يجد العرب في أيامهم هذه انهم وسط مأزق يزداد عمقاً وينعكس على حياتهم السياسية وحرياتهم بكل أبعادها. فهم حققوا دولاً قبل وبعد أواسط القرن الماضي، ولكن ما لبث معظم هذه الدول أن تراجع عن برامج التنمية والسعي للاستثمار في المواطن ومستقبله. في العقود الماضية ساد الاعتقاد العربي بامكان ردم الهوة مع الغرب، وأذا بالهوة تزداد مع الغرب والشرق الآسيوي في زمننا هذا. في العقود الماضية سعى العرب للانتصار في الصراع على اسرائيل واذا باسرائيل تعود وتلتف على العالم العربي وتسبب لدوله تراجعات متتالية إلا من محاولات شعبية من قبل اطراف شعبية كما حصل مع حركة «فتح» بعد عام ١٩٦٧ وفي حرب ٢٠٠٦ مع «حزب الله» وحرب غزة مع حركة «حماس» عام ٢٠٠٩. في العقود الماضية سارت دول العالم نحو الديموقراطية واذا بالدول العربية تتخلف في هذا المجال وتتراجع. وبينما سقطت الشيوعية منذ اكثر من عشرين عاماً اذا بالعرب يتمسكون بالبيروقراطية الضاغطة على الانسان والمستنزفة للموارد. ومنذ عقود اعتقد العرب بأن الدين لم يعد اساسياً في تقرير شؤون الطوائف وخلافاتها وإذا به يعود متدخلاً في الحريات الشخصية ومثيراً للكراهية بين الفئات.
العقود الماضية كانت قاسية على العرب من خلال الحروب التي شنت عليهم في زمن الاستعمار او من خلال حرب ١٩٤٨ حين قامت اسرائيل، ام من خلال الحروب التي شنوها على بعضهم من اليمن الى لبنان الى الجزائر الى السودان الى العراق والكويت والعراق وليبيا في التشاد والصومال. لقد حمل العرب احلاماً لم يمارسوها، وسعوا الى معارك يصعب الفوز بها نظراً لوسائل تنظيم ضعيفة وطرق تفكير تائهة، وركزوا على اولويات اقل اهمية وأهملوا قضايا كان يجب ان يثابروا عليها. مرت عقود والعرب منغمسون في قضايا تنقصها العصرية: اذ استمروا ضعفاء في التفكير العلمي والتنمية الثقافية وقوة الحضارة ومقدرة العلم والعمل الجماعي ودعم ازدهار الافراد. ظلوا تائهين عن ضرورات العصر الاهم: الحرية وكرامة المواطن.
في حصيلة التطورات: تراجعنا، ضُربنا وضربنا انفسنا. فشعار الوحدة والقومية هُزم على انقاض الخلافات العربية العربية كما هُزم على يد اسرائيل، كما ان شعار تحرير فلسطين هو الآخر واجهته حقائق صعبة المرة تلو الاخرى، أما شعار «الاسلام هو الحل» بالصيغة التي طرحت في العقدين الماضيين فقد واجه تعثرات مرتبطة بطريقة التطبيق والتضييق على الناس في أبسط حرياتهم وخياراتهم.
ان كل جيل عربي ومنذ عقود طويلة انتهى الى خيبات أمل متراكمة تجاه حكّامه ومؤسساته، وتجاه اقتصاده وحقوقه. لقد شعر العرب على الدوام بدوار التاريخ وبعقم الحقيقة وبحدة الهزائم. في هذا تولد بينهم منطق خاص ميّزهم عن غيرهم من الشعوب: اعتزاز كبير بالتاريخ، وتمسك حاد بكل ما كان في الماضي من تراث وقوة مصحوب بخوف كبير من المستقبل. وقد وصل هذا التناقض في الوضع العربي الى حد انه دفع العرب نحو استكانة كبيرة تجاه تغير اوضاعهم وتحسين أنظمتهم ومواجهة مسؤوليات عالمهم، او دفعهم ايضا بنفس القوة والحدة نحو التطرف والسعي للانتقام من العالم كما هو حاصل في تعبيرات تنظيم «القاعدة».
لقد اصبح الاستضعاف جزءاً من الذاكرة التاريخية للعرب، فهل نحن «يهود العصر» نسبة الى حالة التهميش والاضطهاد والتميز التي عرف بها يهود التاريخ؟ نحن العرب كنا جزءاً لا يتجزأ من الدولة العثمانية التي خسرت كل شيء في الحرب العالمية الاولى، وكنا ايضاً جزءاً من العالم الذي خضع للاستعمار بين الحربين الاولى والثانية. وما ان حلمنا بالاستقلال الا وولدت قضية فلسطين ومعها قيام دولة اسرائيل عام ١٩٤٨ وذلك في ظل ملايين اللاجئين. وما ان تفاءلنا بأمكان هزيمة اسرائيل لاستعادة اراضينا التي احتلت واعادة لاجئينا الذين طردوا من اراضيهم وبلادهم وتحقيق الوحدة العربية الا وهوت كل الاحلام بهزيمة العرب عام ١٩٦٧ وخسارة المزيد من الاراضي والحياة. وما ان شعرنا بامكان تحقيق حلم النهضة او حلم الامة العربية ذات الرساله الخالدة الا وتوالت خيبات الامل الناتجة عن انظمة عسكرية منعتنا من التعبير وحدت حريتنا ودمرت كل فكرة جديدة وكل روح تسعى الى التجديد. وما ان وقع هذا الا ودخلت اكثر من دولة عربية في حروب اهلية صغيرة وسط حالة تدين وصحوات اسلامية مصحوبة بالشكليات والتعصب بينما خيم الجمود القاتل على معظم بقاع العرب.
والاغرب اننا اصبحنا اعداء انفسنا: فالدعوة العربية من اجل فلسطين تناقضت دائماً مع التخلي عنها في مجالات شتى، كما تناقضت دعوات الاخوة والسلام بين العرب مع صراعات دائمة بين فئاتهم ومجتمعاتهم، وتناقضت الدعوات الى نبذ الطائفية مع عمق المأزق الطائفي، وتناقضت الدعوة الى الديموقراطية والمساواة مع تدن كبير في حقوق الانسان العربي. كما تناقضت الدعوات الى التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض التوطين في البلاد العربية مع اضطهاد الشعب الفلسطيني وانتهاك حقوقه الانسانية في الحياة الكريمة والعمل في اكثر من دولة عربية. كما تناقضت حالة التدين الاكثر تطرفاً في عالم العرب مع هروب الافراد من الدين، فكلما ازدادت الطقوس الدينية ازداد الهروب من الضغط الذي تسببه والحد من حريات الناس في التعبير والتفكير بحرية. حالة غريبة هذه: محبة ولا محبة، قبول ورفض، وحدة وتفكك، شعارات عظيمة وممارسات قبيحة. ان معظم عرب اليوم لم يتوقعوا ان نمر اليوم بنفس ما مر به من سبقنا من آباء وأجداد. بل يمكن القول اننا كررنا اخطاءهم وكررنا كل ما حذرونا من عدم تكراره.
اننا نعيش مأزقنا الحضاري الاكبر. نجد هذا واضحاً في تجاربنا الجديدة، فالشواهد نجدها في شوارع وعواصم بلادنا العربية وفي ارقام التنمية واوضاع الجامعات وحالة المؤسسات وتعبيرات السياسة. ربما يكون الاعتراف بالفشل والتساؤل عن اسبابه بداية التعلم من الاخطاء والممارسات التي أدت الى ما نحن فيه.
العرب مطالبون بالتساؤل عن الحال العربي. فكما تساءلوا عام ١٩٤٨ عن اسباب النكبة، وعام ١٩٦٧ عن اسباب النكسة، عليهم اليوم التساؤل الاعمق عن اسباب النكبات الجديدة التي تمر علينا وتفرض على بلادنا. فالتساؤلات السابقة عن الاوضاع العربية لم تشمل أسس تنظيم المجتمعات العربية واصلاح تركيبتها القبلية والعشائرية، الطائفية والمدنية، السياسية والنفسية، كما لم تشمل طريقة التداخل بين الاخلاق والسياسة بما يعزز الاخلاق في السياسة، كما انها لم تشمل الترابط بين الدين والسياسة بما يحمي الدين من السياسة ويحمي السياسة من الغلواء الديني في وسائل الحكم العربية. ولم تشمل التساؤلات مناهج التعليم ومبادئ الديموقراطية وحرية التعبير وضرورات الابداع لننجح في مواجهة المخاطر وليكون في بلادنا مجتمع ينمو لصالح افراده وازدهارهم.
التساؤلات العربية السابقة لم تتعامل مع مسببات التراجع الذاتية ومسببات التراجع المحلية التي تؤدي الى الهزائم الوطنية سواء في الحروب مع اسرائيل ام في معارك الجهاد الاكبر مع التنمية ومع الديموقراطية ومع الادارة الحديثة. التساؤلات السابقة تجاهلت فوق كل شيء عناصر النهضة والازدهار والتجديد بصفتها عملاً تراكمياً يتطلب حشد قدرات الأمة وطاقاتها الابداعية في ظل مناخ من الحرية والتقدير.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت