بعد خمس سنوات من التجريب الذي كدس جثث آلاف من الأبرياء وأتى على المال والحلال، اكتشفت السلطة في العراق بأن البقاء على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين يتطلب بناء دولة واقتصاد، وبأن تقبيل اللحى والمجاملات وابتسامات التلفزيون الصفراء لا تحقن دماء ولا تسند بناء. اكتشفت السلطة ذلك عندما اتضح لها بأن عصابات الشوارع التي تسميها تزلفا ونفاقا ميليشيات وجيوش أفضل منها تسليحا وأغزر تمويلا، بل وأكثر تأثيرا ونفوذا إقليميا وشعبيا.
لم يكن هنالك مفر من الصدام بين السلطة وحلفائها المشاكسين بعد هذا الاكتشاف المتأخر، ولا مفر من صراعات دموية قادمة مع آخرين حتى تكتشف هذه السلطة بأن الديمقراطية ليست صندوق انتخاب ومجلس نواب وحسب، وبأن الاقتصاد الحر لا يعني إطلاق العنان للصوص وقطاع الطرق، وبأن العمامة وكرسي السلطة متناقضان لا يلتقيان.
عندما تحاول هذه السلطة قراءة التاريخ وتجارب الشعوب، وتتحرر من عقد الاضطهاد والانتقام، وتحاول البناء من حيث انتهى الآخرون، وتكتشف بأن الحياة لا تقودها الصلوات ودعوات الصالحين، وبأن هنالك مفردات غائبة عنها مثل المواطنة والعلم والعمل والإنتاج وتراكم الثروة والتخطيط والتنمية لا غنى عنها عند الحديث عن بناء دولة، عندها فقط يمكننا الحديث عن “ضوء في نهاية النفق”. بل وعندما تكتشف السلطة بأن نوري المالكي وصدام حسين والبكر وعارف وعبد الكريم قاسم وفيصل وغيرهم ممن جلس على هذا الكرسي هم نتائج وليسوا أسبابا، وبأنهم نواتج لحالة اجتماعية عراقية وحالة سياسية إقليمية ودولية، وبأنه لا يمكن فصل اليوم عن الأمس، كما لا يمكن فصل الغد عن اليوم ، يمكننا فقط الحديث عن بناء حالة سياسية متقدمة في العراق.
وعندما تعترف السلطة بأن الإرهاب لا هوية له إلا بأفعاله، وبأنه لا ينحصر في فئة دون أخرى، وبأن مقاومته تبدأ بحل أسبابه، وبأن الفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة، وبأن سرقة قوت الناس وقتلهم جوعا لا تختلف عن تفجيرهم في الأسواق إلا شكليا، وبأن العمامة وربطة العنق والنجوم المعلقة على الكتف لا تحمي الفرد من طائلة القانون، عندها فقط يمكن الحديث عن ديمقراطية ناشئة.
عندما تتخذ هذه السلطة قرارها الشجاع بالاعتراف بأن كابوس السنوات الخمس الماضية يجب أن ينتهي فورا، وتعطل العمل بالدستور الهزيل الذي حاولت أن تجعل منه كتابا منزلا يكفر من ينتقده، وتدعو عقول العراق إلى إعادة كتابته ليكون موجها للمواطن وليس للـ”مكونات” (هذا المصطلح القميءالذي فرض على اللغة السياسية وافرز ما افرز من دماء)، ليقر بأن الإنسان هو القيمة الأعلى وأن عراقيته-لا دينه أو مذهبه أو جنسه-هي الصفة الوحيدة التي تمنحه الحقوق الدستورية، وبأن الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان دستوريا فضل للدستور لا سبة عليه، و بأن العراق أقدم وأبقى ما لدينا من انتماءات، عندئذ فقط يمكن الحديث عن وحدة وطنية ومصالحة وإعادة بناء.
وعندما تحدد السلطة أولوياتها، وهو ما كان يجب أن يحدث منذ اليوم الأول، وتدرك بأن الغذاء والماء والكهرباء والصحة والتعليم أهم من الثرثرة السياسية والأوهام الميتافيزيقية، وبأن الشعب قد يأكل ويشرب الشعارات لعام أو عامين ولكن ليس إلى الأبد، لاختصرت الطريق واختزلت المعاناة، وعندما تكتشف بأن الخدمات حق للشعب وواجب على الحكومة، وبأن للدولة وظيفة اجتماعية بالإضافة إلى وظيفتها الأمنية، لكان ملايين من الهاربين من جحيم الوطن يشاركون الآن في بنائه.
وعندما تكتشف السلطة بأن الجامعة هي عقل الدولة ومنتج تنميتها وضمان مدنيتها، وعندما تكتشف بأن الصحافة ضمير الشعب لا ضمير الحكومة، وأن حريتها وحدودها أكثر قداسة من كراسي الحكم، وبأن الأمن والشرطة والجيوش تبنى لحماية الشعوب والأوطان لا لحماية الأنظمة، وأن القضاء يبنى لحماية الحق الخاص والعام لا لحماية الإيديولوجيات والحكومات، و أن جميع ما تقدم أسس لا بد منها لإقامة المجتمع المدني مجتمع الحداثة والعدالة والتطور، لا مجتمع المعسكر والمعتقل والتكية، لما جرى ما جرى، ولأصبحنا نباهي العالم بدلا من أن نجري اليه لاجئين.
وعندما تمتلك السلطة الجرأة لتجلس مع أعدائها، وتناقش موقف ووضع القوات الأجنبية بصراحة وشفافية، وتخرج بموقف موحد، عندئذ فقط يمكن للعديدين إلقاء السلاح و بناء الحياة عوضا عن خلق الموت، ويمكننا أن نتحدث عن عهد جديد. فقد أوصلت السياسات الأميركية الخاطئة العراق إلى حالة من محدودية الاختيارات، فجعلت بقاءهم موتا ومغادرتهم موتا، وولدت أخطاؤهم أخطاء أكبر وأكثر تعقيدا، وأدخلت العراق في كوابيس الحروب بالنيابة، والدول داخل الدول، والموت المجاني لمواطنينا ومواطنيها. دفعت أمريكا أموالها و أرواح جنودها لطرد القاعدة، و أسست بالمقابل “قاعدات” حليفة لا تقل شراسة وتخلفا، فباتت مشكلة وحلا في آن واحد، يصرخ الجميع بخروجها نهارا ويتوسلون بقاءها ليلا.
عندما تكتشف السلطة كل ما تقدم، وتبدأ “صولتها” لبناء الدولة الحقيقية، عندها فقط يمكننا الحديث عن ولادة جديدة، ولو متأخرة، للعراق.
دروس البصرة
بعد خمس سنوات، جاءت أحداث البصرة لتضع نقطا على حروف عراقية عامة غابت عنها النقط طويلا. فالشارع مسلح حتى انفه، ولا أحد يصدق السلطة التي تدعي بأنها قد فوجئت بحجم التسليح لأن كل ذلك تم تحت أعينها ورعايتها. فقد بحت الأصوات من الحديث والصراخ عن عصابات القتل والخطف والتهريب والتطهير المذهبي والاعتداء على النساء، وعن ثأر الله وبقية الله وعشرات التسميات المقيتة الأخرى منذ اليوم الأول. فهل كان الصدام في البصرة بين الدولة وقطاع طرق؟ أم بين تحالف الدعوة والمجلس ضد جماعة الصدر؟ أو هل كان بين فقراء الشعب وبرجوازيته كما يحلو ليسارنا الحالم أن يفترض؟ أو لعله كان بين شيعة موالين لإيران وآخرين غير موالين لها؟ أم أنه بين مؤيدي الاحتلال و معارضيه؟ أو هو صراع للتحكم بالثروات؟
ربما كان فيه جزء من كل ذلك، وكلّ حاول التسويق لواحدة من تلك الافتراضات. ولم يخل السجال على الطريقة العراقية من السب واللعن والاتهامات وتمزيق الصور وإهانة الأطراف لرموز بعضها البعض (كثير منها كان يبدو مشتركا)، إلا أن التماس المباشر أثبت بأن شعب البصرة يقف على مسافة شبه متساوية من الطرفين.
فالسلطة عجزت منذ خمس سنوات عن إقناع شعب البصرة بالتحديد بأنها دولة
يستوجب احترامها تقدم الأمن والخدمات و تفرض القانون وتعاقب من يخالفه، لأن ذلك ببساطة لم يحدث، والطرف الآخر الذي يحاول تصوير نفسه جيشا للفقراء والمظلومين عجز هو الآخر عن إثبات غير كونه عصابة تعتاش على الإتاوات والخطف وتمارس قانونها الخاص بأغطية دينية وروحية زائفة. اصطدم الطرفان وتراكمت جثث الفقراء، واحتاج الأمر إلى تدخل طهران، الجار الراعي لجميع الأطراف لإيقاف النزيف الذي لن ينتهي. فقد قالها مقتدى الصدر صراحة على شاشة الجزيرة، فجيشه باق لحين ظهور المهدي (!!) مما وضع السلطة في ركن لا تحسد عليه، وأصبح عليها أن تثبت لنفسها وللجميع الآن بأنها ستنتقل إلى مرحلة الدولة إلا إذا كانت موافقة على التكتيك الإيراني القائم على مبدأ إقامة الدول الموازية على طريقة حزب الله في لبنان الذي يقوم بواجب الدولة في مناطقه رغما عنها، وما تسعى إليه ربما في البحرين و اليمن على سبيل التجريب.
خلقت ثقافات الاتكال الميتافيزيقية منا شعوبا تتفلسف كثيرا وتعمل قليلا، ولذا تغيب عنّا المشاريع الكبرى التي تخلق أوطانا عزيزة. المشروع العراقي دائما مشروع سابق و ليس لاحقا لأن فكرنا الجمعي لا يجرؤ على إنتاج المستقبل. فالجميع يعيش في الماضي، و يحلم به ويدعو للعودة إليه، سيان أكان هذا الماضي ممتدا لعشرة قرون أو لخمس سنوات. ويسري هذا على الجميع ابتداء من السلطة وليس انتهاء بمعارضيها ومقاوميها مرورا بالشعب المطحون الذي يخرج ليموت طائعا سواء أدعاه الرفيق القائد أو السيد القائد أو الإمام القائد، وما أسهل في أوطاننا من تفريخ القادة الوهميين والأبطال المزيفين الذين يخلقون قيما مزيفة ومعاير مزيفة للوطنية والنضال وحتى البناء. مجتمعنا العشائري الديني منقاد بالفطرة للرأس أو الشيخ أو الإمام ولذا يبدو التغيير والتأسيس لما هو قادم فوقيا دوما ما دام المجتمع عاجزا عن إنتاج المستقبل.
في هذا الزمان والمكان، لنتخيل بلدنا بقيادة أبي عمر البغدادي أو أيمن الظواهري مثلا، أو مقتدى الصدر أو من شابهه، أو أي من العمائم الأخرى، أو بعودة البعث أو أية أيديولوجيا شمولية انتقائية، ولنتخيل حجم الدماء الإضافية التي ستسيل والرؤوس التي ستتدحرج والأموال التي ستهدر، لنتخيل نحن ولتتخيل إيران وسوريا والسعودية والكويت والأردن ومصر وغيرها ذلك، وجميعها مشاريع آيلة للتدهور (إن لم نقل للسقوط) عندما يرفع الغطاء كما حدث في العراق، بل ولتتخيل الولايات المتحدة ذاتها ذلك، ربما عندها فقط يدركون كم يحتاج العراق إلى دولة.
لم يعد الحديث عما كان، وعما كان ممكنا أن يكون، مجديا فقد انضمت السنوات الخمس الماضية إلى سابقاتها، وعلى العراق أن يبدأ منذ اللحظة ليقيم دولة لشعب يستحق أكثر بكثير مما تفضل به تاريخه الحديث عليه حتى الآن.
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي
العراق بعد خمس سنوات سلطة تبحث عن دولة
لا و الله سلطه تبحث عن رئيس رحم الله أيام صدام0