لا داعي بعد اليوم للدخول في جدال مطول حول العامل الحاسم في عملية اللحاق بالأمم الناهضة. فلقد أثبتت التجارب بما لا يدع مجالا للشك أن الأمم التي سبقتنا على مختلف الأصعدة عموديا وأفقيا، سواء في الغرب المتقدم أو الشرق الصاعد، لم يكن لتحقق ذلك لولا تركيزها في المقام الأول على التعليم والبحث العلمي والانفاق عليهما بسخاء.
وعليه فإنْ أرادت أمتنا العربية المتقهقرة اللحاق بالأمم المتقدمة او الصاعدة فليس أمامها سوى “وصفة علاجية واحدة” هي إيلاء العملية التعليمية والبحثية إهتماما خاصا، وتخصيص نسب مئوية عالية من ميزانياتها السنوية للانفاق عليها وتلبية كل متطلباتها. وحينما نطالب بالتركيز على التعليم كشرط من شروط النهضة فإننا لا ندعو إلى أي تعليم كيفما اتفق!
وبعبارة أخرى، فإن الإهتمام والتركيز والإنفاق يجب أن يوجه إلى التعليم النافع الذي يواكب العصر ومتطلباته، وليس إلى التعليم الذي تجاوزه الزمن ولم يعد يؤدي غرضا سوى التذكير بالأحداث التاريخية والدينية المختلف عليها، وبالتالي دفع المتلقي دفعا نحو التفكير في الماضي والموت بدلا من التفكير في الحياة والمستقبل. على أنّ أحد أهم شروط الحصول على نتائج جيدة في هذا المجال هو إعداد من يقوم بالعملية التعليمية إعدادا مهنيا وأخلاقيا ونفسيا جيدا، وإلا فسنكون كمن يحاول زرع شجرة في أرض بور أو كمن يبلط البحر.
هذا ما تقوله لنا تجارب اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، وهي الدول التي تفوقت على الغرب المتقدم في برامجها وأساليبها ومناهجها التعليمية والتربوية، بل الدول التي علمت مواطنيها ومجتمعاتها أنْ ينظروا الى التعليم ليس فقط كوسيلة للحصول على شهادة تخول صاحبها إيجاد وظيفة يسترزق من ورائها، وإنما أيضا كواجب مقدس تجاه الوطن والمجتمع، وكوسيلة للتفكير والابتكار والابداع والشعور بالمسئولية الاجتماعية والقدرة على النجاح في مواجهة تحديات الحياة والعمل وواجبات المواطنة، وكعنصر من عناصر إحداث الحراك واتخاذ القرارات السليمة الكفيلة بتحقيق الطموحات الفردية والجماعية. والدليل على صحة الجزئية الأخيرة نستقيه مما فعله ويفعله الآسيويون الذين يعيشون في الولايات المتحدة.
يقول الأكاديمي الامريكي “كاس سانستين” في مقال له نشرته مجلة “بلومبيرغ” الاقتصادية في مارس الماضي ما معناه أن الأمريكيين من ذوي الأصول الآسيوية هم الوحيدون ضمن مكونات المجتمع الأمريكي الذين تمكنوا من تحقيق طفرة في ثرواتهم خلال العقدين الماضيين. ويعزي سانستين الأسباب إلى التعليم قائلا:”منذ عام 1989 يحقق الامريكيون من ذوي الأصول الآسيوية نجاحا هائلا من حيث مستوى التعليم”، مضيفا: “في عام 2013 حصل 65% منهم، ممن تتراوح أعمارهم بين 35 و39 عاما على شهادة جامعية مقارنة بـ 42% من الأمريكيين من ذوي البشرة البيضاء، و26% من الامريكيين من ذوي الأصول الافريقية، و16% من ذوي الأصول الأسبانية”. وفي مكان آخر من مقاله يؤكد سانستين أنه “في الوقت الذي يمثل فيه مستوى التعليم عنصرا مهما في الدخل والحراك على مدى الأجيال، يعتمد الوضع الاقتصادي الجيد على القرارات المالية التي يتخذها الأفراد” والتي تمكنهم من تحسين أحوالهم ومراكمة الثروة وتحقيق مستقبل أفضل لأبنائهم.
هذا في ما يتعلق بالتعليم. أما البحث العلمي الذي يُعـّرف بأنه “مجموعة من النشاطات والتقنيات والادوات التي تبحث في الظواهر المحيطة والتي تهدف الى زيادة المعرفة وتسخيرها في عمليات التنمية لمختلف جوانب الحياة” فشأن آخر أثبتنا فيه أيضا تخلفنا عن بقية الأمم بسبب ضعف البنى البحثية من مراكز وجامعات متخصصة، وقلة الانفاق عليها مما ينعكس سلبا على كفاءتها وانتاجيتها، إلى الحد الذي صارت معه انتاجية عشرة باحثين عرب توازي انتاجية باحث واحد في المتوسط الدولي. ووفقا لهذه المعطيات فإنه ليس من المستغرب أن تتفوق إسرائيل وحدها بشكل ملحوظ على الدول العربية مجتمعة في مجال البحث العلمي والتكنولوجي، وبراءات الإختراع، وموقع جامعاتها في سلم ترتيب الجامعات العالمية الأكثر تقدما على مستوى العالم.
وفي هذا السياق يخبرنا الباحث الفلسطيني د. خالد سعيد ربايعة في دراسة نشرها في عام 2008 أن “الجامعات الاسرائيلية حظيت بمراكز متقدمة على المستوى العالمي حسب التصنيفات الدولية، وخاصة الجامعة العبرية التي احتلت المركز 64 على مستوى العالم، بينما لم يرد ذكر أي من الجامعات العربية في الخمسمائة جامعة الاولى. ويضيف قائلا أن “إسرائيل تنفق ما مقداره 4.7% من انتاجها القومي على البحث العلمي، وهذا يمثل أعلى نسبة انفاق في العالم، بينما تنفق الدول العربية ما مقداره 0.2% من دخلها القومي على البحث العلمي. اما بالنسبة لبراءات الاختراع، فهي المؤشر الاكثر تباينا بين العرب وإسرائيل، فقد سجلت إسرائيل ما مقداره 16,805 براءة اختراع، بينما سجل العرب مجتمعين حوالي 836 براءة اختراع في كل تاريخ حياتهم، وهو يمثل 5% من عدد براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل”.
أما على صعيد الدول الآسيوية، فإن آخر الاحصائيات المتوفرة حول ما انفقته على البحث العلمي(إحصائيات العام2011) تشير إلى أن الصين احتلت المرتبة الأولى بانفاق 153 بليون دولار(1.4% من ناتجها القومي) تلتها اليابان بانفاق 144 بليون دولار(3.3 % من ناتجها القومي) فكوريا الجنوبية التي أنفقت 44 بليون دولار أو ما يعادل 3% من ناتجها القومي ، فالهند 36 بليون دولار أو نسبة 0.9% من ناتجها القومي، فتايوان 19 بليون دولار(2.3%)، فسنغافورة 6.3 بليون دولار(2.2%).
وأخيرا فلا شك أن الدول العربية، ولا سيما تلك الأكثر ثراء واستقرارا ونموا كدول الخليج، حققت طفرات تعليمية مشهودة خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، إلا أن هناك الكثير مما يستوجب عمله وخصوصا لجهة تنقيح المناهج الدراسية وتطويرها، وتأهيل المعلمين، ودعم المراكز البحثية، وتفريغ الباحثين.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh