هناك نشاط سياسي محموم يدور حالياً في العراق على خلفية مجموعة من التكهنات بشأن تغيير مرتقب في تركيبة الحكومة العراقية الحالية وربما استبدالها بحكومة أخرى إذا ما نجحت المناورات الجارية خلف الكواليس لتحقيق هذا الغرض. شرط أن تنجح القوى السياسية الناشطة حالياً في تصديع التكتلات السياسية القائمة اليوم وإفراز تكتلات جديدة وأغلبية أخرى تفلت زعامتها من بين يدي الإئتلاف الموحد وتستقر بين يدي كتلة جديدة لا ندري إذا كان يمكن أن تكون متجانسة ومتوافقة فيما بينها نظراً للاختلاف الشاسع أيديولوجياً بين مكوناتها المرتقبة. فهناك شائعات تناقلتها وسائل الإعلام المناوئة لحكومة السيد المالكي تقول أن برهم صالح من الجبهة الكردستانية وعد باقناع بضعة نواب أكراد من جبهته سراً بالانضمام إلى التكتل السياسي الجديد أو الجبهة السياسية الجديدة التي يسعى الدكتور أياد علاوي زعيم القائمة العراقية لتشكيلها قبل اتخاذ قراره الانسحاب من الحكومة الحالية بغية توفير العدد اللازم دستورياً لتحقيق أغلبية جديدة. وقد سمعنا مؤخراً بجولاته المكوكية وأحياناً برقة الدكتور عدنان الباججي في عدد من الدول العربية والإقليمية لاقناع قادتها بتقديم الدعم والتأييد لخطوته بغية تشكيل حكومة عراقية وطنية جديدة تبنى على أساس المواطنة وتلغي المحاصصة ويدخل فيها عدد أكبر من السنة العرب وبعض أعضاء حزب البعث المنحل وربما بعض قوى المقاومة التي تتفاوض مع بعض رجاله سراً كأيهم السامرائي وغيره وكذلك ما تقوم به ابنته الكبرى سارة من اجتماعات ومداولات مع برلمانيين ووزراء بريطانيين في العاصمة البريطانية لندن لهذه.
كما أن هناك معلومات من مصادر موثوقة وصلتنا مؤخراً من العاصمة الأمريكية نفيد أن الدكتور عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية العراقي والقيادي البارز في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وفي الإئتلاف العراقي الموحد قدم خطة اقتصادية متكاملة وطموحة للإدارة الأمريكية التي وافقت عليها مع ما يرافقها من متطلبات للتنفيذ وعلى رأسها ربما وضع صاحبها على رأس السلطة التنفيذية. سيما وأن الدكتور عادل عبد المهدي لم يخف طموحه هذا حيث صرح قبل أسابيع أنه مستعد لتحمل مسؤولية رئاسة الوزارة العراقية إذا ما تم تكليفه بذلك خلفاً للأستاذ نوري المالكي الذي صرح بدوره قبل فترة أنه لا يتمسك بهذا المنصب ولا يرغب في تجديد ولايته لفترة حكم ثانية مما ترك الباب مفتوحاً للطامحين لاحتلال الموقع الأول في السلطة التنفيذية في العراق وهو المنصب الذي تنافس عليه وبشدة عدة شخصيات من بينها الدكتور نديم الجابري أمين عام حزب الفضيلة السابق والدكتور حسين الشهرستاني وزير النفط الحالي والدكتور إبراهيم الجعفري الذي سبق أن شغله لفترة وجيزة أثارت الكثير من الجدل والإشكالات والنزاعات والتوترات بين مختلف القوى الداخلة في اللعبة السياسية.
إن الصراعات الخفية تحت الأرض بين القوى المكونة للكيان السياسي العراقي تطفو أحياناً إلى السطح كما حصل أخيراً عند انسحاب حزب الفضيلة من الإئتلاف العراقي الموحد مما شكل إحراجاً جلياً للحكومة ولم تمض سوى أيام حتى تناهت إلى اسماعنا اشتباكات مسلحة دامية وسقوط ضحايا من جراء هجوم شنته ميليشيات مسلحة تابعة لمقتدى الصدر على مقر حزب الفضيلة في البصرة لتقليم أضافره وتحجيم دوره وتقليص نفوذه في هذه المدينة المهمة التي يديرها عبر محافظها محمد الوائلي أحد كوادر الفضيلة وذلك تحت أنظار ولامبالاة الحكومة المركزية. مما دفع أحد القياديين الكبار في الإئتلاف إلى التصريح قائلاً ومتشفياً: “هذا ما سيجنيه من يتجرأ على الانسحاب والنكث بالتزاماته وتعهداته تجاه الإئتلاف وهو مصير كل من يعمل على تقويض الحكومة القائمة” مدن والمحافظات العراقية في الوسط والجنوب. ويبدو أن صراعات مسلحة أخرى مرشحة للانفجار في عدد آخر من المدن والمحافظات العراقية في الوسط والجنوب.
وهكذا عدنا إلى المربع الأول في أزمة تشكيل الحكومة المستعصية. ويبرز من جديد التنافس المحموم بين الأسماء ذاتها التي تربعت على الزعامة العليا للبلد كما لو أنه لم يعد هناك غيرها من هو قادر على قيادة العراق إلى بر الأمان. لقد أعطيت الفرصة لأياد علاوي مرتين وللجعفري مرة وللمالكي مرة. وها هو الدكتور عادل عبد المهدي يريد أن يجرب حظه في هذ الماكنة الخطرة حيث الخطر يتربص بالجميع وقد تعرض هو نفسه لعدة محاولات لاغتياله في الأشهر القليلة الماضية وقد اغتيل شقيقه قبل ذلك مثلما تعرض نائب رئيس الوزراء العراقي سلام الزوبعي لمحاولة اغتيال أدت إلى إصابته بجروح خطيرة ومصرع شقيقه وعدد من حراسه الشخصيين وذلك أثناء تفجير أحد حراسه لنفسه بحزام ناسف، وسقوط قذائف هاون على مقر إجتماع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وضيفه أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون أثناء مؤتمر صحافي مشترك لهما مما يعني أن شبكة الحماية الأمنية في العراق مخترقة من قبل الإرهابيين والميليشيات. على أية حال لا يمكن لأي تغيير أن يحدث من دون دفع أو تحريك أو موافقة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. والحقيقة أن الأوضاع لا يمكن أن تبقى على ما هي عليه الآن من شلل وركود وتفاقم في الوضع الأمني والمعاشي للمواطن العراقي حتى لو رأت الحكومة بعيونها أن الأمور تسير نحو الأفضل وأن كل شيء على ما يرام لاسيما بعد تقدم الخطة الأمنية خطوات ملموسة إلى الأمام وتحقيق بعض المكاسب الخجولة، أو رأت المعارضة المناوئة للحكومة بجانبيها السياسي والمسلح أن الأمور تزداد سوءاً وأن قوات الاحتلال ستخرج من العراق إن أجلاً أم عاجلاً وسوف تعود المياه إلى مجاريها بالنسبة لها وستقطف ثمارها مناكفتها المسلحة وعصيانها وتمردها ولجوئها إلى الاساليب الإرهابية لترهيب وإرعاب السكان وتخويف الحكومة ورجالاتها الذين يحتمون بالقوات المحتلة حسب ما يعتقد قادة الإرهاب والعصابات المسلحة وأيتام الطاغية المقبور.
إنها حقاً لمعادلة صعبة لا أحد يعرف من خلالها حقيقة الأوضاع والجميع يتساءل ما العمل؟ وكيف الخروج من هذا المأزق المسدود؟ الولايات المتحدة الأمريكية وعلى لسان نائب وزير الدفاع إريك إيدلمان تراهن على حصول تصعيد ديبلوماسي أو قفزة دبلوماسية في الشرق الوسط ككل وفي العراق على نحو خاص وبخصوص الملف النووي الإيرني على نحو أدق. فواشنطن عززت من تواجدها العسكري وقدراتها المسلحة الإضافية في الخليج وفي العراق لترسل إشارات واضحة للمعنيين بخططها الاستراتيجية من أعداء وحلفاء بأن الأمور لم تفلت من أيديها بعد ومازالت وستظل هي المسيطرة والمهيمنة الوحيدة على أقدار ومقدرات هذه المنطقة. وما إرسال حاملة طائرات ثانية إلى الخليج ومنظومة صواريخ مضادة للصواريخ من بطاريات باتريوت إلا لتقول لحلفائها في المنطقة لا تخافوا نحن هنا مستعدون للدفاع عنكم على حد تعبير إيدلمان. فتدعيم وزيادة القوات الأمريكية في بغداد يندرج في سياق إستراتيجية أعم وأشمل وأوسع تهدف إلى رفع مستوى التحرك السياسي والدبلوماسي تجاه دول الجوار العراقي وبالأخص منها إيران وسورية وهو التحرك الذي تجسد عملياً في المؤتمر الإقليمي الذي نظم في بغداد في العاشر من آذار ـ مارس المنصرم حيث تمخض عن قناعة بضرورة منح دور أكبر وأكثر فعالية للدول العربية ذات الأنظمة السنية التي دعيت لمساعدة العراق للخروج من محنته ومساعدة الحكومة العراقية الحالية لكي تتوسع لتشمل كافة أطياف ومكونات الشعب العراقي. وإذا ما تحقق ذلك فسيكون مؤشراً على حسن النوايا يدفع واشنطن للاكتفاء بالنشاط الدبلوماسي للتعامل مع الملف النووي الإيراني في الوقت الحاضر مع استمرار واشنطن التعاطي مع هذا الملف بحذر شديد وبالتنسيق مع المجموعة الدولية ومجلس الأمن الدولي في حال استمرار تعنت إيران في مواقفها المتصلبة الرافضة لوقف النشاط النووي وتخصيب
اليورانيوم على أراضيها دون رقيب حيث ستسعى الدول الغربية إلى فرض عقوبات صارمة عليها. وفي نفس السياق تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى إقناع حلفائها الأوروبيين لتأييد مشروعها في نصب شبكة صواريخ مضادة أو درع واقي مضاد للصواريخ البالستية. وبعد تردد ومراوغة دامت أربع سنوات اقتنعت واشنطن بضرورة تدريب وتجهيز وتسليح القوات العراقية الجديدة لكي تكون قادرة على تحمل مهام فرض الأمن والقانون في البلاد بدلاً عن القوات الأمريكية والبريطانية المحتلة. وستعمل بالتسنيق مع الحكومة العراقية على تأمين بغداد أولاً لأنها مركز الثقل الإداري والسياسي للدولة من جهة، ونقطة الالتحام والصراع الأساسية بين الحكومة والمتمردين والإرهابيين ورجال العصابات والتكفيريين من جهة أخرى. ولكن لايتوهم أحد أن الحل سيكون بالحسم العسكري فقط بل على العكس سيكون من شأن هذا التعزيز الأمني والعسكري إحداث طفرة أو قفزة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية وإلا فالفشل سيكون كارثة على الجميع.
ويبدو أن واشنطن تعي مخاطر الإخفاق والفشل وتداعيات هزيمتها في التجربة العراقية. لذلك فهي مستعدة لأي شيء يساعدها في الخروج من هذه الطريق المسدودة. ولقد سبق لوزيرة الخارجية الأمريكية أن صرحت وبوضوح وصراحة قبل عام تقريباً أنها مستعدة للجلوس في أي مكان وفي أي وقت ومع أي كان للتناقش إذا أبدت طهران استعدادها لوقف نشاطاتها في تخصيب اليورانيوم وابدت سوريا استعدادها للتعاون الجدي لمحاربة الإرهاب ووقف تسلل الإرهابيين عبر أراضيها وتقديم المساعدة للحكومة العراقية لتحقيق الأمن والاستقرار في العراق. والحقيقة أن واشنطن لا ترفض التحادث مع دمشق بل توجد هناك تبادلات عديدة بين العاصمتين لا سيما فيما يتعلق بلبنان. والحال أن واشنطن تعتقد بأن سورية اتخذت بعض الإجراءات الفعالة للحد من تسلل المقاتليين التكفيريين من جماعة القاعدة لكنها لم تقم بما هو ضروري للحد من نشاط وتسلل العناصر البعثية والصدامية التي تحرك وتنظم أعمال العنف والتفجيرات ضد المدنيين وضد القوات الأمريكية . وكما قلنا في مقال سابق ستكون الأشهر الستة القادمة حاسمة لإنجاز التغيير المزعوم أو المرتجى في العراق من أجل تطبيع الأوضاع وتوفير الأمن والخدمات الأساسية ودفع العجلة الاقتصادية والانتاجية للبلاد أو هو الطوفان بلا شك لاقدر الله.
jawad_bashara@yahoo.com