المشهد الأول: نحن في العام 1975، بدايات الحرب الاهلية اللبنانية، في المركز المشترك للحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في الضاحية الجنوبية، الشياح. المهام موزعة بين الرفاق، كلٌ حسب «موقعه»، أو درجته في الهرمية الحزبية. الرفيق سمير (اسم مستعار) من المنظمة، وهو مسلم، يتولّى مع رفيق آخر من الحزب مهمة حراسة المركز، والاثنان بحوزتهما سلاح خفيف، كلاشينكوف. في احدى الليالي، يصل الى سمير نبأ اختطاف ابن عمّه على يد «الطرف الآخر»، المسيحي. من دون تفكير، ولا «إذن حزبي»، او استشارة… يحمل الرفيق سمير رشاشه ويتوجه الى مستديرة خلدة، بصحبة احد اقربائه، حيث يوقف سيارة تمر من هناك، ويخطف اول مسيحي، بهدف ممارسة الضغط على خاطفي ابن عمه، ومبادلته بالشاب الذي خطفه؛ وهذه واحدة من سلوكيات الحرب التي لاقت رواجا واسعا في السنوات اللاحقة على بداياتها. لكن الذي تبين بعد حين ان الشاب المسيحي المخطوف كان هو ايضا من رفاق المنظمة الشيوعية نفسها.
هذه الحادثة لم تستوقف الرفاق، ولا اثارت لديهم فضولا لمعرفة موقف الرفاق «المسؤولين» من هذه المخالفة الصريحة للقواعد «غير الطائفية« التي قامت عليها المنظمة، ولا، بطبيعة الحال، ولّدت نقاشا أو طرحت سؤالا. الموضوع برمته «لُفْلف»، لا أعرف كيف، حتى الآن. والحجة الضمنية كانت، آنذاك، زحمة جولات الحرب الاهلية، وإلحاح المهام الطارئة… المهم ان «الحادثة» هذه لم تسجل في الحوليات الرسمية للحرب الاهلية. ولذلك لا يمكننا قياس مدى انتشارها في هذا الوسط بالذات، ولا بالتالي معرفة درجة التطييف، الواعي وغير الواعي، لدى هذا الطرف «العلماني» من اطراف الحرب. (لكن الملاحظ ان ذكرها امام رفيق من بين القدماء يثير غيظه وانكاره. العفة التنظيمة ما زالت سارية المفعول، بعد ثلاثين عاما على انقضاء التنظيم…).
المشهد الثاني: نيسان 1981. القوات السورية تحاصر مدينة زحلة المسيحية، وتدكّها بالنار والحديد، في واحدة من اعنف الجولات السورية الرامية الى اضعاف المسيحيين. آنذاك، كانت «الحركة الوطنية اللبنانية»، ومنظمة العمل الشيوعي منها، تلتقي تماما مع الشعار الذي رفعه الحكم السوري لضرب زحلة واهاليها، من ان كل هذا الحصار والقتل والخراب، انما هدفه «محاربة المشروع الصهيوني الامبريالي» المتمثل بـ»القوات اللبنانية» وبالزحليين. كان يفترض بنا، نحن الاعضاء في منظمة غير طائفية، وبصفتنا ايضا أذكياء فطناء، اذ هكذا كنا ننظر الى انفسنا…. كان يفترض بنا، بأضعف الايمان، ان نضيف الى الحجة الابدية الخاصة بالامبريالية والصهيونية، او نخترع حجة اخرى، مختلفة، لنقنع انفسنا، او نقنع غيرنا، بهذا الموقف المشين. لكننا لم نفعل، بل سلكنا الطريق الاسهل على قلوبنا الكسولة. اصدرت «قياداتنا» بيانا مؤيدا للقوات السورية ومن منطلق طائفي لا مستتر ولا مخفَّف؛ منطق طائفي صرف. هذا الموقف تسبب بخروج بعضنا من المنظمة؛ اذ كنا نخرج على دفعات، على مواقف. وخلافا للمشهد الاول، الذي لا نعرف مدى تكراره، فان هذا المشهد الاخير ليس نادرا، لا في تاريخ المنظمة ولا في تاريخ الحركة الوطنية اللبنانية «العلمانية«.
يمكن فهم تاريخ المنظمة من هذه الزاوية بالذات على انه سلسلة من الاستقالات، إما نحو الحضن الطائفي الاصلي او المستعار، او نحو استمرار التمرد على درجة الحرارة الطائفية التي سادت في صفوفه. انفراط عقد المنظمة تم على نحو لا يشبه غيره، على نحو لا يتسبّب الا بالانشقاق او الرحيل. (مقارنة تجربتي المنظمة والحزب الشيوعي من هذه الزاوية قد تلقي بعض الضوء على اسباب هذه الفرادة).
المهم ان المشهدين يرسمان لوحة واضحة عن قوة الطائفية وضعف اللاطائفية، وذلك في عرين منظمة علمانية يسارية ماركسية لينينية الخ. والسؤال الذي يلحّ، وبمفعول رجعي: كيف بنينا مفهومنا للطائفية وللعلمانية؟ كيف تبنينا اصلا المفاهيم التي طرحناها كبدائل عن تلك التي كنا ننعتها بالـ»بالية»؟ عبر القراءة؟ عبر اشكال من الثقافة والابداع؟ عبر التجربة؟ التجربة الشخصية؟ السياقات غير المفتعلة؟ ألم يصبنا غرور ما، من النوع المعطِّل، من اننا لمجرد اعلاننا عن الفكرة يعني اننا امتلكنا نواصيها؟ حسنا، وقبل صياغة البدائل، ألم يجدر بنا التدقيق في هذا الذي لا يعجبنا، اي الطائفية؟ ومعرفة دروبه وآلياته الخ. طبعا من السهل القاء الاسئلة بعد حين. ولكن من الصعب ايضا نكرانها.
فالمشهد الاول يظهر سياسيتين: الاولى معلنة والثانية واقعة في السكوت عنه. من جهة علمانية ومدنية… ومن جهة اخرى لفلفة عوارض المرض الناجم عن نقيضهما، أي الطائفية. فيما المشهد الثاني يظهر خطابين داخل الخطاب الواحد، علماني معلن من جهة وطائفي شبه معلن من جهة اخرى. ولكن المشهدين ينمّان عن سياسية «واقعية« (realpolitic)، مندمجة في منطق السياق الطائفي الأقوى، خاضعة لمترتباته، على الرغم ممن كل الشعارات العلمانية. لهذا السبب اندثرت ربما منظمة العمل الشيوعي؛ فالساحة اللبنانية لم تكن تتسع لمجموعة شيوعية أخرى، بعد الحزب الشيوعي، تتكيف مع الاقوى على الارض وترتضي ما يرتضيه، وبشعارات أو مفاهيم تتناقض مبدئيا مع كل ادبياته وتثقيفاته ومواعظه.
الآن، بعد مرور ثلاثة عقود على المشهدين، تطل المعضلة نفسها على الثورة السورية، مع تفاقم للظاهرة الطائفية. وأهم دعائم هذا التفاقم صعود الاسلامية السياسية صاحبة الادوات الفكرية المتأصلة في طائفيتها. ذيوع نظرية تحالف الاقليات الطائفية المذهبية بوجه نظرية المواطن والدولة والقانون. وسيادة زاوية النظر المذهبية، السنية/الشيعية لتفسير الماضي والحاضر وتخصيب نظريات المستقبل.
ماذا تفعل المعارضة السورية، وهي غير طائفية، لتفادي الوقوع في الشرك الذي فخخت به منظمة العمل الشيوعي وحلفاؤها؟ بماذا تستفيد الثورة السورية من تجربة سابقة عليها، كانت مثلها الآن ترفع راية الاصلاح السياسي؟ ولم تحمِ نفسها من الانزلاق في الأتون الطائفي؟
الانكار: انكار الطائفية ومعاملتها مثل عيب خلقي يجدر حجبه، يغلق بابا ليفتح نوافذ الطائفية على مصراعيها.
اللامبالاة: عدم الاهتمام، عدم الانكباب على الظاهرة الطائفية، بحجة انه ليس وقتها الآن، وان اولويات اخرى بانتظارنا، لا يخلق التراكم النقدي تجاه المسألة.
الاهتمام الموسمي: بعد تصريح لمسؤول رعوي او طائفي، يتناول الطائفية من زاويته. وليس الاهتمام المنتظم، الخاضع لرؤية او برنامج او اجندة.
عدم المعرفة: كل هذا لا يشجع على معرفة الظاهرة الطائفية. بذريعة عدم وجود الطائفية، يلقى ظلال سميك بالمجتمع الطائفي الحقيقي، بكل آلياته وبناه وتوجهاته وخياراته وطبيعة تدينه الخ.
الثقافة الناقدة للطائفية، حتى هذه اللحظة، غير موجودة. هي ليست دروسا او نصوصا مختارة من هذا المرجع او ذاك. انما هي خوض التجربة مع الطائفية والتفاعل معها نقديا بما ينتج معاني غير طائفية هي الجهاز النظري للمواطنين غير الطائفيين التائقين الى مجتمع مواطنة ودولة وقانون.
ربما ليس الوقت الآن متاحا لتخوض الثورة السورية معترك الطائفية من هذه الزاوية بالذات. ولكن وقت الطائفية بدوره ليس بطيئا، كما قد يتبادر لدى البعض. انه أسرع من المواطنة. انه شبح نائم، ولكنه أليف.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
نُشِر في “نوافذ” المستقبل