التوتر المذهبي في العراق يتصاعد وينذر بمخاطر كثيرة، على ما يقول مرجع عراقي ديني تسلم مناصب قيادية عليا في عراق ما بعد صدام حسين. وهو يصف التجييش المذهبي بأنه “تجاوز حدود الضبط، وبات وسيلة النفوذ والحضور والفعالية في السلطة والشارع”.
فالإستنفار القائم بين السنّة والشيعة لم يخفف منه الانسحاب الاميركي الاخير، بل زاد بعد الازمة الاخيرة والمتفاعلة بين رئيس الحكومة نور المالكي ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، على خلفية اتهام الاخير من قبل القضاء العراقي بالتورط في اعمال ارهابية، ما ادى الى انتقال الهاشمي الى كردستان ليستظل بحماية الاكراد، نافيا التهمة عنه وواصفا اياها بالتهمة السياسية، ليعلن بعدها استعداده للمثول امام القضاء في كردستان وليس في بغداد.
هذا التطور افضى الى الخيبة لدى وفد المالكي الى كردستان (برئاسة ابراهيم الجعفري) من تسليم الهاشمي ومحاكمته، بعد إجماع الزعيمين الكرديين رئيس الجمهورية جلال الطالباني ورئيس اقليم كردستان مسعود البرازاني على موقف حاسم بعدم تسليم طارق الهاشمي. امام هذه الازمة المفتوحة تحركت ايران والولايات المتحدة مباشرة، لمواجهة اول اختبار جدي للحكومة العراقية بعد الانسحاب الاميركي. وبحسب المعلومات التي ينقلها المرجع العراقي، فقد وصل الى بغداد قائد فيلق القدس الايراني والمشرف على الملف العراقي الفريق قاسم سليماني للحد من تدهور العملية السياسية. وبالتوازي زار العراق أيضا نائب الرئيس الاميركي جو بايدن، في خطوة تعكس الاهتمام الاميركي بمنع انهيار الوضع السياسي المتصدع اصلا. فالمالكي لم يزل، رغم اتهامه من قبل خصومه بانه حصان ايران في حكومة العراق، يحظى بدعم اميركي جعله مركز التقاطع الاميركي – الايراني في العراق. وهذا ربما ما يدفع المالكي، بحسب بعض رفاقه في حزب الدعوة وغيرهم من منافسيه في ائتلاف دولة القانون، الى استخدام هذا التقاطع لتعزيز نفوذه السياسي والشخصي سواء على مستوى مفاصل الدولة او باختصار قيادة حزب الدعوة بشخصه.
في كل الاحوال حمل سليماني الى المالكي طلبا ايرانيا بوقف ملاحقة الهاشمي، والقائد الايراني تمنى على المالكي اعادة التحقيق في الاتهامات الآنفة واشراك دائرة اوسع من القضاة للبت في صحة الاتهامات، في خطوة يرى المرجع العراقي انها تهدف الى تجاوز الازمة الحالية. ومضمون الطلب نفسه نقله الاميركيون الى المالكي ايضا. وتأتي زيارة بايدن في سياق تأكيد الدور الاميركي المستمر في العراق من جهة، وتثبيتا لتفاهمات ايرانية – أميركية في العراق.
لكن ايران، التي بادرت ومن مواقع قيادية عليا إلى إمساك خيوط اللعبة السياسية العراقية، تقدم نفسها اليوم، من خلال اقتراح جمع رؤساء الكتل العراقية في السليمانية او في ايران لانجاز تفاهم جديد بينها لادارة الدولة والسلطة، كراع للعملية السياسية ومواكب لتمدد نفوذها على الارض، بتثبيت دور سياسي يرتضيه البعض ويسلم به البعض الآخر.
فالتشدد الذي يبديه المالكي في حصر السلطات الامنية والعسكرية بيديه، وتوجيه رسالة الى كل الطيف العراقي بأنه الحاكم الفعلي، تتيح لإيران في المقابل أن تحشر خصومه، وأن تعطيهم فرصة ان ينضووا تحت مظلتها، باعتبارها الأقدر على لجم جموح المالكي الى السلطة، والاكثر تأثيرا على الساحة الشيعية التي تمسك بخيوطها بشكل شبه كامل.
وفيما اعتبر هجوم المالكي السياسي والقضائي خطوة استباقية تهدف الى تثبيت مقولة ان الاكثرية الشيعية هي من يقرر في العراق، مهدت هذه الخطوة إلى بروز دور ايران المتعاظم في العراق، وسمحت له أن يحقق خطوة متقدمة على الادوار الاقليمية الأخرى. من هنا خفتت دعوات تكرار تجربة عقد مؤتمر دول الجوار العراقي. فالعرب، ولاسيما دول الخليج العربي، باتوا متقبلين او مسلمين بتحولات العراق سياسيا واقليميا، ومستثمرين لهذا التحول في تحصين انظمتهم في مواجهة النفوذ الايراني. فيما تركيا التي تشكل دعامة لفصائل عراقية سنية وعلمانية قد ضمنت منذ زمن تسليم القيادات في كردستان لكبح طموح الدولة الكردية او الانفصال.
أما المشهد السوري فبات في سياق التحولات والمتغيرات الطارئة عليه. هذا ما يقرّ به القادة العراقيون على اختلاف انتماءتهم. والحراك السياسي المتشنج في هذا البلد ينطلق، بحسب المرجع العراقي، من حقيقة ان التغيير في سورية قد تم، وهو يدفع نحو مزيد من تبلور العصبيات المذهبية بشكل اشد مما كانت عليه في السنوات او الاشهر السابقة. اذ يُتَرجم التغيير في سورية، لدى الرأي العام المنقسم على نفسه، على انه يصب في ميزان الغلبة المذهبية. لذا فإنّ خطوة المالكي ضد الهاشمي، وضد خصومه في الكتلة العراقية، زادت من استقطابه الشعبي على رغم استمرار رفض المرجعية الشيعية في النجف استقباله، وان كان الرفض مغلّفا برفضها استقبال السياسيين العراقيين.
لكن تبدو فرص المنافسة والاستقطاب، بعد فشل قيام الدولة العراقية ومؤسساتها، تقوم على استنفار العصب المذهبي، استنفارا يخفي ويهمش الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وازدياد الفقر وفشل التنمية، هذا كلّه يؤدّي إلى أن تصبح المذهبية وعصبها عنواني المساءلة الوحيدين والمربحين لدى كل الفئات… والأكثر قدرة على الغلبة في هذه الأيام هي إيران، التي يبدو أنّها “ابتلعت” العراق، ابتلاع يبقى رهن تحولات المنطقة بين ربيع عربي ناهض وطموحات مذهبية قاتلة.
كاتب لبناني
جريدة “البلد”