تهافت البعض لتنزيه الجيش السوري النظامي عن جريمة قتل مصور قناة الجديد الشهيد علي شعبان واكبه ازدراء باتفاق الناجيين الزميلين، المراسل حسين خريس والمصور عبد خياط، على الشهادة بأن “الجيش السوري هو من أطلق النار طيلة ساعتين من الزمن علي فريق القناة”، وذلك رغم تواجد الفريق الإعلامي داخل الاراضي اللبنانية المحاذية للحدود السورية شمالا. كما تعامى هذا البعض عن عشرات الرصاصات التي اخترقت سيارة وحيدة كانوا استقلوها وكانت في مرمى القاتل.
لم يظهر أيّ شاهد يقدم رواية اخرى، فقط وكالة “سانا” التي نقلت عن “مصدر اعلامي سوري”، تفرّدت بادعاء ان اطلاق نار تعرّضت له مواقع الجيش السوري فردّت عليه، لكن في المقابل بدا أنّ السيارة التي قُتِل فيها شعبان كانت هدفا من جانب الجيش السوري، فيما نفى الشاهدان الناجيان حصول إطلاق نار من الجهة اللبنانية.
التهافت هذا، الذي ظهر ولا يزال على شبكات التواصل الاجتماعي بعد الحادث الاليم، وصل الى حدّ إدراج محطة “الجديد” في خانة “الصهيونية” وتنصيب صاحبها تحسين خياط في دائرة المتاجرة بالعاملين لديه، أي أنّه هو من ضحّى بالشهيد لانه ارسله والفريق في مهمة كهذه.
البعض عبّر عن استيائه من تضخيم الحدث ومن استغلاله لادانة النظام السوري. والبعض الآخر اعتبر أنّ مجرد تحميل النظام السوري مسؤولية قتل شعبان وادانته هو مؤامرة مدبرة ضدّ المقاومة التي تستمد حياتها وقوتها من شريان وحيد يوفره هذا النظام.
إنّه التهافت والوهن الذي يصيب بيئة سياسية باتت عاجزة عن الانحياز الى ثقافتها الانسانية، وتاريخها وقيمها الدينية، والى الحق والعدل، فباتت تأسرها عصبية تعميها من النظر الى الوقائع بانحياز انساني لا بعصب قبلي. أحدهم كاد ان يحاسب الآخرين لمطالبتهم بدم اعتبره لا يعنيهم لأنه دم منسوب الى “طائفته” وليس لطوائف أخرى. ثم حمد الله كثيرا لأنّ الشهيد ليس من ملّة اخرى “وإلا لقامت الدنيا ولم تقعد”.
انه التهافت والوهن والضعف، حين يعجز البعض عن تبرير القتل العاري إلا بنفي حصوله، وتبرئة القاتل باختلاق منطق مفاده أنّه “ليس من عادة هذا النظام ان يقتل بريئا او بلا سبب يبرره”.
يغرق هؤلاء، ومنهم البسطاء وبعض السذّج، في وهم انهم يدافعون عن نظام لا تقطر يداه بالدماء، واذا رأوا الدماء بأمهات عيونهم قالوا إن هذا دم الاشرار وليس دما متناسلا من بريء الى ضحية.
هو الوهن الذي يجعل من مناصري النظام السوري، المستبدّ بشهادة الجميع، عاجزين عن تفسير الجريمة الا بنفيها. اتساءل هنا: لماذا لم يصدر موقف من هؤلاء كمثل وصف ما جرى بأنّه تصرف فرديّ لا يعكس وجود قرار بقتل مجموعة “الجديد”؟ واستطراداً، يمكنهم دعوة القيادة السورية الى محاكمة القتلة؟
ببساطة: الى هذا الضعف ثمة عجز يجب الانتباه اليه، مفاده أنّ الانظمة الديكتاتورية، والامنية منها بشكل خاص، لا تعترف بالخطأ، لأن هذا الاعتراف هو ضعف بنظرها. هذا اذا كان هناك خطأ في ما حصل ولم يكن نتيجة قرار واضح بالقتل لا لبس فيه.
الى ذلك لست من المأخوذين بمنهج محطة “الجديد” ولي، كأي مشاهد، ملاحظات في السياسة وفي المهنية، صائبة في نظري وقد تكون غير دقيقة في نظر آخرين، لكن ان تدرج هذه المحطة وصاحبها في خانة “الصهيونية”، فهو بتقديري ليس الا اتهاما سخيفا، يكشف الى حدّ بعيد تهافت منطق من يطلقه، وينطوي على التشبيح السياسي الذي يكاد يختصر منطق داعمي النظام السوري في لبنان.
في لحظة الاستهانة بالدم والروح والكرامات، أيّا كان المستهدف، لا يمكن الوقوف على الحياد، فكيف اذا كان المستهدف هو نفسه من يرفع شعار الانحياز الى الحقيقة والعدالة؟ فهل كان المطلوب ان يخرج تلفزيون “الجديد”، الذي خاض معارك شرسة على اكثر من جبهة، لينفي ما قاله حسين خريس وعبد خياط، وأن يشيّع علي شعبان على انه سقط برصاص العدو الاسرائيلي، رغم أنّه كان منهمرا من الشمال؟
إنّه تهافت التهافت، حين تصبح الاخلاق وجهة نظر، والتمييز القيمي بين دماء الأبرياء امرا مألوفا، واستبداد ذوي القربى يصير جنّة ونعيما، واستبداد غيرهم جحيما.
alyalamine@gmail.com
• كاتب لبناني
البلد