زمن ترامب لم يبدأ في فترة 2015 – 2016 بل في مرحلة 2007 – 2008 مع الأزمة المالية التي مهدت لنهاية النيوليبرالية، تماما كما أشّرت مرحلة 1985 – 1990 لنهاية الشيوعية.
يصعب فك شيفرة (رقم سري أو رمز) الرؤية العالمية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وتتكاثر التساؤلات وتزداد الشكوك في حقبة عالمية مطبوعة بتوازن غير مستقر واضطراب استراتيجي. لكن استنادا إلى أقواله وخطاباته خلال الحملة الانتخابية يمكن استخلاص البعض من ملامح السياسة الخارجية لرئيس بلاد كانت القوة العظمى الوحيدة المهيمنة في السنوات التسعين والتي سيسعى ترامب، على الأرجح، إلى الحفاظ على تفوقها ورفض التحولات العالمية تحت عنوان “أميركا أولا”.
للوهلة الأولى إزاء الغموض السائد حول الخطاب الترامبي، يبدو القلق مشروعا ابتداء من الداخل الأميركي إلى أوروبا والشرق الأوسط وباقي العالم، لأن مجرد انتخاب ترامب يعدّ في نظر الكثيرين تأكيداً على توعك أميركا وتصدع العولمة ودخول العالم في نوع من القفزة إلى المجهول على “متن طائرته”.
في تتويج للفيلم الهوليوودي الطويل طوال الحملة الانتخابية العجيبة والغريبة، وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، على متن الطائرة “ترامب” التي طلي بعض أجزائها بالذهب من عيار 24 قيراطا (مظاهر الثراء والأبهة لا تنقص الملياردير وأبرزها منزله في برج ترامب النيويوركي)، وهي تفوق في فخامتها الطائرة الرئاسية المعروفة باسم “آير فورس وان”. لكن الرئيس الأميركي الخامس والأربعين سيستقل طائرة النقل الرئاسية المحصنة والتي تحتوي على أجهزة تشويش إلكتروني وتشكل ملاذا طائرا للرئيس الأميركي في حال حصول أي هجوم نووي. “الدونالد” كما يحلو له أن يسمي نفسه، له كل الحماية، لكن كيف سيكون حال العالم في زمن ترامب؟
زمن ترامب لم يبدأ في فترة 2015 – 2016 بل في مرحلة 2007 – 2008 مع الأزمة النقدية والمالية العالمية التي مهدت لنهاية النيوليبرالية، تماماً كما أشرت مرحلة 1985 – 1990 لنهاية الشيوعية.
هكذا، بينما تحققت نبوءة البريطاني جورج أورويل بخصوص نهاية الأنظمة الكلية التوتاليتارية في نمطها السوفييتي، تعجل فرنسيس فوكوياما في حسم نهاية التاريخ لصالح اقتصاد السوق من دون كوابح، ونرى أمامنا تداعيات حرب الثقافات والحضارات التي تصور صدامها صموئيل هنتنغتون. ومن زلزال وول ستريت في أواخر صيف 2008، إلى عودة الحرب الثقافية في أميركا 2016 وكأن مرور رئيس ملون من أصول أفريقية لم يسمح بإدارة التعدد الأميركي نتيجة تزايد الفوارق الاجتماعية وخوف الطبقة المتوسطة على نفسها. وتوجد نفس الأزمة على صعيد عالمي بما فيه الشمال (حيث الغنى والصناعة قبل التحول الكبير نحو آسيا والدول الصاعدة) إذ أن المغالاة في الأتمتة (الاعتماد على الآلة أوتوماتيكيا والاستغناء عن البشر كأيدي عاملة) والذكاء الاصطناعي في الثورتين الرقمية والتكنولوجية يقوداننا إلى المزيد من البطالة وتدمير فرص العمل، وما يعنيه ذلك من اهتزاز استقرار المجتمعات وصعود القوميات والأصوليات وقوى القطيعة والفاشية الجديدة.
في هذه الحقبة، اختارت الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب الذي نترقب بلورته لسياسة خارجية بوصلتها، من الآن وصاعدا، الدفاع عن المصالح الأميركية وليس عن أيّ شيء آخر. إنها القطيعة مع التدخل الليبرالي والترويج للقيم وحقوق الإنسان، وما يواكب ذلك من عدم إعطاء الأولوية للزعامة العالمية والدفاع عن الحلفاء. ربما سنشهد أكبر تحوّل في السياسة الأميركية الخارجية إزاء أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ما يذكر بنزعة انعزالية أميركية تطفو على السطح من جديد، وتبرز الانكشاف الاستراتيجي للقارة القديمة التي خفضت ميزانيات دفاعها ورهنت أمنها بحلف شمال الأطلسي وقيادته الأميركية. حيال الانكشاف الاستراتيجي الأوروبي المتفاقم بعد البريكست، وتحت ضغط مخاطر التحوّل الأميركي، يندم البعض على التباطؤ في بلورة نواة صلبة لمشروع أوروبي متماسك لأن عين ترامب على عدم إسهام الأوروبيين في ميزان حلف شمال الأطلسي، وعلى دور المفوضية الأوروبية في بروكسيل لناحية منع الشركات الأميركية الكبرى من خرق قواعد التنافسية.
بيد أن معركة واشنطن ترامب الحقيقية ستكون مع الصين التي تحاول أن تكون الند الاقتصادي من الناحية الصناعية والتجارية، أو لجهة كسر هيمنة الدولار. وهذا التجاذب لا يعني انعدام إمكانية عقد الصفقات لأن كلمة Deal هي الأكثر تداولا في قاموس رجل الأعمال ترامب. وسينطبق ذلك بشكل أو بآخر على الصلة مع “الصديق فلاديمير بوتين” وعلى مدى التوفيق بين المصالح الأميركية والروسية وإنهاء حقبة توتر وصلت أخيرا إلى ما يشبه الحرب الباردة القديمة.
بالرغم من الإعلانات حول الملف النووي الإيراني، أو الموقف من المملكة العربية السعودية، تبقى مقاربة رؤية ترامب فيها نوع من المقامرة ولن تتضح الصورة تماما قبل الربيع القادم. لكن سيكون هناك وضوح أكثر من حقبة باراك أوباما، وربما عدم السماح لإيران بانتهاك التوازنات على حساب الآخرين.
والأوضح يبقى موقف ترامب من إسرائيل وترحيب بنيامين نتانياهو به مع ما يعنيه ذلك من مناخ مواتٍ لإسرائيل بوجود ترامب وبوتين معا في المشهد الإقليمي.
يدور التاريخ دورته ولا ينتهي، لكننا ندخل فعلا في زمن يتوجب فيه التركيز على تجميع ما تبقى من عناصر القوة العربية حتى لا يتم استكمال استباحة العالم العربي في زمن دونالد ترامب.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس