمت بين المأمون والإمام الثامن علي الرضا، إذ زوَّجه بنته وكتب له بولاية العهد. بيد أن الصراع السياسي عاد يتأجج في ظل خلافة المتوكل الذي “أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها… وأمر بهدم قبر الحسين ومنع الناس من زيارته، فخُرِّب وبقي صحراء” .
وقد أعقبت الانقلاب المتوكلي هدنة قصيرة تمثلت في الأشهر الستة التي دامتها خلافة ابنه المنتصر بالله، الذي كان على حد توصيف السيوطي “قليل الظلم، محسناً إلى العلويين، وصولاً لهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، وردّ على آل الحسين فدك” . ولكن اضطهاد الشيعة أخذ من بعده طابعاً منتظماً تمثل في اعتقال الإمامين العاشر والحادي عشر، علي الهادي النقي وحسن الزكي العسكري ، وتصفيتهما في معتقلهما بالسم على ما تفيد المصادر الشيعية على الأقل. وهذا القمع المتواصل هو عملياً ما اضطر الشيعة إلى “تغييب” الإمام الثاني عشر محمد الهادي حتى لا تطوله يد التصفية الجسدية. وبانقطاع سلسلة الإمامة على هذا النحو صارت الشيعة تُعرف باسم الاثني عشرية.
ولئن يكن خلفاء بني العباس، من المتوكل فصاعداً، قد اعتمدوا في صراعهم مع الطالبيين عنصراً إثنياً محدداً، هم الأتراك، فإن اقتحام عنصر إثني جديد لمسرح بغداد السياسي –هم الديلم- أحدث انقلاباً حقيقياً في موازين القوى. ففي المنافسة مع الأتراك الذين كانوا ذوي توجه سني كان لا بد للديلم أن يظهروا ميلاً تشيعياً عكسياً. وعلى هذا النحو، ومنذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334هـ، بدأت ترى النور تلك الظاهرة التي عمَّدها مؤرخو الحوليات الإسلامية باسم الفتنة، أي ظاهرة الاقتتال وحرب الأحياء ما بين السنة والشيعة: ولا سيما بين حي الكرخ الشيعي وباب البصرة السني. وطبقاً لابن الأثير فإن أول “فتنة عظيمة” وقعت في بغداد بين السنة والشيعة كانت في عام 349، وقد “تعطلت الجمعة لاتصال الفتنة بين الجانبين سوى مسجد براثا، فإن الجمعة تمت فيه” . وفي عام 351 “كتب عامة الشيعة ببغداد، بأمر معز الدولة، على المساجد ما هذه صورته: “لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكاً، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده، ومن نفى أبا ذر، ومن أخرج العباس من الشورى”. فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع، وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك” .
وفي عام 352 دشن معز الدولة طقس عاشوراء الذي ستكون له أبعاد تأسيسية –بالمعنى الذي تحدث عنه فرويد في موسى والتوحيد، ومن قبل في الطوطم والحرام- في التحويل النهائي للانشقاق السياسي الشيعي إلى انشقاق ديني. فـ”في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن يَدُرْنَ في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنيين قدرة على المنع لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم”.
ولكن ابن كثير، مصنِّف البداية والنهاية، هو من يلح على النظامية التي تلبسها هذا الطقس الذي بات يُحيا سنوياً، ودوماً في العاشر من محرم، أي اليوم الذي قتل فيه الحسين. هكذا نراه في البداية والنهاية يفتتح حوادث كل سنة تالية بالقول:
– “وفي عاشر المحرم منها (سنة 353) عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية، فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالاً شديداً، وانتهبت الأموال” (ج11، ص 253).
– “وفي عاشر المحرم منها (سنة 354) عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين… ثم تسلط أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم، مسجد براثا الذي هو عش الروافض، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة” (ج11، ص 254).
– “وفي عاشر المحرم منها (سنة 355) عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم في بغداد” (ج 11، ص260).
– “وفي عاشر المحرم منها (سنة 359) عملت الروافض بدعتهم الشنعاء، فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن” (ج11، ص 267).
– “فيها (سنة 363) في عاشوراء عُملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة… وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملاً وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد فساداً، ونهبت الأموال” (ج11، ص 275).
بديهي أن ابن كثير ما كان له، من موقعه الراسخ في السلفية السنية، أن يفهم “عزاء الحسين” إلا على أنه “بدعة شنعاء” بدون أن يدرك بعده كطقس تأسيسي لا يمثل تحدياً “استعراضياً” لأهل السنة بقدر ما يعبر عن حاجة ذاتية لدى أهل الشيعة لاستبطان جريمة قتل الابن والتكفير عنها . وهذه الحاجة الذاتية إلى التفريج عن عقدة الشعور بالذنب هي التي لا تفتأ تُفعَّل دورياً في طقس عاشوراء من خلال ظاهرة “اللّطميات” وما يصاحبها من أدبيات بكائية متجددة باستمرار .
وأيا ما يكن من أمر، وطبقاً لتلك القاعدة الذهبية التي سنّها ماركس حينما قال إن التاريخ لا يكرر نفسه عندما يكررها إلا ليحوّل المأساة إلى ملهاة، فإن أهل السنة لم يتأخروا عن محاكاة أهل الشيعة في “بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء”. ففي سنة 389 كما يفيدنا ابن الأثير في الكامل بادر أهل “باب البصرة –وهم سُنَّة- فعملوا في ثاني عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء”. وفي البداية والنهاية يقول ابن كثير بمزيد من التفصيل : “لما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين، قابلتهم طائفة أخرى من جهة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما تزور قبر الحسين. وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها” (ج11، ص326).
والواقع أنه ابتداء من منتصف القرن الرابع وحتى منتصف القرن السابع –زمن سقوط بغداد في أيدي التتار- دارت بين سنتها وشيعتها لا “حرب ثلاثين عاما” كما في مثال المسيحية الكاثوليكية-البروتستانتية، بل حرب ثلاثمئة سنة. ومع أننا قد نجازف بالإطالة فلنورد على سبيل التمثيل لا الحصر بعض وقائع هذه الحرب التي تحتل مكاناً مركزياً في حوليات ابن الأثير:
– “في هذه السنة (361) وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون، فنهبت الأموال وقتل الرجال وأحرقت الدور. وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة”.
– “في هذه السنة (362) في شهر رمضان قتل رجل من صاحب المعونة في الكرخ، فبعث أبو الفضل الشيرازي -وكان أقامه مقام الوزير- في طرح النار في النحاسين إلى السماكين، فاحترقت أموال عظيمة، وجماعة من الرجال والنساء والصبيان في الدور والحمامات، فأُحصي ما احترق فكان سبعة عشر ألف وثلاثمائة دكان وعشرين داراً، ودخل في الجملة ثلاث وثلاثون مسجداً” .
– “في هذه السنة (363) ثارت العامة من أهل السنة بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقاً ثانياً”.
– “في هذه السنة (380) ثار العيارون بجانبي بغداد، ووقعت الفتن بين أهل السنة والشيعة، وكثر القتل بينهم، وأحرق عدة محالّ، ونهبت الأموال، وأخربت المساكن، ودام ذلك عدة شهور”.
– “في هذه السنة (382) تجددت الفتن بين أهل الكرخ وغيرهم، واشتد الحال، فركب أبو الفتح محمد بن الحاسب الحاجب، فقتل وصلب، فسكن البلد”.
– “في هذه السنة (407) كانت فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة بواسط، فانتصر أهل السنة، وهرب وجوه الشيعة والعلويين… وفي هذه السنة احترق نهر طابق ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سُرَّ من رأى” .
– “في هذه السنة (408) وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض قتل فيها خلق كثير من الفريقين” .
– “في هذه السنة (422) تجددت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزو، فاجتمع له لفيف كثير، فسار واجتاز بباب الشعير والحراني وبين يديه الرجال بالسلاح، فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر، وقالوا: هذا يوم معاوية، فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ … وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق… وأحرق وخُرِّب في هذه الفتنة سوق العروس وسوق الصفارين وسوق الأنماط وسوق الدقاقين وغيرها”.
– “في هذه السنة (425) وقعت الفتنة ببغداد بين السنة والروافض، حتى بين العيّارين… فمقدّما عياري أهل السنة منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال” .
– “في هذه السنة (432) وقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ وأهل باب البصرة، فقتل خلق كثير من الفريقين”.
– “في هذه السنة (441) مُنع أهل الكرخ من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا، وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة، قتل فيها وجرح كثير من الناس… وبطلت الأسواق وزاد فيها الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا فيه” .
– “في هذه السنة (442) اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضّوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم، وهذا عجيب جداً إلا أن يكون من باب التقية”.
– “في هذه السنة (443) في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: “محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر”، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد (ص) في هذا، فنشبت الحرب بينهم واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد [= ابن حنبل] ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا ضريح موسى [=الكاظم] ومحمد الجواد وقبور بني بويه، وأُحرق قبر جعفر بن المنصور ومحمد الأمين وأم زبيدة وقبور كثيرة جداً، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا . وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضاً بمفاسد كثيرة وبعثروا قبوراً قديمة وأحرقوا من فيها من الصالحين حتى هموا بقبر الإمام أحمد… وتسلط على الرافضة عيّار يقال له القطيعي وكان يتبع رؤساءهم وكبارهم فيقتلهم جهاراً وغيلة، ولم يقدر عليه أحد” .
– “في هذه السنة (444) هاجت الفتنة في بغداد واستعرت نيرانها وأُحرقت عدة حوانيت… فاجتمع غوغاء السنة وحملوا حملة حربية على الرافضة، فهرب النظّارة والتحموا في درب ضيق، فهلك ست وثلاثون امرأة وستة رجال وصبيان، وطُرحت النيران في الكرخ” .
– “في هذه السنة (445) زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنية، وكان ابتداؤها في أواخر سنة أربع وأربعين، فلما كان الآن عظُم الشر واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك. فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ إنساناً علوياً وقتلوه، فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ، فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض، وانتقل كثير [=من الناس] من الكرخ إلى غيرها من المحال”.
– “في هذه السنة (479) في شوال وقعت الفتنة بين السنة والشيعة، وتفاقم الأمر إلى أن نهبت قطعة من نهر الدجاج وطُرحت النار، وكان يُنادى على نهوب الشيعة إذا بيعت في الجانب الشرقي: هذا مال الروافض!” .
– “في هذه السنة (482) في صفر كبس أهل باب البصرة الكرخ فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق ورفعوا المصاحف وحملوا ثياب الرجلين بالدم… وفي جمادى الأولى كثُرت الفتن بين أهل الكرخ وغيرها من المحال وقُتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحالّ على قطعة كبيرة من نهر الدجاج فنهبوها وأحرقوها… وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سُويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم… وجرى من النهب والقتل والفساد أمور عظيمة” .
– “في هذه السنة (483) كانت فتنة هائلة لم يُسمع بمثلها بين السنة والرافضة، وقُتل بينهم عدد كثير، واستظهرت السنة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة وذلّوا ولزموا التقية إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ: “خير الناس بعد رسول الله (ص) أبو بكر”، فاشتد البلاء على غوغائهم وخرجوا عن عقولهم، واشتدوا ونهبوا شارع أبي عوف .
– “في هذه السنة (486) وقعت الفتنة بين الروافض والسنة، وانتشرت بينهم شرور كثيرة”.
– “في هذه السنة (487) وقعت فتنة بين السنة والروافض، فأحرقت محال كثيرة وقُتل ناس كثير”.
– “في هذه السنة (502) في شعبان اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة. وكان الشر بينهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشُّحَن في إصلاح الحال فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة” .
والواقع أنه منذ منتصف القرن الخامس الهجري كان إيقاع الفتن بين السنة والشيعة في بغداد قد تباطأ، ولكن لم يكن ذلك “بغير واسطة” كما يصادر ابن الأثير على ذلك في الكامل. فابن كثير يُفرد على العكس مقطعاً مطولاً من البداية والنهاية لتشخيص تلك “الواسطة” بردّها إلى الانقلاب السياسي والإثني والإيديولوجي الكبير الذي شهدته بغداد في منتصف القرن الخامس مع انتقال السلطة فيها من أيدي آل بويه المتشيعين إلى آل سلجوق المتسننين. في ذلك يقول وهو يعلق على ما أورده من حوادث سنة 448: “وفيها أُلزِم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين . وأزيلَ ما كان على المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاماً، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم المحمود أبداً على طول المدى” .
والواقع أيضاً أنه لئن تباطأ إيقاع الفتن في مركز الدولة السلجوقية في بغداد ، فقد بقي على وتيرته في الأطراف التي بقي يتعاورها ولاة ومتسلطون من عناصر إثنية وطائفية شتى.
وهكذا يروي ابن الأثير في الكامل: “في هذه السنة (510) في عاشوراء كانت فتنة عظيمة بطوس في مشهد علي بن موسى الرضا، وسببها أن علويا خاصم في المشهد يوم عاشوراء بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، واستعان كل منهما بحزبه فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وضربوا وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة”.
وما جرى في طوس سيتكرر في نيسابور سنة 554 ليأخذ شكل صدام واقتتال بين الشافعية من السنة وبين العلويين من الشيعة. وفي ذلك يقول ابن الأثير في الكامل: “قامت الحرب على ساق، وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد، وكثر القتل في الشافعية… وقصر باعهم عن القتال… وبطلت دروس الشافعية بنيسابور، وخرب البلد وكثر القتل فيه”. ولكن تدخل العساكر السلجوقية قلب ميزان القوى، فـ”اشتد الخطب، وطالت الحرب، وسفكت الدماء، وهُتكت الأستار، وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها، وبالغ الشافعية ومن معهم في الانتقام، فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة، وخربوا غيرها. وهذه الفتنة استأصلت نيسابور”. وقد طال أمد هذه الفتنة إلى عام 556، “فخربت نيسابور بالكلية، وبين جملة ما خرب مسجد عقيل، وكان مجمعاً لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافع نيسابور، وخُرِّب أيضاً من مدارس الحنفية ثماني مدارس، ومن مدارس الشافعية سبع عشر مدرسة، وأحرق خمس خزائن للكتب، ونُهب سبع خزائن كتب، وبيعت بأبخس الأثمان، وهذا ما أمكن إحصاؤه سوى ما لم يُذكر”.
وقد تطابقت فتنة نيسابور في الزمن كما في الكيف مع فتنة استراباذ: “في هذه السنة 554 وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة، وبين الشافعية ومن معهم . وكان سببها أن الإمام محمد البزوي وصل إلى استراباذ، فعقد مجلس الوعظ، وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد شافعي المذهب أيضاً، فثار العلويون، ومن يتبعهم من الشيعة، بالشافعية ومن يتبعهم بأستراباذ، ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون، فقتل من الشافعيين جماعة، وهرب القاضي ونُهبت داره ودور من معه، وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد له”.
وفي عام 574 “كان بمدينة الري أيضاً فتنة عظيمة بين السنية والشيعة، وتفرق أهلها، وقتل منهم، وخربت المدينة وغيرها من البلاد” .
وبما أن هذه الفتنة الأخيرة قد تواقتت زمنياً بفارق شهور مع وقعة حطين واسترداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين، فلتكن لنا وقفة أخيرة عند علاقة هذه الفتن السنية-الشيعية الداخلية بالعامل الخارجي.
الطائفية والعامل الخارجي
خلافاً لأدبيات “المؤامرة الخارجية”، التي تؤلف ثابتاً بارزاً من ثوابت الإيديولوجيا العربية المعاصرة، فإن حوليات ابن الأثير تقدم لنا ثلاثة أمثلة على دليل العكس، أي على كون الفتن الطائفية الداخلية ليست من صنع الأجنبي ولا من توظيفه، بل هي التي توظف العامل الخارجي توظيفاً فئوياً على مذبح ما نسميه اليوم بالمصلحة الوطنية أو القومية. والأمثلة التي تقدمها حوليات ابن الأثير تغطي الحالات الثلاث من العلاقات التي عرفها تاريخ الإسلام العربي مع العدو الخارجي الذي تمثل على التوالي بالروم والفرنج والتتار .
الحالة الأولى تأتي في سياق كلام ابن الأثير عن أحداث عام 351. ورغم طول النص فإننا مضطرون إلى تثبيته تماماً، إذ على هذا النحو فحسب ينطق بتمام دلالته من المنظور الذي يعنينا هنا:
“ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، فيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله في مائتي ألف مقاتل بغتة، فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من المقاتلة، فلم يقو به لكثرة جنوده، وقَتَل من أصحاب سيف الدولة خلقاً كثيراً . وكان سيف الدولة قليل الصبر، ففرّ منهزماً في نفر يسير من أصحابه. وأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استحوذ على دار سيف الدولة وكانت في ظاهر حلب، فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم، ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالاً عظيماً، وقتلوا خلقاً كثيراً من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم، فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلما جن الليل جدّ المسلمون في إعادتها، فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، ثم بلغ المسلمين أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم، قبحهم الله فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فَعَلَوْه، ودخلوا البلد يقتلون من لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً، وانتهبوا الأموال، وأخذوا الأولاد والنساء، وخلّصوا من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فأخذ الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وأسروا نحواً من بضعة عشر ألفاً ما بين صبي وصبية ومن النساء شيئاً كثيراً، ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض، وأهلكوا كل شيء قدروا عليه، وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشُّرَط في البلد قاتلهم الله، وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضياً يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب… وفيها (سنة 351) كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد (في بغداد) لعنة معاوية… وأبي بكر… وعمر… وعثمان… ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكر ولم يغير… قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا يُنصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم… وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء” (البداية والنهاية، ج11، ص 239-241).
أما الحالة الثانية من حالات التوظيف الداخلي الطائفي للعامل المعادي الخارجي فتتمثل باستعانة كل من فريقي “الفتنة” المقتتلين بالفرنجة –الذين ما كانوا يسمون في الأدبيات الإسلامية المعاصرة للحدث بالصليبيين- لتمكينه من التغلب على الفريق الآخر، يتساوى في ذلك السنة والشيعة بلا تمايز. ففي معرض الكلام عن حوادث سنة 570 –وهي السنة التي شهدت اقتتالاً داخلياً وصراعاً شرساً على السلطة بين الأيوبيين والزنكيين في دمشق وحمص وحماة وحلب- يذكر ابن كثير أن صلاح الدين توجه إلى حلب فحاصرها وهو يدعي الولاء للملك الصالح ابن نور الدين الزنكي. ولكن هذا الأخير –وكان في الثانية عشر من العمر- كان مدركاً على ما يبدو لمطامع صلاح الدين، فخرج إلى الحلبيين، وكان كثرة منهم من الشيعة منذ أيام الحمدانيين، وجمعهم في ميدان باب العراق، و”تودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد” . ولكن “الروافض” –على حد تعبير ابن كثير- من أهالي حلب استغلوا السانحة ووضعوا لمعاونتهم له شرطاً: “أن يعاد الأذان بـ”حي على خير العمل”، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمساً، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأُذِّن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل”. ومع ذلك كله وقف الحلبيون عاجزين عن مقاومة صلاح الدين الذي كان تسمى بالناصر. وبعد أن تدبروا أكثر من محاولة لقتله أو اغتياله “راسلوا عند ذلك القومس صاحب طرابلس الفرنجي ، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحَّل عنهم الناصر. وكان هذا القومس قد أسره نور الدين [=والد الملك الصالح] وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين”. ونزل القومس عند طلب الحلبيين، و”قصد لحمص ليأخذها، فركب إليه السلطان الناصر… فلما اقترب منه نكص [=القومس] على عقبيه راجعاً إلى بلده [=طرابلس] ورأى أنه أجابهم إلى ما أرادوا منه” (البداية والنهاية، ج12، ص288-279).
وكما لم يحجم الزنكيون السنيون عن الاستنجاد بالصليبيين لوضع حد لمطامح صلاح الدين الأيوبي، كذلك لن يحجم العبيديون الشيعيون عن الاستنجاد بهم، ودوماً للسبب نفسه. ففي حوادث سنة 569 يذكر ابن كثير أنه “اجتمع جماعة من رؤساء الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاماً، فاتفقوا فيما بينهم أن يردّوا الدولة الفاطمية (التي كان أزالها صلاح الدين)، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك” (البداية والنهاية، ج12، ص275). وفي الكامل في التاريخ يوضح ابن الأثير أن من كتبوا إلى الفرنج باستدعائهم لنجدتهم لم يكونوا من العبيديين الفاطميين وحدهم، بل كان في عدادهم أيضاً، علاوة على “جماعة من الشيعة، منهم عمارة اليمني الشاعر”، جماعة من “جند المصريين ورجالاتهم السودان وحاشية القصر، وافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده” . وقد “اتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد. فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم، ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذاً باليد لعدم الناصر له”. وعلى أي حال، وبفضل جواسيس من النصارى، عرف صلاح الدين بجلية الأمر، “فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة وصلبهم” (الكامل، ج7، ص85).
أما الفصل الثالث والأخير من فصول هذا التوظيف الطائفي للعامل الخارجي فهو الأكثر مأساوية بما لا يقاس إذ تمثل باستقدام التتار إلى بغداد فأحرقوها وقتلوا “ألفَ ألفٍ” من سكانها. وتفاصيل الواقعة المشؤومة كما يرويها ابن كثير في حوادث سنة 656 أنه “كان في السنة الماضية بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير . فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد”. فقد استبق الوزير ابن العلقمي مجيء جحافل التتار بتسريح تسعة أعشار جيش الخليفة حتى اضطر المسرحون منهم إلى الاستعطاء “في الأسواق وأبواب المساجد”. ثم “كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً منه أن يزيل السنّة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين”. ثم لما قدم هولاكو وطوق بغداد بمئتي ألف من عساكره ، أشار ابن العلقمي على الخليفة بعدم المقاومة وبالخروج بنفسه لاستقبال هولاكو . فخرج الخليفة “في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منـزل السلطان هولاكو خان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم”. ثم عاد الخليفة إلى بغداد “تحت الحوطة والمصادرة” بصحبة الوزير ابن العلقمي والخوجة نصير الدين الطوسي .
وبناء على نصيحة الاثنين أحضر المستعصم بالله “من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والجواهر والأشياء النفيسة” يريد بها “مصانعة ملك التتار”. ولكن بناء على مشورة الاثنين أيضاً أبى هولاكو المصالحة وأمر بقتل الخليفة، فقتله عساكره رفساً بالأقدام، وقيل خنقاً. ثم “مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان… وقد اختلف الناس في كمية من قتل في بغداد من المسلمين في هذه الموقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف… ولم ينجُ أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة… وعادت بغداد، بعدما كانت آنس المدن، كلها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة” (البداية والنهاية، ج13، ص98).
ورغم أن رواية ابن كثير مطعون فيها وفي تحيزها السني من قِبل المصادر الشيعية –وقد كُتِب أكثر من رد في تفنيدها- فإننا نحوز نصاً يثبت أن كارثة بحجم إحراق التتار لبغداد تظل قابلة مع ذلك للتوظيف الطائفي ولاعتبارها، من منظور هذا التوظيف، نعمة لا نقمة. هكذا يقول محمد باقر الموسى في كتابه روضات الجنات في معرض ترجمته للوزير الطوسي: “هو المحقق المتكلم الحكيم… ومن جملة أمره المشهور المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي جنكيز خان من عظماء سلاطين التتارية وأتراك المغول، ومجيئه في موكب السلطان مؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد، لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد دائرة الجور والإلباس بإبداد دائرة مُلك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة، إلى أن سال من دمائهم الأقدار كأمثال الأنهار، وانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى جهنم دار البوار، ومحل الأشقياء والأشرار”.
والحق أنه، فيما يتعلق بدور العامل الأجنبي في الصراعات الطائفية وبطبيعة توظيفه تبعاً للتفاوت في موازين القوى بين الطوائف المتناحرة، لنا أن نميز بين مفهومين لـ”الخيانة”: مفهوم إيجابي ومفهوم سلبي. فالإيجابي هو الذي يبرر الخيانة للخلاص من الاضطهاد الطائفي من قبل الأكثرية للأقلية، والسلبي هو الذي يبرر امتناع الأكثرية عن الاستعانة بالأقلية الطائفية في مواجهة الأجنبي.
النمط الأول يجد نموذجه في الشاهد التالي الذي نقبسه من كتاب تاريخ العلويين لمؤلفه محمد أمين غالب الطويل (بيروت، ص. 407): “لما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها –وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان- كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة”.
والنمط الثاني، الذي لا يبيح الاستعانة بالطوائف المخالفة حتى في حال المواجهة مع عدو خارجي، يجد نموذجه في الفتوى التالية التي أصدرها ابن باز، المفتي السابق للديار السعودية، عندما طُرح عليه هذا السؤال: “هل يمكن التعامل مع الرافضة لضرب العدو الخارجي؟”، فأجاب: “لا أرى ذلك ممكناً”. بل إن ابن جبرين، مفتي ديار السعودية الأسبق، ذهب في فتوى مماثلة إلى أبعد من ذلك، وأوجب على أهل السنة –”إن كان لهم دولة وقوة”- أن “يجاهدوهم [= الشيعة] بالقتال ليكفوا عن إظهار شركهم” .
ولعلنا نستطيع أن نستلحق بهذا النمط السالب ما قيل على لسان الإمام جعفر الصادق. فبدون أن يبيح توظيف العامل الخارجي في الصراع الطائفي الداخلي، وبدون أن يبرر لا “الخيانة” ولا “التخوين”، فإنه يقدم مع ذلك الجهاد الداخلي على الجهاد الخارجي ويعطي الأولوية للدفاع عن ثغور العقيدة في مواجهة الخصم الطائفي على الدفاع عن ثغور الأمة في مواجهة العدو الديني. فقد أورد المرتضى الأبطحي في كتابه الشيعة في أحاديث الفريقين “عن الإمام العسكري قال: قال جعفر بن محمد: علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا، ومن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب. ألا من انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذاك يدفع عن أبدانهم”.
خاتمة مؤقتة
ماذا يمكن أن نستنتج من هذا العرض المطول؟ إن الأمر لا يحتاج إلى كبير اجتهاد: فما يجري اليوم في العراق، وإلى حد ما في باكستان، وما يمكن أن يجري في السعودية أو في دويلات الخليج أو في إيران فيما لو ارتفعت يد الدولة القامعة أو الضابطة، لا يدع مجالاً للشك في أن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. وحتى لا يبدو وكأننا نحمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتّقدت تبعاً لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة.
والسؤال، كل السؤال: كيف السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوماً، وإن الكامنة في ظاهرها تحت الرماد، بين طوائف الإسلام؟
أعن طريق الديمقراطية كما ينادي محمد عابد الجابري الذي طالب ذات يوم بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي والاستعاضة عنها بشعاري العقلانية والديمقراطية؟
ولكن كيف السبيل إلى عقلنة ودقرطة العلاقات بين طوائف الإسلام -فضلاً عن العلاقات بين الملة الإسلامية والملل الدينية الأخرى، ولا سيما منها المسيحية ولكن كذلك الإحيائية كما في مثال السودان- هذا إذا اكتفينا بالإسلام العربي ولم نتعدّه إلى الإسلام الآسيوي حيث ينطرح السؤال نفسه بالنسبة إلى البوذية والهندوسية والكونفوشية والطاوية، الخ؟
أجل، كيف السبيل إلى عقلنة ودقرطة العلاقات بن الطوائف الإسلامية المتكارهة علناً أو سراً أو تقيةً في ظل تغييب متعمد للعلمانية التي ما جرى اكتشافها وتطويرها في مختبرات الحداثة الأوروبية إلا لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي؟
أنعالج الداء بغير دوائه كما يدعونا إلى ذلك مفكرو الامتثالية الشعبوية؟
وعلى سبيل الجدل لنسلّم لهم بحلهم الديمقراطي، أو الديموقراطوي بالأحرى Démocratiste. فنحن نعلم أن عماد الديمقراطية الأول هو صندوق الاقتراع. ولكن في وضعية طائفية لن يصوّت الناخبون إلا لممثليهم الطائفيين.
ونحن نعلم أن عماد الديمقراطية الذي لا يقل أولوية هو المنافسة السياسية بين الأكثرية والأقلية. ولكن نجع هذه اللعبة –وهي لعبة فعلاً وليست اقتتالاً كما في المنافسة الطائفية- مرهون ببقائها أفقية وببقاء الطرفين اللاعبين فيها مؤقتين في نصابهما الأكثري أو الأقلوي، بحيث يمكن لأقلية اليوم أن تصير أكثرية في الغد، وهكذا دواليك. والحال أن الأكثرية والأقلية في المنافسة الطائفية ثابتتان لا تتغيران –اللهم إذا تغير ميزان القوى الديمغرافي. ثم إنهما أكثرية وأقلية عموديتان تخترقان جسم المجتمع ولا ينحصر تنافسهما بقاعة المجلس النيابي. وعلاوة على هذا كله فإن المنافسة الديمقراطية تقوم على مفهوم الخصم، والخصم المطلوب التغلب عليه متقلب وقابل باستمرار لأن تتبدل هويته، على حين أن المنافسة الطائفية تقوم على مفهوم العدو، والعدو ثابت ولا تتغير هويته، ولا سبيل إلى التغلب عليه إلا بقمعه أو حتى باستئصاله. وإذا استحال ذلك، رفع شعار: لا غالب ولا مغلوب كما في مثال لبنان اليوم، وهو شعار من شأنه تأبيد المنافسة الطائفية يقيناً وتعطيل اللعبة البرلمانية احتمالاً، على نحو ما نشاهد هذه الأيام في هذا البلد الذي لا تزيدنا آلامه إلا حباً له.
وأخيراً هناك إشكال نظري خطير تثيره الديمقراطية المفصولة عن توأمها: العلمانية. فنحن نعلم أن كل فلسفة الديمقراطية وآليتها معاً تقومان على اعتبار الأمة أو الشعب هو مصدر التشريع. والحال أن الإسلام، كما هو سائد اليوم على الأقل، لا يعترف بمصدر آخر للتشريع سوى القرآن والسنة، بالإضافة إلى إلهام الأئمة الاثني عشر عند الشيعة.
وفي سياق إشكالية مصدر التشريع هذه يثور إشكالان آخران من طبيعة نظرية وعملية. الأول يتعلق بمسألة المساواة في العلاقات بين الجنسين، والثاني يتصل بنصاب العلاقات الجنسية في قانون العقوبات.
ففيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، فنحن نعلم أن هذه المساواة باتت من بديهيات الديمقراطية. والحال أن الشرع الإسلامي لا يقر للمرأة بهذه المساواة، لا في الإرث، ولا في الشهادة، ولا في الزواج، ولا في الإمامة التي يحجبها عنها حجباً تاماً .
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن قانون العقوبات كما طورته الأنظمة الديمقراطية يميز تمييزاً حاسماً بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة، ولا يعتبر بالتالي العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج أو العلاقات بين أفراد الجنس الواحد جريمة يعاقب عليها القانون، على حين أن الشرع الإسلامي يعتبر الزنا أو الجنسية المثلية جرماً يستوجب الجلد أو حتى القتل رجماً . وبدون علمنة لقانون العقوبات، فإن الديمقراطية الجنسية، كما قد يجوز لنا أن نقول، تظل مستحيلة، كما يظل مستحيلاً أصلاً إلغاء العقوبات الجسدية من قانون العقوبات.
وبديهي أننا، في دفاعنا الحار هذا عن العلمانية، لا نهدف إلى أن نجعل منها إيديولوجيا خلاصية كما كنا فعلنا مع فكرة الوحدة العربية أو الاشتراكية بالأمس، وكما يُفعل اليوم مع فكرة الديمقراطية. بل تماماً كما كنا قلنا عن هذه الأخيرة ، فإن العلمانية ليست ثمرة برسم القطف، بل هي بذرة برسم الزرع. والتربية العلمانية لا بد أن تبدأ، في سياق عملية تحديث شاملة، من المدرسة الابتدائية قبل ترجمتها، أو بموازاة هذه الترجمة، إلى مادة دستورية أساسية، مع كل ما يترتب على ذلك من تعديل لمواد القانون المتعارضة والمبدأ العلماني. بل أكثر من ذلك بعد: إن العلمانية لن يكتب لها النجاح والنجع في العالم العربي -وفي العالم الإسلامي بشكل أعم- ما لم تقترن بثورة في العقليات. ففي صندوق الرأس، وليس فقط في صندوق الاقتراع، يمكن أن نشق الطريق إلى الحداثة بركيزتيها الاثنتين: الديمقراطية والعلمانية. وهذا مسار مستقبلي يفرض نفسه بمزيد من الإلحاح في زمن الارتداد العربي والإسلامي هذا إلى قرون وسطى جديدة.
tarabichi5@yahoo.fr
* كاتب سوري- باريس
-1 شاهد الجابري هذا وشاهد حسن حنفي من بعده مأخوذان من مناظرتهما حول العلمانية في حوار المشرق والمغرب، دار توبقال، الدار البيضاء 1990.
2 – لنلاحظ أن حسن حنفي لا يكتفي هنا بتغييب أسماء نهضويين علمانيين مسلمين بارزين من أمثال الكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وإسماعيل أدهم وإسماعيل مظهر فحسب، بل إن اندفاعه في ممارسة “ثقافة الفتنة” –على حد توصيف جورج قرم- يجعله يدرج في عداد “نصارى الشام” نهضوياً مسلماً طليعياً هو ولي الدين يكن.
3 – د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي: العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، موقع الصحوة الإلكتروني.
-4 نقول إنها فلسفة وآلية معاً دون أن يغيب عنا أن هناك من يعتبر العلمانية –مثلها في ذلك مثل الديمقراطية أصلاً- مجرد آلية قانونية، ومنهم من يعتبرها أيضاً وفي الوقت نفسه فلسفة.
5 – هذا إذا أخذنا بالأرقام التي يوردها ابن كثير في البداية والنهاية.
6 – نخص منها بالذكر هنا حركة خروج الإمام زيد بن علي بن الحسين التي عرف فيها رأسه نفس المصير الذي عرفه رأس جده الحسين. فبعد مقتله في المواجهة مع الجند الأمويين نبش قبره واستخرج جثمانه، ففُصل رأسه عن جسده، وبُعث به إلى الشام، فأمر هشام بن عبد الملك بأن يطاف به في البلدان ليكون عبرة. وقد نُصب الرأس في المدينة أمام قبر الرسول، ثم في الجامع الأعظم في مصر، قبل أن يؤخذ ويدفن سراً. أما الجسد فصُلب عارياً على جذع نخلة في كُناسة الكوفة.
7 – يذكر ابن كثير أنه في يوم “جبانة السبيع” انتصر المختار بن عبيد الثقفي، الذي خرج يدعو لمحمد بن الحنفية، الأخ غير الشقيق للحسن والحسين، على جيش الأمويين، فأسر منهم خمسمئة أسير وقال لأمراء سراياه: “انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلاً”. ثم جعل يتتبع من بقي منهم في الكوفة و”كانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا، ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يُرمى بالنبال حتى يموت” (البداية والنهاية، ج8، ص370-373).
8 – السيوطي: تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ص347. وفي هذا السياق المتعصب نفسه أمر المتوكل في السنة الثالثة من خلافته “أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى، وأن يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم، وأن يحملوا في رقابهم كرات خشب كبيرة، وأن لا يركبوا خيلاً، إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم، المهينة لنفوسهم، وأن لا يستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وبتضييق منازلهم المتسعة، وأن يُعمل مما كان متسعاً من منازلهم مسجد، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق، وإلى كل بلد ورستاق”، (ابن كثير: البداية والنهاية، طبعة مكتبة المعارف المصورة، بيروت 1977، ج10، ص313-314).
9 – تاريخ الخلفاء، ص356.
10 – لقب بهذا اللقب لأنه قضى السنوات الأخيرة من حياته في الإقامة الجبرية في “عسكر” سر من رأى.
11 – ابن الأثير: الكامل في التاريخ، المجلد 7 ، مكتبة مشكاة الإسلامية الإلكترونية. وفي شواهدنا التالية من الكامل سنكتفي بذكر السنة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ابن الجوزي يتكلم في المنتظم، في سياق حوادث سنة 348، عن اتصال وليس فقط عن بدء للفتنة، فيقول: “في جمادى الأولى اتصلت الفتن بين الشيعة والسنة وقتل بينهم خلق كثير ووقع حريق كبير في باب الطاق” (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، المجلد 14، مكتبة مشكاة الإسلامية الإلكترونية).
12 – استكمالاً لفهم هذا النص يجب أن نذكر أن معز الدولة هو اللقب الذي أطلقه الخليفة المستكفي بالله على أحمد بن بويه، فصار ذلك سنَّة في تلقيب جميع الأمراء البويهيين بالإحالة إلى “الدولة” تماماً كما اعتاد الخلفاء العباسيون تلقيب أنفسهم بالإحالة إلى “الله”. أما المقصودون باللعنة فهم على التوالي: أبو بكر الذي حرم فاطمة من إرثها عن أبيها لقرية فدك، وعائشة بنت أبي بكر التي منعت دفن الحسين عند قبر زوجها وجده، أي الرسول (وإن تكن الروايات السنية تذكر أن من منع ذلك هو والي المدينة مروان بن الحكم)، وعمر بن الخطاب الذي استبعد العباس [لميله إلى علي] من قائمة الشورى، وعثمان بن عفان الذي نفى أبا ذر الغفاري إلى الرُّبذة.
13 – براثا: محلة شيعية في بغداد في قبلة الكرخ، ومسجدها من أشهر مساجد الشيعة، وقد أحرق مراراً، كما أن الخليفة الراضي بالله أمر بهدمه حتى سوّى به الأرض.
14 – في الواقع، إن الاقتتال في تلك السنة لم يقتصر على السنة والشيعة من سكان بغداد، بل نشب أيضاً، وبالمناسبة نفسها، بين العنصرين الاثنيين المتنافسين: الأتراك المتسننين والديالمة المتشيعين. وهكذا يضيف ابن كثير القول: “وفيها (سنة 363) وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والأتراك، فقويت الديلم على الترك بسبب أن الملُك فيهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وحبسوا رؤساءهم ونهبوا كثيراً من أموالهم”. ولكن في بغداد نفسها انقلبت الدائرة على الديلم الذين كان على رأسهم عز الدولة لصالح الأتراك الذين كان على رأسهم سبكتكين. وهكذا يضيف ابن كثير أن “سبكتكين ركب في الأتراك وحاصر دار عز الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها، ونهب ما فيها. وقويت شوكة الأتراك ببغداد، ونهبت الأتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤوس العامة لأنهم كانوا معه على الديلم، وقويت شوكة السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ -لأنه محل الرافضة- ثانياً وظهرت السنة على يدي الأتراك” (ج11، ص 375).
15 – هنا تحديداً نفترق عن فرويد في تأويله لنشوء الديانات التوحيدية من منطلق مخططه المستوهم عن جريمة قتل الأب. فلئن تكن اليهودية قابلة لأن تدخل في شبكة هذا التأويل، فإن المسيحية والإسلام الشيعي يفترقان عنها، وعن الإسلام السني، بكونهما ديانتين بنيويتين أكثر مما هما أبويتان.
16 – كان الكليني قد عبّر، حتى قبل تأسيس طقس عاشوراء، عن الحاجة النفسية إلى التكفير عن التقصير في نصرة الحسين، فقال في الكافي: “إن الله قال للملائكة: الزموا قبر الحسين حتى تروه قد خرج، فانصروه وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته، فإنكم قد خُصصتم بنصره والبكاء عليه، فبكت الملائكة تعدّياً وحزناً على ما فاتهم من نصرته”.
17 – ننقل هنا عن شمس الدين الذهبي في العبر في خبر من غبر.
18 – يضيف ابن الأثير أنه في هذه السنة أيضاً “قُتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية”. وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة سأل عنهم فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر، فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر. فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلي من القيروان –وهو تجتمع فيه الشيعة- فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم طمعاً في النهب… فقُتل من الشيعة خلق كثير وأُحرقوا بالنار ونُهبت ديارهم، وقُتلوا في جميع إفريقية. واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قرب القيروان فتحصنوا به، فحاصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم، حتى قُتلوا عن آخرهم”.
19 – يضيف ابن الجوزي في المنتظم أنه في تلك السنة أيضاً ظهرت ظاهرة “الأبواب”، أي بلغة الحرب الأهلية اللبنانية “حواجز القتل على الهوية”. وفي ذلك يقول: “إن الفتنة بين الشيعة والسنة تفاقمت وعمل أهل نهر القلائين باباً على موضعهم وعمل أهل الكرخ باباً على الدقاقين مما يليهم، وقتل الناس على هذين البابين”.
20 – ليست هذه هي المرة الوحيدة التي تمتد فيها الفتنة بين السنة والشيعة إلى اليهود والنصارى. ففي فتنة سنة 437 “بين الروافض والسنة اتفق الفريقان على نهب دور اليهود وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم، واتفق موت رجل من أكابر النصارى بواسط فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جَهراً ومعها طائفة من الأتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم وأخرجوه من أكفانه فأحرقوه ورموا رماده في دجلة و مضوا إلى الدير فنهبوه”.. (البداية والنهاية، ج12، ص54).
21 – تواقتت حرب الماء هذه، التي ستتكرر في عدة فتن لاحقة، مع وباء داء الخانوق الذي فتك تلك السنة بسكان بغداد فتكاً ذريعاً حتى قدّر عدد الموتى منهم يومئذ بسبعين ألفاً.
22 – تلك هي ظاهرة النزوح التي يعرفها عراق اليوم على نطاق موسع، علماً بأن الجانب الشرقي من بغداد سني، والجانب الغربي ذو غالبية شيعية.
23 – وهي سنة استثنائية كما سنرى للحال.
24 – نحن ننقل هنا، لا عن ابن الأثير في الكامل، بل عن ابن كثير في البداية والنهاية (ج12، ص62).
25 – هما الإمامان السابع والتاسع عند الشيعة الاثني عشرية.
26 – يقدم الذهبي في العبر في خبر من غبر رواية أخرى عما حدث في سنة 443 فيقول: “فيها زال الأنس بين الشيعة والسنة وعادوا إلى أشد ما كانوا عليه، وأحكم الرافضة سوق الكرخ وكتبوا على الأبراج: “محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر”، فاضطرمت نار الفتنة وأُخذت ثياب الناس في الطرق وغُلّقت الأسواق واجتمع للسنة جمع لم يُرَ مثله، وهجموا على دار الخلافة فوُعدوا بالخير، فثار أهل الكرخ، والتقى الجمعان، وقُتل جماعة ونُهب باب التين، ونُبشت عدة قبور للشيعة، وأحرقوا وطرحوا النيران في التُّرَب، وتم على الرافضة خِزي عظيم، فعمدوا إلى خان الحنفية فأحرقوه وقتلوا مُدرِّسهم أبا سعد السرخسي رحمه الله”.
27 – ننقل هنا عن الذهبي في العبر في خبر من غبر.
28 – ننقل هنا من ابن الجوزي في المنتظم. ونهر الدجاج محلة شيعية قريبة من الكرخ.
29 – دوماً في سياق حوادث سنة 482 سيضيف ابن كثير في البداية والنهاية (ج12، ص135): “وفيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة، ورفعوا المصاحف، وجرت حروب طويلة، وقُتل فيها خلق كثير… قريب من مائتي رجل… وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي (ص)، فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ، وأنا حكيت هذا ليُعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله، ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم لله ولرسوله ولشريعته”.
30 – ننقل هنا عن الذهبي في العبر في خبر من غبر.
31 – التسويد منا.
32 – هذا الخلاف بين صيغتي الأذان السني والأذان الشيعي لا يزال قائماً إلى اليوم: فالسنة يختمون آذانهم بـ”الصلاة خير من النوم”، والشيعة بـ”حي على خير العمل”.
33 – البداية والنهاية (ج12، ص 68-69). ويضيف ابن كثير أنه في تلك السنة عينها “أمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقُتل على باب دكانه”.
34 – كانت آخر فتنة كبيرة شهدتها بغداد وقعت سنة 574، إذ فيها كما يروي الذهبي في العبر “أُخذ ابن قرايا الرافضي الذي يُنشد في الأسواق ببغداد، فوجدوا في بيته سب الصحابة، فقطعت يده ولسانه، ورجمته العامة، فهرب وسبح، فألحوا عليه بالآجر فغرق، فأخرجوه فأحرقوه، ثم وقع القبح على الرافضة وأُحرقت كتبهم، وانقمعوا حتى صاروا في ذلة اليهود. وهذا شيء لم يتهيأ ببغداد من نحو مائتي وخمسين سنة”.
35 – تواقتت مع فتنة الري فتنة مماثلة في أصفهان، ولكنها دارت هذه المرة بين الشافعية والحنفية، فـ”جرى بأصفهان من الحروب والقتل والاحراق والنهب ما يجلّ عن الوصف”.
36 – هناك عدو خارجي رابع تعاطى معه الإسلام العربي تمثل بنصارى إسبانيا. ولكن رغم أن تاريخ العلاقات الإسلامية-النصرانية ما بين عدوتي البحر الأبيض المتوسط يشتمل على سجل حافل من تواطؤ طوائف الإسلام المغربي مع العدو النصراني الإسباني، فلن نتوقف عنده لأننا نحصر نطاق دراستنا هنا بالإسلام المشرقي بجناحيه السني والشيعي وبعاصمته السياسية والحضارية الكبرى بغداد.
37 – لا ننسَ أنه في هذه السنة كما تقدم البيان كانت العاصمة المركزية، بغداد، مشغولة بالفتنة الداخلية بين السنة والشيعة على إثر كتابة هؤلاء الأخيرين على مساجدهم بلعن معاوية وعائشة وأبي بكر وعمر وعثمان.
38 – الجدير بالذكر أن ابن كثير يورد في حوادث السنة التالية (352) التي توفي فيها دمستق الروم الأرمني الأصل ترجمة مختصرة لسيرته يعيد فيها التوكيد على أن الروم ما كانوا ليحرزوا ما أحرزوه من انتصارات على المسلمين بقيادته لولا “تقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم”. والطريف أنه يورد بعد ذلك قصيدة هي من أندر النوادر في نظائرها، يسميها بـ”القصيدة الأرمنية الملعونة”، لأنها قصيدة مطولة في سبعين بيتاً نظمها بالعربية للدمستق بعض المرتدين من كتّابه وبعث بها إلى الخليفة المطيع لله يتغنى فيها بفتوحاته ويتوعد باستملاك تمام حوزة الإسلام وبردّها إلى النصرانية. والحال أنه في هذه القصيدة عينها يعيِّر الدمستق المسلمين بكونهم قد ارتضوا لأنفسهم ولاة من الديالمة “الروافض” (مما يدل على أن كاتب القصيدة المرتد كان سنياً) ممن احترفوا صناعة سب صحابة الرسول. وهكذا تقول القصيدة وهي تخاطب أهل بغداد:
رضيتم بحكم الديلمي ورفضه فصِرتم عبيداً للعبيد الديالمِ
نُصِرنا عليكم حينما جارت ولاتكم وأعلنتموا بالمنكرات العظائمِ
سأفتح أرض الله شرقاً ومغرباً وأنشر ديناً للصليب بصارمي
فعيسى علا فوق السموات عرشه يفوز الذي والاه يوم التخاصمِ
وصاحبكم بالترب أودى به الثرى فصار رفاتاً بين تلك الرمائمِ
تناولتم أصحابه بعد موته بسبٍّ وقذف وانتهاك المحارم
والجدير بالذكر أيضاً أن ابن كثير يورد قصيدة مضادة لابن حزم الأندلسي يرد فيها على “القصيدة الأرمنية الملعونة”، ويرجع فيها هو أيضاً هزيمة المسلمين إلى سياسة خلفائهم الذين حكَّموا الأتراك والديالمة في رقاب الأمة، ويعيِّر فيها النصارى الروم بأنهم ما انتصروا –عندما انتصروا- إلا على “أراذل أنجاس” من حمدانيين شيعيين وكافوريين فاطميين:
ولما تنازعنا الأمور تخاذلاً ودانت لأهل الجهل دولةُ ظالمِ
وقد شعلت فينا الخلائف فتنة لعبدانهم مع تُركهم والدلائمِ
وثبتم على أطرافنا عند ذاكمُ وُثوبَ لصوصٍ عند غفلةِ نائمِ
بأبنا بني حمدان وكافور صلتمُ أراذل أنجاسٍ قصارِ المعاصمِ
دعيّ وحجّام سطَوْتم عليهما وما قَدْرُ مصاصِ دماءِ المحاجمِ
39 – يقدم ابن الأثير في الكامل مزيداً من التفاصيل عن هذه الواقعة من وقائع الاقتتال الداخلي والصراع على السلطة بين المسلمين في وقت كان فيه الصليبيون قد احتلوا جملة الساحل السوري من طرابلس إلى الإسكندرية، فيقول: “لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحاصرها، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح، وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة، وجمع أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم، وقد جاء هذا الظالم [صلاح الدين] الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي، ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق. وقال من هذا كثيراً وبكى فأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده، وجدّوا في القتال، وفيهم شجاعة قد ألفوا الحرب واعتادوها حيث كان الفرنج بالقرب منهم” (الكامل في التاريخ، ج7، ص 10).
40 – هو ريمون دي تولوز، ويعرف في المصادر التاريخية العربية باسم ريمند الصنجيلي.
41 – يصدق من المنظور الذي نحن بصدده على النصارى ما يصدق على المسلمين. فكما أن المسلمين في صراعاتهم الداخلية ما كانوا يتوانون عن الاستعانة بالأجنبي النصراني، كذلك ما كان النصارى في صراعاتهم المماثلة يتوانون عن الاستعانة بالأجنبي المسلم. وهكذا يروي ابن كثير في حوادث سنة 582: “وفيها هادن قومس طرابلس السلطان [=صلاح الدين] وصالحه وصافاه، حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال، وسبى منهم النساء والصبيان، وكاد أن يسلم، ولكن صده السلطان، فمات على الكفر والطغيان، وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج، ومن أشد ما دخل عليهم في دينهم” (البداية والنهاية، ج12 ص319).
42 – نسبة إلى الملك نور الدين الزنكي الذي يقول ابن الأثير إنه “أظهر ببلاده السنة وأمات البدعة… ولم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه”.
43 – التسويد منا.
44 – هو مؤيد الدين بن العلقمي الذي يدمغه ابن كثير بأنه كان “قبحه الله ولعنه شيعياً جلداً رافضياً خبيثاً”. هذا ويذكر أبو الفداء في تاريخه أن أبا بكر ابن الخليفة المستعصم بالله هو من أمر العسكر بنهب محلة الشيعة “فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش”.
45 – مدعومين على كل حال بـ”أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة”.
46 – على كل حال أيضاً لم يكن الخليفة المستعصم بالله متهيئاً للمقاومة. فابن كثير هو من يروي أيضاً أنه يوم حاصرت جيوش التتار بغداد أحاطت “بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك”.
47 – هذا الفلكي والفيلسوف والشارح الكبير لابن سينا يقدم نموذجاً آخر عن مدى الانئسار للمنطق الطائفي في توظيف العامل الخارجي، ولكن هذه المرة ليس في الصراع بين السنة والشيعة، بل بين الشيعة الاثني عشرية والشيعة السبعية. فهذا المتكلم الذي كتب في علم اللاهوت الشيعي قواعد العقائد كان وقع في الأسر وأجبر على الإقامة والخدمة في قلعة ألموت، حصن الإسماعيليين الحصين. ورغم أن أميرهم علاء الدين، ومن بعده ابنه شمس الشموس، قد استوزراه، فإنه لما قدم التتار وحاصروا القلعة أرشدهم إلى دفاعاتها، فسقطت. فألحقه هولاكو بخدمته وجعله وزيره المشير واستصحبه معه في حملته على بغداد.
48 – الشاهدان من كتاب : الفتاوى المعاصرة في الرافضة، ص 32 و42.
49 – علماً بأنه لا وجود في أي دولة في العالمين العربي والإسلامي لمجتمع “نقي” طائفياً. فحتى دول المغرب العربي التي يعزى إليها مثل هذا النقاء لا تخلو –فضلاً عن الأقلية الكبيرة الأمازيغية- من أقليات دينية وطائفية. فتونس والجزائر والمغرب تتواجد فيها أقليات يهودية ومسيحية. وليبيا وتونس تتواجد فيهما أقلية إباضية. وفي الجزائر توجد حتى أقلية درزية تتمثل في قبيلة بني عبس المتوطنة قرب تلمسان. ثم إن هذه الأقطار الأربعة لا تخلو جميعها من شيعة مكتومين ملتزمين –أو مُلزمين- بالتقية.
50 – وإن يكن هذا الدواء قد بقي غير ناجع حتى الآن –لنعترف بذلك- في الحالة الإرلندية المعقدة التي يتلبس فيها النزاع الطائفي طابعاً قومياً.
51 – في سياق هذه اللامساواة المتعددة الوجوه التي ترزح تحتها المرأة في المجتمعات المحكومة –في أحوالها الشخصية على الأقل- بالشرع الإسلامي تحتل مسألة الإرث مكانة خاصة، لا من حيث أنها تنطق بلامساواة فاضحة فحسب، بل كذلك من حيث بعض الدور الذي تلعبه فيما قد يجوز لنا أن نسميه بـ”الحراك الطائفي”. فمعلوم أن الفقه الشيعي، على خلاف الفقه السني، يثبّت حق البنت في الإرث كاملاً إذا لم يكن لها أخ أو إخوة ذكور. ولهذا لا يندر أن يتحول بعض الآباء عن مذهبهم السني الأصلي إلى المذهب الشيعي ليضمنوا حق بناتهم في الوراثة إن لم يكن لهم أبناء ذكور. ومن مشاهير من فعل ذلك في لبنان رياض الصلح رئيس الوزراء الأسبق وسليم الحص رئيس الوزراء السابق. والمثال الذي يجسّده هذا الأخير غني بالدلالات. ففضلاً عن أنه قد “تشيّع” كي يورث ابنته الوحيدة، فقد كان متزوجاً بمسيحية، ليلى فرعون، وقد بقيت على دينها الأصلي إلى أن حانت ساعة وفاتها، فطلبت أن تعتنق الإسلام، وهذا ما لم يكن طالبها به قط. وقد عللت طلبها بأنها لا تريد أن تدفن إلى غير جانب قبره في مقبرة أخرى. ترى أمن حقي أن أهدي إلى ذكراها وإلى بادرة حبها الكبيرة تلك هذه الدراسة التي بين يدي القارئ والتي تريد، مهما بدت له قاسية، أن تساهم في التحول من ثقافة الكراهية الطائفية إلى ثقافة المحبة العابرة للطوائف؟
52 – لهذا لا يتردد الإسلاميون المعاصرون في وصف القوانين الحديثة المعلمنة التي تبيح الحرية الجنسية، بين الراشدين ولا تجرِّم الزنى أو الجنسية المثلية، بأنها قوانين “ديّوثية”.
53 – في كتابينا: “هرطقات” و”في ثقافة الديمقراطية”.
شكراً للمسيحية..
أعطوا لله ما لله، وإعطوا لقيصر ما لقيصر: رغم أني لست منحدراً من بيئة مسيحية، إلا أني لا أستطيع إلا أن أثمن وأقدر هذا القول للمسيح. العلمانية مفهوم مسيحي بإمتياز، ولهذا السبب إستطاعت أوربا وأمريكا تبني وتطبيق هذا المفهوم. أما سبب الممانعة التي يبديها الإسلام تجاه العلمانية، فهذا تنطبق عليه مقولة شبنجلر: ” لا تقبل ثقافة ما عناصرها الثقافية من ثقافة أخرى إلا إذا كانت تتسق مع روحها “.
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلاميةc’est un article de une démonstratíon frappante de l’islam historique et de leur effets historique et sociologique . Malheureusement, ils existent tout encore des gens qui proclamaient le retour à un état qui prouve incontestablement les significations correctes de nortre islam qui était historiquement une guerre civile permanente et sans cesse . les islamistes sont une catastrophe morale et sociologique .ils ne sont pas capables de voire les faits et de tenter à dégager les conclusions necessaires de ces faits pour ainsi prendre conscience sur eux-mêmes.Comment peut-on appeler la structure psychologique de ces gens ? sera… قراءة المزيد ..
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية شكرا يا أستاذ جورج ,لقد وضعت أصبعك على الجرح الذي يتعامى الكل عنه إما لمصلحة وإما لجهل وهو داء دفين رحم الله أحمد شوقي إذ يقول : والداء اقتله دفينه أنا يا كرام أزعم أن الدين أمر شخصي وكثير من قبائل العرب بقيت على دينها وما كان منهم إلا الخير وما وجدوا إلا الخير ولكن دخول الدين إلى باب المصالح هو الآفة الكبرى والصليبيون ماجاؤاوتسموا باسم الدين إلا تعلة وفتوحات المسلمين ماكانت إلا تعلة فالأديان دعوة (ومن شاء فل يؤمن )والحروب سنة (ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض ) فهي اليوم لك وغد لغيرك والقرآن… قراءة المزيد ..
الأسئلة الجذريّة
شكرا للأستاذ ج.طرابيشي الذي ظلّ من القلائل الذين يطرحون في زمن الردّة والمهادنة والبحث عن الحلول التي لا تغضب فقهاء الظلام الأسئلةَ الجذريّةَ.
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية
Amazing study as usual Mr. Tarabishi