العلمانية المتمردة

1

نحن لا نمتلك في اللغة الفارسية كلمة دقيقة وواضحة لبيان معنى العلمانية، ليس في اللغة الفارسية فحسب بل أيضاً في أي من اللغات غير اللاتينية، فليس من كلمة مرادفة لها.

العرب أيضاً لم يتمكنوا من إيجاد كلمة دقيقة مرادفة لها. وقد آثرت الغالبية استخدام الكلمة الانجليزية بشكلها الحالي.

بالطبع تتداول في اللغة الفارسية كلمات مثل الدنيوية والعالمية، أي الاهتمام بالدنيا والعالم. في اللغة العربية تستخدم كلمة العلمانية، لكن هناك خلاف حول أصل الكلمة، ما إذا كانت من العلم أم من العالم. في اللغات اللاتينية سكولاريزم مأخوذة من كلمة سكولوم، أي هنا والآن، أي هذا العالم وليس عالم آخر بعد الموت، هذه الدنيا وليس العالم الأعلى.

العلمانية هي إثبات عالم وإنكار عالم آخر، وهذا يعني أن اهتمامنا اليوم منصب على هذا الكون الأرضي والطبيعي الذي نعيش فيه، نحاول معرفة هذا العالم وليس عالم ما بعد الموت والعالم الأعلى (ما وراء الطبيعية). العلمانية هي إنكار للزهد وإثبات للتنعم والرفاهية الدنيوية بكافة أشكالها وعدم الاكتراث بالآخرة وبما وراء الطبيعة.

نحن لم نكن على معرفة بهذا المفهوم كما كان يجب، لذلك لم نقم بإيجاد كلمة أو مصطلح له ولم تولد لدينا حركة ذهنية وعملية، لكن في الغرب كانت للعلمانية ذلك النمو الطبيعي، أصبحت شجرة تلقي بظلالها على الحضارة الغربية، وأصبح الغربيون يعيشون في ظل هذه الشجرة.

في الأدب الإسلامي هناك كلمتان متقاربتان لبعض أوجه العلمانية، أو على الأقل متقاربتان من حيث الجذور اللغوية. إحداهما كلمة دهر، التي تماثلها كلمة DURE بالفرنسية وDURATION بالانجليزية، ويبدو أن لهما الجذور ذاتها. فكلمة الدهر ذكرت في القرآن أيضاً عندما يقول المنكرون بأننا نحن بأنفسنا نرحل عن هذه الدنيا (وما يهلكنا إلاّ الدهر)، أي أن الدهر والزمان يهلكاننا وليس هناك سبب آخر، إذ ليس هناك رب وليس هناك ما وراء الطبيعة، ولا توجد قوة خفية، هما الزمان والعالم اللذان يوجداننا وبالنهاية ينهياننا. وكما قال الشاعر عمر الخيام:

أنه كأس يمزجه الدهر

ويقبّل جبينه مائة قبلة

يد الدهر التي تصنع أجمل الكؤوس

هي التي تكسرها في النهاية

الدهر يعني الزمان والعصر ويتناسب تناسبا تاماً مع كلمة العلمانية، التي تشمل مفهوم الزمان. طبعاً أنا لا أقترح أن نطلق على العلمانيين دهريين، إذ يعتبر هذا اللقب أو الصفة، في اللغة العربية واللغة الفارسية وفي بيئة متدينة، لقباً تكفيرياً غير بعيد عن الشتم. يعتقد الفلاسفة بأن سمة الطبيعة التي نحيا فيها يحدها الزمان، وعالم ما وراء الطبيعة هو اللازمان واللامكان. في اللغة الانجليزية temporal order تعني الرتبة الزائلة أو المؤقتة وeternal order تعني الرتبة اللازمنية أو السرمدية وtemporal وsecular تحملان ذات المعنى وتعنيان الدنيوي والأرضي والزمني والطبيعي والمادي، سواء قلنا مادي أو زمني لا فرق بينهما إذ في عالم ما وراء الطبيعة لا توجد مادة ولا زمان. وبحسب نظرية الفلاسفة، الزمان هو وليد المادة ووليد حركة المادة. لذا العلمانية تعني الاهتمام بعالم المادة، التي تعتبر عالم الأزمنة.

هناك كذلك كلمة العصر، التي ذكرت في سورة العصر وهي أيضاً ذات صلة وثيقة بمقولة الزمان. في هذه السورة يقسم الله بالعصر والعصر إن الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات. يختلف مفسرو القرآن حول معنى العصر، البعض يرى بأن العصر هو بعد الظهر، واستدلوا على ذلك بأن الله قد أقسم بالصبح والليل لذلك بالإمكان أن يقسم أيضاً ببعد الظهر، لكن البعض الآخر يعتقد أن المقصود بالعصر هنا هو الزمان.

رجل دين يساري كان له تفسير آخر حول هذه السورة بأن إحدى معاني العصر هو (الضغط)، وبأن الله قد أقسم بالضغط، والمقصود هنا هو الضغط الثوري النابع من الأعلى والهادف إلى إصلاح المجتمع. إذا وضعنا هذه المبالغة والتقصير جانباً فإن كلمة الزمان يبدو هي الأقرب لكلمة العصر من حيث المعنى. في الواقع يسلب الله من غير المؤمنين السلاح الذي كانوا يملكونه، ويذكر بأن هذا الزمان مخلوق لي كالشمس والقمر، وأنا أقسم بهما. الزمان، في الوقت الذي يحظى فيه بمكانة ومقام الحلف والقسم، لا يتخطى حدوده كمخلوق إلى حدود الخالق.

البعض منكم ممن لديه دراية بتاريخ الفلسفة وتاريخ الحديث لا بد أنه رأى أن فلاسفتنا عند بحثهم بالمسائل الدينية، فإنهم يبحثونها بأسلوبين، إحداها الأسلوب العقلي والآخر أسلوب النقل؛ أسلوب النقل هو الرجوع إلى المأثورات وأحاديث أنبياء وأئمة الدين وأن نتمعن فيما ذكروه. والأسلوب الآخر هو أسلوب العقل، أي الاعتماد واللجوء إلى عقولنا دون الرجوع إلى الآيات والروايات النبوية وأن نرى ما الذي ندركه وما الذي يقوله لنا العقل.

هذا المفهوم العقلي الذي نتحدث عنه قريب جداً من مفهوم العقل السكولار (العلماني) في زماننا الحالي، أي العقل الذي لا يخضع للدين ويريد أن يصدر الفتاوى حول قضايا العالم. عندما نضع العقل قبالة أسلوب النقل، المقصود هو العقل المستقل عن الوحي، وهو ما يصبوا إليه الإنسان العلماني. من هذا المنطلق تدركون بأن العلمانية لها جانب عملي ودنيوي، وجانب عقلاني يهتم بالفكر. في الجانب الدنيوي تريد أن تحيا وأن تستمتع بالحياة، وفي البعد الفكري تريد الإدراك وإصدار الأحكام وأن لا تتبع منطق الوحي. حينئذ عندما يسعى قوم ما إلى تحقيق هذه المفاهيم من هنا تنشأ العلمانية، أي يولد قوم لا يتطرقون إلى ما وراء الطبيعة عند إصدار الأحكام وعند تحليل الظواهر الاجتماعية والطبيعية، ولا يلجأون إلى القوى الخفية أو الأدعية أو النذورات، ويرفضون السحر والشعوذة والأساطير والخرافات، وفي الحياة يضعون الرهبانية والزهد جانباً، حيث أن من أهم الأبعاد العملية للعلمانية هو أن لا يكون الإنسان زاهداً.

أولى شرارات العلمانية في الغرب كانت شرارة مناهضة الزهد، أي وضع الزهد جانباً وتركه، وأخذ الدنيا بجدية عبر معانيها وأشكالها كافة، أي المشاركة بعقلانية في السياسة والاقتصاد والتعليم والعلوم والفنون والصناعة وغيرها.

هناك على الأقل نوعان من العلمانية، العلمانية السياسة والعلمانية الفلسفية. العلمانية السياسية مفهومها واضح وهي فصل الدين عن الحكومة، أي إدارة العالم بعيداً عن العالم الآخر، كأنما هناك عالم واحد فحسب ونحن البشر نحكمه بعقولنا، أي عدم وضع شرعية الدولة على أساس الدين، أي حياد الحكومة تجاه الأديان، ما يعني عدم الأخذ بالشريعة عند وضع قانون المجتمع. وهناك العلمانية الفلسفية، أي عدم وجود الله، عدم وجود ما وراء الطبيعة، عدم وجود الدنيا الآخرة، وهي أقرب ما تكون إلى الطبيعة والمادية. في العلمانية السياسية لا حاجة إلى إنكار الرب، بل في السياسية ما من داعٍ للتعامل مع الله والدين، وما من داعٍ إلى إنكار الآخرة. لكن في العلمانية الفلسفية فإنها تقوم بالتحكيم، الذي يكون تحكيما سلبياً، وتفتقر الأديان إلى الحقيقة، وهذا ما كان يعنيه ماكس فيبر عندما قال بأن الحداثة تعني إزالة الخديعة والتزوير عن هذا العالم.

لكن هناك تساؤل، وهو: لماذا بدأت العلمانية بالظهور في الغرب إبان القرن السادس عشر، ولم تظهر في العالم الإسلامي، في الشرق؟ ما هو السبب وراء ظهور ونمو العلمانية في الغرب؟

حديثي في هذا المجال هو أن العلمانية كانت لها ولادة طبيعية، أي أن هذا المولود أمضى مراحله اللازمة في رحم تاريخ الغرب، وعندما بلغ مرحلة البلوغ جاء إلى الكون. وقدومه لم يكن مصاحباً لأية آلام أو نزيف. وهو نتيجة لسببين: الأول هو تعارض العلم والدين، ذلك أن نزاع العلم مع الدين كان نزاعاً مصيرياً في تاريخ أوروبا، نزاعاً لم يكن ناتجاً عن تآمرٍ غرضه الابتعاد عن الله، لكنه كان نزاعاً طبيعياً جداً، فقد شهدت العلوم نمواً طبيعياً، تمثل في كون المعلومات الحديثة التي شهدتها الجيولوجيا وعلم الأحياء والفلك وغيرها كانت تتعارض مع مضمون الكتاب المقدس، وهذا التعارض أصبح أكثر فأكثر بحيث لم يكن بالإمكان إخفاءه أو إنكاره.

كوبرنيك وكوبلر وغاليليو ونيوتن ومن جاء بعدهم مثل داروين وبوفون، البعض منهم كان متديناً ويعبد الله كغاليليو، فيما كان كوبرنيك قسيساً في فترة من سنوات حياته، كما أن كوبلر كان أكثر من متدين حيث كان يؤمن بالخرافات، ولكن نتائج عمل هؤلاء لم تكن متطابقة مع مضمون الكتاب المقدس، خاصة فيما يتعلق بحركة الأرض والشمس والكواكب. لفترة من الزمن اتخذت الكنيسة أسلوب المحاكاة مع هذه الأفكار، لكن بعد ذلك اشتد النزاع حول المكانة التي حظيت بها الكنيسة والكتاب المقدس إلى ما كانت عليه قبل هذا النزاع. إن من العدل والإنصاف أن نذكر بأن الكنسية، بالرغم من عداءها للعلم، لم تنحرف إلى طريق المبالغة والغلو، وفي النهاية سمحت لكوبرنيك أن ينشر كتابه حول حركة الأجرام، والذي أثبت خلاله صحة حركة الأرض وثبات الشمس في الوقت الذي كان فيه الكتاب المقدس يشير إلى أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة، ومازال هناك مائتي نسخة من مجموع أربعمائة نسخة من هذا الكتاب. كذلك يقال إن إعدام غاليليو كان بمثابة أسطورة، لكن الحقيقة هي أنه تم حبسه في منزله.

إن الكنيسة سمحت لكتاب كوبرنيك أن ينتشر، لكنها أضافت له مقدمة تضمنت مسألة مهمة، تشير هذه المقدمة إلى أن ما جاء في هذا الكتاب فرضية وليست حقيقة بحتة، وكانت هذه خطوة جيدة وحكيمة.

إن الاكتشافات الصغيرة والكبيرة التي كانت تتم هنا وهناك استطاعت في المحصلة أن تزلزل مكانة ومصداقية الكتاب المقدس، إذ فقد الدين مكانته واقتداره السابق ولم يعد له حضور وتواجد في الساحة السياسية والاجتماعية. كان للدين حضور في الساحة السياسية عندما كان ذا قوة، لكن عندما فقد الإيمان مكانته فقد الدين أيضاً دوره في المجتمع. لم يتم إبعاد الدين عن السياسة من لدن أحد، لكن الدين أصبح ضعيفاً وخسر قوته وأخذ جانباً. لهذه السبب أقول بأن ولادة العلمانية كانت ولادة طبيعية. إن الساحة السياسية هي ساحة الأقوياء، فعندما كان الدين قوياً لم تكن هناك حاجة إلى دعوته للحضور في الساحة السياسية، لكنه عندما ضعف خرج من الساحة تلقائياً ولم تكن هناك حاجة لإخراجه من لدن أحد.

السبب الثاني، يتمثل في الفجوة التي شهدتها المسيحية، أي ظهور البروتستانتية إلى جانب الكاثوليكية، وهو ما قلص من مكانة الكنيسة إذ أصبحت البروتستانتية في مواجهة مع الكنيسة. وقد كان مارتن لوثر أول من ترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، واعتبر أن الإنسان هو رجل دين نفسه، وأنكر نظرية رجل دين الكنيسة.

مجموع هذين الحدثين أدّيا إلى إضعاف الكنيسة المسيحية، الذي أدى بدوره إلى إخراجها من لعبة القوة. وخروج الكنيسة من هذه اللعبة كان يعني فصل الدين عن الحكومة والدولة. هناك من يعتقد بأن الدول الأوروبية ضمّنت في دساتيرها ضرورة فصل الدين عن السياسة، لكن الأمر لك يكن كذلك. إن ما جاء في دساتير الدول الأوروبية بعد ذلك كان نتيجة لهذين الحدثين، ولم يكن سببا في حدوثهما. نعم إن العلمانية التي ظهرت كانت تلك الداعية إلى المحاكاة والمسايرة وليس إلى التمرد، ذلك أنها كانت تدرك بأن الدين أصبح يعاني من الضعف وأنه يجب أن لا توجه إليه المزيد من الضربات. في السنوات الثلاثين أو الأربعين الماضية كان العديد من علماء الاجتماع يعتقدون بأن الضعف لم يكن من نصيب المسيحية فحسب بل إن كافة الأديان تعاني من ذلك. كانوا يعتقدون بأن حركة التاريخ تمضي نحو العلمانية السياسية، التساؤل هنا هو: كيف يمكن مواجهة هذا الضعف؟ هل نقوم بمسايرته ومجاراته ونقول بأنه لا يشكّل خطرا ولا ضرراً، هل نسمح للكنائس والمساجد أن تظل قائمة، هل نسمح بإقامة مراسم ضرب الصدور والعزاء؟

إن العلمانية مبنية على مبدأ الحياد وعدم التحيز لأي دين من الأديان باعتبار أن جميعها سواسية. لا فرق لدى العلمانية إذا كان هناك في المجتمع شخص بهائي أو مسيحي أو مسلم أو يهودي أو زرادشتي (مجوسي)، فهي تعتقد أن التاريخ أسقطهم. أعقب ذلك المضمون من العلمانية فصل الدين عن الحكومة، كما أعقبه الحياد تجاه كافة الأديان.

كان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق يقول، وبكل فخر، بأنكم تشاهدون الآن في أمريكا مساجد المسلمين إلى جانب معابد اليهود والكنائس جميعها تعيش بسلام، بالطبع هذا يدعو إلى الفخر ويشير إلى أجواء حسنة.

لكن شيئا فشيئا بدأت العلمانية تدخل مرحلة جديدة، أنا أسميها مرحلة العلمانية المتمردة والقومية، التي فقدت خلالها المسايرة، ولم تعد تنظر بسواسية تجاه كافة الأديان، كما فقدت قابليتها القومية. بعبارة أخرى، يبدو أن العلمانية بدأت تستسلم لأعدائها، وللتدليل على ذلك نشير إلى قضية الحجاب في المدارس الحكومية في فرنسا، أو تصريحات رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي كان يقول بأن من لا يقبل قيمنا يجب أن يترك بريطانيا، كذلك الموقف التركي الذي يمنع أن يكون رئيس الجمهورية مسلما.

لكن ما هي جذور هذه العلمانية المتمردة؟ إحدى النظريات التي كانت تقف وراء العلمانية باتت اليوم نظرية باطلة، فالعلمانية السياسية ذات مغزى واحد، هو فصل الدين عن الدولة، وتشير إلى أن الأديان باتت ضعيفة لذلك أصبحت العلمانية أكثر سهولة.

اليوم أصبحت هذه النظرية باطلة، وبات علماء الاجتماع في السنوات العشرين الماضية يؤكدون بأن الأديان تشهد قوة – لن نتطرق إلى الأسباب ولكن هذا ما يحدث.

في علم الاجتماع كانت تتم الإشارة باستمرار إلى أن الولايات المتحدة مستثنية، باعتبار أن الدين فيها قوي. لكن في الوقت الحالي أصبح هذا الأمر رائجا في جميع في أنحاء العالم.

هنالك أشخاص، من أمثال بيتر برغر وخوزيه كازانوفا، يعلنون صراحة بأن العلمانية لا تمثل مصير التاريخ كما كان الحال مع الماركسية. عندنا كانوا يقولون أن الاشتراكية هي المصير المحتوم للتاريخ، لكن اتضح فيما بعد أنه ليس من الضرورة أن تسير الأمور بهذا الشكل.

عندما تصبح الأديان أكثر قوة لن يكون بالإمكان التعامل معها بمسايرة أو بمجاراتها، وهذا الأمر ينطبق على الليبرالية والعلمانية أيضا، فالعلمانية كانت تملك القدرة على احتواء الأديان الضعيفة، لكنها لا تستطيع احتواء الأديان القوية، لذلك تتحول إلى التمرد.

إذن، هناك حاجة لنظرية جديدة. المقصود بقوة الدين ليس “القاعدة” وأمثالها من التنظيمات، إذ أنها ليست حركات شمولية، كما أنها تمثل استثناءات غير دائمة، فليس هذا هو المقصود من ازدياد قوة واقتدار الدين. إن إحياء الأديان، كما يعتقد علماء الاجتماع الأمريكيون، جاء بسبب أزمة الهوية. آخرون يعتقدون بأن السبب يتعلق بأزمة مرتبطة بالجانب المعنوي للإنسان. هناك بالطبع أسباب لذلك، لكن مهما تكن هذه الأسباب فإنها ناتجة عما نشهده.

الولايات المتحدة شنت حربا على أفغانستان والعراق، البلدان وضعا دستورين جديدين ضمّناه بأن القوانين ستكون نابعة من الشريعة الإسلامية الأمر الذي لم يستوعبه الأمريكيون، ما معناه أن العلمانية الصدامية المتمردة تحولت إلى مناهضة العلمانية في العراق، في حين تم التأكيد بشكل رسمي في أفغانستان بأن قوانين الدستور يجب أن لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.

عندما تم انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش للمرة الثانية كان من أسباب ذلك أن البعض اعتقد بأنه شخص متدين لذلك صوتوا له.

إن الأقليات الدينية تشعر بهويتها أكثر الآن، وهذا الإجراء الذي تم مع مسألة الحجاب، حوَّل الموضوع إلى مسألة هوية. فيما مضى كان الأمر مجرد مسألة شرعية، كالصلاة والصيام، حيث كان المسلم يرى بأن الحجاب واجب ديني يجب العمل به، ولم تكن هناك تظاهرات. لكن في الوقت الحالي تحولت مسألة الحجاب إلى مسألة هوية.

هناك جانبان للدين، جانب خاص بالهوية وجانب يرتبط بالحقيقة. للأسف العلمانية المتمردة حوّلت الجانب الخاص بالهوية إلى جانب أكثر صلابة.

في بلدان مثل تركيا، الذي يكون حضور الدين قوياً، لا يمكن فرض العلمانية بالقوة والتحكم. العلمانية، كما ذكرت سابقاً، كانت لها ولادة طبيعية مرتبطة بضعف الدين وخروجه من اللعبة السياسية. لكن الدين في تركيا ليس ضعيفاً حيث توجد فيها مساجد أكثر من إيران. عندما زرت تركيا منذ 30 عاماً شاهدت جموعاً من المصلين في مساجد اسطنبول، وعندما عدت إلى إيران قلت بأنني متأكد بأن شيئاً ما سيحدث في تركيا.

في تركيا لا يكافئون أحداً لكونه مسلماً. خلافاً لما يحدث في إيران، إذ (مثلا) تستطيع أن تتظاهر بأداء الصلاة وسوف تلاحظ مدى تأثير ذلك على ارتقائك الجامعي. في تركيا ترى إقبالاً على صلاة الجمعة وصلاة الجماعة اليومية، وعندما تتطرف العلمانية في مكان كهذا ستكون علمانية متمردة تسعى إلى النزاع وليس إلى المسايرة.

في الدول الأوروبية أصبحت الحكومات تفقد المسايرة شيئاً فشيئاً في مواجهة الأقليات الدينية القوية، وبالتالي تحولت العلمانية المسايرة إلى علمانية متمردة ومنازعة، إذ كان من المفترض أن تتسلح العلمانية بوسائل قادرة على احتواء الأديان، لا أن تتحول إلى دين يبدأ بطرد الأديان الأخرى. والآن، ما هي الانتقادات التي توجه إلى الأديان؟ على سبيل المثال، يقال بأن الحكومة الإسلامية لا تتعامل مع اليهود أو المسيحيين بشكل جيد، وأن هؤلاء لا يحظون بالحقوق التي يتمتع بها المسلمون. إذاً عندما تبدأ العلمانية باتخاذ ذات النهج ولا تتعامل جيداً مع غير العلمانيين وتسلبهم بعض حقوقهم، نكون قد عدنا إلى ما كنا عليه، أي إلى البداية.

في الواقع أنا لا انتقد العلمانيين لكونهم علمانيون بل أتساءل: لماذا لا يكونون علمانيون كما يجب؟ كما أن انتقادي لليبراليين ليس لكونهم ليبراليون بل أتساءل: لماذا لا يكونون ليبراليون كما يجب؟.

*الدكتور عبدالكريم سروش دُعي إلى باريس من قبل مجموعة من الطلبة الجامعيين والمهتمين بالفكر الديني المتجدد، وألقى هذه المحاضرة باللغة الفارسية يوم الخميس الثاني من أغسطس عام 2007 في قاعة الاجتماعات في بيت الطلبة البلجيكيين في جامعة باريس.. وقد قام مركز الحوار للثقافة بترجمة المحاضرة إلى اللغة العربية.

** مفكر وفيلسوف إيراني.

http://www.kwtanweer.com/
articles/articleforprint.php?articleID=1888

1 تعليق
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
عقيل صالح بن اسحاق -موسكو
عقيل صالح بن اسحاق -موسكو
16 سنوات

العلمانية المتمردةهل الشيوعيون ينفون وجود الآخرة ؟ كلمة علمانية تم تعريفها لي بشكل ساجد , تركيا بلد علماني والسعودية ليس علمانية, هكذا لزمن طويل كنت افرق بين العلمانية والغير علمانية في السياسة , أي احدهم تسير في التوجه العلمي وفي طريق إن تعود إلى الإمبراطورية العثمانية أي “عالمية ” متسلحة بالقوانين والعلوم من أوروبا , والأخرى تسير في التوجه الديني الوهابي المتخلف وعكس أوروبا, هده طريقة سهلة لتعريف الأشياء في اللغة العربية بسبب فقرها للمصطلحات العلمية والغير علمية الحديثة , التلفزيون = جهاز مشاهدة ليس برامج علمية مفيدة إنما العكس المفتيين الإسلاميين , نقول راديو وليس الحديد الذي ينطق بكلام… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading