في أعقاب نجاح الزعيم الصيني الشيوعي “ماو تسي تونغ” في طرد قوات “الكومينتانغ” الوطنية بقيادة الماريشال “شيانغ كاي شيك” إلى جزيرة تايوان، وتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949 تبنّت بكين سياسة خارجية راديكالية قوامها تصدير الأيديولوجية الماوية إلى دول العالم الثالث، والترويج لفكرة حروب التحرير الشعبية ضد القوى الغربية، واحتضان التنظيمات الراديكالية حول العالم ومدها بالسلاح والتدريب. ولسنوات طويلة عانت دول جنوب شرق آسيا من تدخل النظام الماوي في شئونها الداخلية على نحو ما برز بأوضح الصور في أندونيسيا التي أغدق “ماو” على حزبها الشيوعي مختلف أنواع الدعم من أجل الاستيلاء على السلطة زمن رئيسها الراحل سوكارنو. ولم تكن دول أفريقيا السوداء حديثة الإستقلال بمنأي عن تدخلاته. فعلى سبيل المثال كانت البصمات الماوية حاضرة في الانقلاب الدموي ضد قرنين من الحكم العربي لجزيرة زنجبار بــُعيد استقلالها في عام 1964. ومن ضحايا السياسات الماوية الخارجية الهوجاء أيضا، سلطنة عُمان الشقيقة التي دعمت بكين فيها مجموعة مقاتلة متطرفة بائسة سمت نفسها “الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي”. وبلغت السياسات الخارجية الماوية الطائشة ذروتها في عام 1962 حينما شنت الصين حربا على جارتها الهندية واحتلت آلاف الكيلومترات من أراضي الأخيرة.
غير أنّ سياسات ماو هذه دخلت متاحف التاريخ مع كتابه الأحمر بعد النقلة الإصلاحية التي قادها الزعيم الراحل “دينغ زياو بينغ” في منتصف السبعينات. وهي نقلة لم تقتصر على تحرير الإقتصاد، الذي كان بمثابة الشرارة لما تعيشه الصين اليوم من ريادة، وإنما شملت ايضا إجراء جراحة عاجلة للتوجهات الخارجية الصينية، لانقاذها من التهور والضجيج والمكابرة والقرارات العبثية والطفولية، وغير ذلك مما اتصفت به السياسات الماوية على مدى اكثر من عقدين، كي تتحق للبلاد مكانة تليق بتاريخها وحضارتها وسط الأمم. وبموجب سياستها الخارجية في حقبة ما بعد “ماو” راحت بكين تؤكد أنها ضد التدخل في الازمات الدولية والاقليمية ــ على نحو ما حدث في موقفها من الازمتين السورية والليبية ــ إلى درجة أنّ مراقبين كثر عابوا عليها ذلك قائلين أنه نهج سياسي لا يليق بدولة كبرى تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن.
اليوم يواجه زعماء الصين مأزقا يبدو أنه سيدفعهم حتما إلى إجراء تعديلات واسعة على سياساتهم الخارجية الحالية وبشكل يعيدها نسبيا الى ما كانت عليه زمن المعلم “ماو”. وهذا المأزق يتمثل في تزايد الانشطة الارهابية حول العالم وانخراط المئات من الصينيين فيها، الأمر الذي يعني تهديدا لمصالح البلاد الداخلية والخارجية.
صحيح أن الصين كانت مستهدفة بالأعمال الإرهابية من قبل تنظيم القاعدة وحليفتها “حركة تركستان الشرقية الاسلامية” أيام حكم طالبان لأفغانستان التي تحدها من الغرب، لكن تلك الأعمال كانت محدودة، وأمكن التصدي لها بنجاح عبر التعاون مع جنرالات الحليف الباكستاني الذين كانت لهم دالة على زعماء طالبان فكانت أوامرهم بمنع مشاغبة الصين مستجابة. أما الوضع الحالي فهو مختلف كليا بعدما أدى ما يســمي بـ”ثورات الربيع العربي” إلى حالة من الفوضى والنزاعات الطائفية والعرقية والقبلية، وظهور حركات ارهابية بالغة التطرف في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر أحد أهم مناطق العالم بالنسبة للصين لجهة التصدير واستيراد الطاقة. وكما هو معروف فإن هذه الحركات كداعش وأخواتها تمكنت من السيطرة على اجزاء واسعة من العراق وبلاد الشام، وجذب المئات من الصينيين المسلمين (خصوصا ممن عملوا في تنظيم القاعدة سابقا من المنحدرين من إقليم شينغيانغ ـ تركستان الشرقية ـ ذي الاغلبية الإيغورية الناطقة بالتركية) للقتال في صفوفها أولا، وربما لاستخدامها لاحقا في احداث القلاقل والاضطرابات داخل الصين. ولعل أفضل الأدلة على جزع القيادة الصينية وتخوفها من احتمال عودة مواطنيها المقاتلين في صفوف داعش إلى الصين وهم يحملون خبرات قتالية وامكانيات تعبوية قادرة على استهداف الأمن والإستقرار الداخلي هو تصريحات المبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط “وو سيكي” بهذا المعنى، ناهيك عن اللقاءات التي جمعت مسئولين صينيين رفيعي المستوى بنظرائهم الامريكيين مؤخرا للتباحث في موضوع التنسيق والتعاون الاستخباراتي من أجل مطاردة المتطرفين والارهابيين أينما وجدوا، وتجفيف مصادرهم المالية، والتضييق عليهم.
ولأن الصين تفتقد القوانين والتشريعات المنظمة لأطر التدخل ضد مصادر الخطر الارهابي في الخارج، ولأن قادة الجيش الأحمر لطالما اشتكوا من ذلك وضغطوا على قيادتهم السياسية من أجله، فإن بكين اعدت مؤخرا مسودة قانون لمكافحة الارهاب يشتمل على بنود كثيرة، ومنها ما يجيز لأول مرة لقادة البلاد والحزب الحاكم ارسال قوات عسكرية وامنية إلى مناطق النزاعات والصراعات في الخارج للمشاركة في مكافحة الجماعات الارهابية. وهذا وحده يكفي دليلا على تبدل السياسة الخارجية للصين، ويشير أيضا إلى تغيير في عقيدتها العسكرية.
وجملة القول أن صين “ماو” كانت بسياساتها الخارجية تمارس الإرهاب وتزرع الفتن في العالم، بينما الصين الحالية تسعى من خلال تغيير توجهاتها الخارجية إلى المشاركة في مكافحة الإرهاب، حتى وإنْ انتقدها البعض ـ مثل المركز الدولي لبحوث السلام في استوكهولم ـ بالقول أنها تساهم في توتير الأوضاع وانفلات الأمن في أكثر من مكان في العالم عبر ما تصدره من أسلحة، تجد طريقها في نهاية المطاف إلى أيدي الجماعات الميليشياوية المقاتلة، خصوصا وأن 68 بالمائة من صادرات السلاح الصينية تتجه إلى بلدان منفلتة أمنية وتشكو من وجود تنظيمات خارجة على القانون مثل باكستان وبنغلاديش وبورما وبعض دول إفريقيا السوداء.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh