الرئيس شي جين بينغ بشر أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي ببزوغ فجر ‘عصر جديد’ من الرخاء والقوة الصينية، ستتحرك فيه بكين ‘أقرب إلى مركز الصدارة’.
اختتم المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني أعماله هذا الأسبوع، في قصر الشعب للمؤتمرات في بكين، على بعد خطوات من المدينة المحرّمة أو القصر الإمبراطوري الذي أقام فيه 24 إمبراطوراً صينياً، على مدار 600 عام، من تاريخ بلاد عمرها ثلاثة آلاف سنة متسمة بنزعة الهرمية الإمبراطورية. واليوم يكمن التسلسل في رئيس الدولة المستند إلى الحزب الشيوعي (أكبر حزب في العالم مع حوالي 90 مليون عضو) ويبرز هذا النظام العمودي الطابع مع تكوين اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المؤلفة من سبعة أشخاص تحت قيادة الأمين العام شي جين بينغ الذي تكرس إعادة تتويجه رئيسا حتى 2022، ويتضح بجلاء أن المرحلة الشيوعية الممتدة منذ 1949 أتاحت إعادة بعث الإمبراطورية الصينية التي لا تخفي الآن طموحها في إعادة تشكيل العالم من خلال تصدير نموذجها في هذا “العصر الجديد”.
في مواكبة لتمجيد الرئيس الصيني، أعلنت وسائل الإعلام التابعة للدولة استحداث ما يُسمى بـ“نظرية شي جين بينغ حول الاشتراكية، ذات الخصائص الصينية من أجل عصر جديد”، ليكون بذلك المفكر الرابع للشيوعية بعد كارل ماركس و فلاديمير إليتش أوليانوف (لينين) وماو تسي تونغ. وهكذا ينتزع شي الأمين العام الحالي للحزب الوحيد والقائد موقعا يقارن فقط بموقعي ماو تسي تونغ مؤسس الحكم الشيوعي، ودينغ شياو بينغ رائد الإصلاح.
ومن قراءة نتائج المؤتمر يبدو أن شي حقق ثلاثة إنجازات كبيرة وشخصية:
– لا يوجد بين أعضاء اللجنة القيادية الستة من خليفة له وهذا يعني اتجاها نحو سلطة على الطريقة البوتينية.
– أدخل ثالث كبار الأباطرة الشيوعيين نظريته في ميثاق الحزب إبان حياته وليس بعد مماته.
– خرج عن قاعدة “السلطة أو القيادة الجماعية” التي أرساها دينغ شياو بينغ.
تميز شي جين بينغ خلال ولايته الأولى (2012 – 2017) بشن حملة مكثفة ضد الفساد، أخفت في جوانبها إزاحة الخصوم المحتملين وإحاطة نفسه بمجموعة من الأوفياء والمقربين الذين أيدوا ويؤيدون سيطرته المطلقة على الحكم. لسنا أمام الثورة الثقافية وضحايا مرحلة ماو الذين يعدون بالملايين، بل نحن إزاء اعتماد على حزب مضمون الولاء وعلى جهاز أمني حاضر أينما كان لتأمين المباركة لحكم الشخص الواحد والحزب الواحد من دون منازع.
والأدهى أن يدخل في تركيبة اللجنة القيادية الدائمة الدماغ المفكر للنظام وانغ هونينغ الذي يخرج إلى العلن للدفاع عن “السلطوية الجديدة في الصين”. ويلقب هذا الفرنكفوني والبروفسور السابق في العلوم السياسية بـ“كيسنجر الصيني” وقد اختاره شي ليكون على رأس جهاز الدعاية.
إنها الحرب الأيديولوجية التي يسعى النظام الشيوعي في الصين لكسبها حسب رؤيته لتطور مسار العالم وأنظمته السياسية. إنها معركة تصدير النموذج الصيني الذي يمثل تحديا للغرب ومفاهيمه وسياساته. ساد الاعتقاد طويلا أن الليبرالية الاقتصادية ستقود حتما نحو الانفتاح السياسي، لكن تجربة الصين تثبت العكس من خلال جمع نموذج شي بين الرأسمالية والنظام السلطوي والقومية، وهي كلها وصفات يمكن أن تؤدي إلى عملقة التنين الصيني، لكنها يمكن أيضا أن تسبب تداعيات مباشرة في المحيط الجيوسياسي المباشر للصين، وربما كوارث على المدى المتوسط في ظل حالة الارتباك في النظام الدولي.
إنها الحرب الأيديولوجية التي يسعى النظام الشيوعي في الصين لكسبها حسب رؤيته لتطور مسار العالم وأنظمته السياسية. إنها معركة تصدير النموذج الصيني الذي يمثل تحديا للغرب ومفاهيمه وسياساته
إذن نحن إزاء نموذج على عكس ما اعتقد فرنسيس فوكوياما (الأميركي الياباني الأصل صاحب نظرية نهاية التاريخ) عن “إسهام المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا في انهيار الأنظمة الشمولية ونظام الحزب الواحد لأن نجاح التصنيع ينتج مجتمعات تسود فيها الطبقات الوسطى، وهذا النوع من المجتمعات يفرض المشاركة السياسية والمساواة”. والآن يأتي مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير ليبرهن أنه بعد ثلاثة عقود من التحولات ومن النمو الاقتصادي المتسارع، يصمد النموذج السياسي السلطوي الذي يضع قوة الصين الاقتصادية والنقدية في خدمة توسعها الاستراتيجي وسعيها لإعادة تشكيل العالم.
الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، التي تعبر عن النظام السياسي الصيني، هي نموذج مضاد يمكن تطبيقه لفرضية الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الغربية. وبمعنى ما، لا يُمثِّل ما يؤسِّسه شي جين بينغ صداما بين حضارات وقيم فقط، وإنما أيضا صداما بين نظم سياسية واقتصادية.
بشر الرئيس شي جين بينغ أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي ببزوغ فجر “عصر جديد” من الرخاء والقوة الصينية، ستتحرك فيه بكين “أقرب إلى مركز الصدارة”. وما كان لافتا أن شي في أحد أقسام الخطاب الرئاسي وصف نظام الحزب الواحد الصيني بأنه “خيار جديد للدول والشعوب الأخرى التي ترغب في تسريع تنميتها والحفاظ في الوقت نفسه على استقلاليتها”.
تحت عنوان “إعادة التوازن للعولمة”، والعمل على تحرير التجارة، تطرح الصين مبادرات “طرق الحرير الجديدة” لتكون بمثابة مشروع القرن، مع تعهد بتخصيص 124 مليار دولار لتمويل هذه المبادرات الهادفة إلى تعزيز التبادل التجاري بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وذلك على غرار القوافل التي كانت تعبر آسيا الوسطى في العصور القديمة. والمقارنة الأكثر واقعية هي مع “مشروع مارشال الذي مولته الولايات المتحدة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وكان المفتاح لنفوذها العالمي.
تستفيد بكين كثيرا من المعادلة الحالية أي “الفوضى الاستراتيجية” في النظام الدولي، حيث أن الصين تجد نفسها في موقع مغاير لأوضاع كبار الأقطاب الدوليين إذ أن الولايات المتحدة الأميركية، القوة العظمى المسيطرة بشكل أحادي في الأمس القريب، تتراجع اليوم وتشك بقدراتها في ظل مؤسسات لا تتأقلم تماما مع الرئيس دونالد ترامب، أما الاتحاد الأوروبي الذي يملك، نظريا، الإمكانيات ليكون القوة المضادة للنموذج الصيني فينقصه التماسك السيـاسي والإرادة. ومن جهتها تتمتع روسيا فلاديمير بوتين بقوتها العسكرية تحت حكم رئيس قوي، لكنها اليوم تعد الشريك الثاني في الحلف مع بكين بعدما كانت “الأخ الكبير” في حقبة الرئيس جوزيف ستالين.
ضمن تجميع عناصر القوة لم تعد الصين “مصنع العالم”، بل إنها ستخوض أيضا معركة الصدارة في الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية. في العام 2015، أصبحت الصين أكبر شريك لـ92 دولة في التصدير أو الاستيراد، ولإعطاء فكرة عن القدرة الاقتصادية الكبيرة حاليا فإن الصين كانت في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته أكبر مقترض من البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي، إلا أنها أصبحت الآن مصدر إقراض للدول النامية أكبر من البنك الدولي. لكن قروض الصين ومساعداتها للدول الأفريقية لم تساهم على غرار الغربيين في تنمية الاقتصاديات المحلية. لكن نظراً إلى مشاكلها الحدودية مع جيرانها جميعا وأساليب توسعها، يمكن أن تشكل النهضة الصينية الصاعدة تحدياً كبيراً خاصة إذا قرر “الإمبراطور الأحمر” فرض نموذجه الذي يؤمّن توسعه الاقتصادي قبل أي اعتبارات أخرى.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس