ظللت أتساءل عشرين عامًا: كيف يمكن أن يلتقي محمد سعيد العشماوي بالموت في وحدته؟ طرحت على نفسي هذا السؤال منذ تعرفت إليه قبل منتصف التسعينيات .. تتلمذت على يديه وارتبطت به .. وكنت أتمزق نفسيًا من هول الإجابة عندما أتصوره مات في غرفة نومه دون أن يعرف الآخرون. كنت أهدئ روعي بالدعاء له .. دون أن أفاتحه في هواجسي التي كانت تتجدد كل مرة أزوره في بيته بشارع الجزيرة الوسطى بالزمالك.
كانت مقابلاتنا تتكرر أسبوعيًا تقريبًا، إذ دعوته لأن يكتب في روزاليوسف بينما كنت محررًا شابًا، وتكفلت بأن أتابع «عملية استكتابه»، رغم ما فيها من مشقة بالغة. فهو كان دقيقا للغاية .. يؤمن – عن حق – بأن كلماته لابد أن تعاير كما الذهب.. لا يسمح بخطأ.. ولا يقبل سقوط علامة تشكيل. وقد كان يكتب كما اعتاد منذ بدأ وكيلا للنيابة فقاضيًا مرموقًا، بقلم رصاص، بخط صغير منمق، على ورق مسطور .. وكان يحرص على مراجعة مقالاته قبل النشر .. كما لو أنه بصدد حكم إعدام تتعلق به حياة متهم.. قد يكون بريئًا .كنت أتابع ذلك معه بعد أن أحرر عددًا من العناوين لمقالات تحتاج صبرًا في قراءتها .. وعقلًا مثابًرا لكي تنال ثمرتها .. فهي على ما بها من سلاسة كانت تغرف من بحار العمق بحيث ينوء القارئ بكل ما أوتيت من أفكار وما تحصل من فلسفة. إن قراءة مقالاته بقدر ما هي كانت متعة كانت كذلك نوعًا من رفع الأثقال.
حرصت على هذا لسنوات، إلا خلال انقطاع وجيز، كان هو قد قرر أن يأخذ موقفًا من الكتابة في المجلة.. وكنت أعتبر جلساتي المتتالية معه نوعًا من التعليم المهدى إلىَّ من سماء الصدفة، وأجمع من مقالاته طوال هذا الوقت بحرًا من المفردات، على هامش فيض من الرؤى التي يفجرها في العقل .. فضلًا عن أسلوب ونسق تفكير من العسير الإلمام بأبعاده .
لم يكن الأمر يخلو من عبث الصحافة، إذ استخدمت أدوات الاستفهام المتسللة في أن أتعرف أكثر على شئونه، لعل قلقي عليه يخفت . بين حين وآخر .. وحين كانت تسنح فرصة بين المناقشات كنت أعرف نذرًا من معلومات حول أسرته .. وأطمئن إلى أن وحدته ليست سورًا لا يمكن أن يجتازه أحد.. وأن مخاوفي من أجله – التي لا يمكن أن أصارحه بها – ليست في محلها .
مرة فهمت أنه يتريض في نادي الجزيرة.. ومرة عرفت أن أختًا له تزوره من حين لآخر .. ثم اطمئننت أكثر حين عرفت أن نظامه الصارم يقضي بأن يسافر ليس أقل من شهرين إلى الإسكندريه صيفًا .. وفقًا لعادة دورية.. مستعيدًا جلساته وحواراته في ذات التوقيت قبل سنوات مع كل من الأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ .. في وقت آخر كنت أسعد تمامًا حين يقوم برحلة للخارج، ليس تهربًا من عبء المقالات المفيد .. وإنما لأني أطمئن إلى أنه لن يكون وحيدًا منعزًلا في بيته .
بين هذه وتلك وغيرهما عرفت سيرته، ونبوغه المبكر، واعتزازه بذاته، وخبرت كثيرًا مما كان يدور بينه وبين المفكرين من أبناء جيله، ووجهات نظره في عقول مصر التي عاصرها وكانت تقدره وتجل طريقته ونتاج عقله .. وكنت أحزن كثيرًا لأن كتبه تدرس في مدارس بعض الدول العربية أو توضع في مكاتبها كما هو الحال في تونس وسوريا ..ولا أجد موازيًا لذلك في مصر .. وكانت تمر السنوات قبل أن يدعى إلى ندوة ما في مصر، بينما يسافر سنويًا للولايات المتحدة لإعطاء محاضرات في إحدى كليات جامعة هارفارد كأستاذ غير متفرغ.. في حين لا تهتم به تليفزيونات وجامعات بلده.
كان سعيد العشماوي بعيدًا في بيته، منعزلًا، على نحو فيه من بعض تقاليد العبقري جمال حمدان.. في حقيقة الأمر كان قد أصدر حكمًا على نفسه بالسجن في رحاب عقله .. كان يقدر ذاته للغاية.. ويدرك قيمه ما يقوم به.. حتى وهو يواجه عنتًا من المجتمع الذي يعيش فيه ولا يعرب له عن اهتمام وعرفان .. ومن ثم نذر نفسه لمهمة إنسانية.. تجاوزت في تقديري شعوره بأن ما يقوم به من تنوير إنما يخص بلده وحدها .. أو ثقافتنا العربية بمعزل عن غيرها.. ذات مرة كان أن أطلعني على فلسفته التي دفعته لعدم الزواج، وهي أنه قرر ذلك حتى لا تعرقل حياته عائلة، ولا تعوقه قيود أسرة.. يمكن أن تثنيه لوهلة عن مهمته العقلية.
وبينما كان يقضي هذه العقوبة التي فرضها على ذاته .. مترهبنًا في «قلاية» أفكاره، كان يجد متعته الوحيدة في الحياة بأن يبحث وينتج .. يناقش فكره بأفكار الآخرين من عتاة الفلسفة والحضارة.. ويطلق حدود معرفته إلى أفق لا يمكن أن تعبر عنه شقته التليدة، وحيث كان يلتزم بالجلوس إلى مقعد ثابت لم يتغير خلال الفترة الذي عرفته فيها.. عقدين من الزمن.. إلى جوار هذا كان هناك مقعد آخر قد قرره لضيوفه لم يتغير بدوره.
ذهبت إلى المستشار العشماوي وكانت المكتبة العربية قد امتلأت بعناوين ذخائره وكنوز فكره: رسالة الوجود، ضمير العصر، حصاد العقل، العقل في الإسلام.. وغير ذلك .. ثم كان أن صدم المجتمع بكتابه الربا والفائدة في الإسلام، مبنيًا على حكم أصدره بخصوص فوائد البنوك.. وكان قبل ذلك بسنوات قد أحدث صدمة أكبر بمعركة مهولة مع الشيخ الراحل الدكتور عبدالمنعم النمر أسفرت عن كتابه القيم : الشريعة الإسلامية والقانون المصري.. وفيه هدم أساطير عديدة ادعت أن القانون المصري يناقض الشريعة.
عام تلو عام كان العشماوي يفقد جزءًا من عالمه المحدود، بينما يوسع أفق الميراث الذي سيتركه للبشرية.. يفقد أحد أفراد أسرته وتضيق حلقته.. ويغادره خادمه وطباخه.. ويموت صديق كان يزاوره .. وينشغل آخر كان يتابعه.. وعادت الهواجس تطرق رأسي.. لا يعالجها إلا الاستغراق في قراءة كتبه: الخلافة الإسلامية، حقيقة الحجاب وحجية الحديث، ضمير العصر، ديوان الأخلاق، من وحي القلم.
وبينما تنتج رهبنته العقلية هذه العظائم التنويرية، وبينما بلده لا تعطيه حق قدره، ولا تعبر عن امتنانها لعقله، كان العشماوي يجد نفسه متورطًا في شئون حياتية لا يمكن تخيل أن عقلا بضخامته سيجد نفسه منشغلًا بها.. مرة يجد نفسه داخل مشكلة أسانسير عمارة.. تزعجه لمدة عام.. ومرة تتعبه الشرطة فتخفض حجم حراسته لأنها فجأة رأت أنه لا يحتاج إلى تأمين أكبر.. ويبقي حبيس بيته لا يخرج خوفًا على عمره.. ومرة يحتال عليه مدخل بيانات الكمبيوتر مستغلًا أنه لا يكتب على الكي بورد .. ومرة يعاني شهرًا من فيروس في جهاز الكمبيوتر لأنه لا يجد السبيل إلى إصلاحه في نطاق قرر أن يكون ضيقًا .. ومرة يقضي بضعة سنوات يعاني كقاض من بطء القضاء في مواجهة ناشر قرر أن يأكل عليه حقوقه .. وفي ظل هذه المحن المؤسفة فإنه كان أن أبدع مقالاته : مصر صفحة السماء التي نشرها في موقع شفاف الشرق الأوسط.
أخذتني السنوات، وأبعدتني مشاغل الأيام، وكنت
أتواصل مع المستشار من حين لآخر تليفونيًا أطمئن على صحته .. وكما لو أني أهرب من هواجسي العريقة، كنت أتعمد ألا أزوره في بيته الذي تحول إلى متحف خزائني لقطعه الفنية المقتناة عبر العقود والرحلات المختلفة حول العالم .. إلى أن عرفت بالصدفة خبر وفاته الذي لم أسع لأن أعرف كيف عرف به الآخرون ..ولم أقدر أن أواجه احتمال أن يكون قد بقي في سريره بعض وقت دون أن يدري الناس أن رجلًا عظيمًا قد مات.. أتراه مات وهو يستمع إلى مقطوعات البرنامج الموسيقي عصرًا كما اعتاد كل يوم.. أم تراه مات بعد أن غادر مقعده التقليدي عند العاشرة وفق ترتيب اعتاده طوال عمره في إطار نظام صارم لحياته؟ لست أدري .
قبل ما يزيد على شهرين انتبهت إليه الإعلامية لميس الحديدي .. واستضافته في برنامجها الشهير (هنا العاصمة).. وحين شاهدت اللقاء أدركت كم كابدت عناءً مهولاً وهي تحاول أن تدير معه حوارًا عصيًا .. فهو ليس يسيرًا على الإطلاق رغم غزارة علمه .. وعلى الرغم من ذلك قال في تلك الحلقة كثيرًا من الأفكار التي ثبت بها أنه يعيش لحظة انتشاء الانتصار على التطرف بعد ثورة 30 يونيو .. فقد كان العشماوي واحدًا من أهم من فند كل جذور أيديولوجية الإخوان.. وكان هو الذي نبهني إلى أن إسرائيل وهبت لحركة حماس بعضًا من أوقاف غزة، لكي تحارب بها المد الوطني الفلسطيني المدني ممثلًا في منظمة التحرير.
لقد رحل وترك ذخرًا، لابد أن هذا البلد سوف يدرك قيمته في وقت قريب، ولابد أن أجيال الثقافة الشفوية سوف تحاول أن تقرأه .. لعلها تحكم على نفسها بالسجن داخل المنطق وأن تأسر نفسها في العقل .. بدلا من أن تسلم نفسها طواعية للتطرف والجهل.. أو تنتحر بإرادتها في يم الإرهاب.
هنا العاصمة – العشماوي – ثورة 25 يناير إلهية