تألمت كثيرا وأنا أقرأ عن الشريط الذي ظهر فيه أحد الشباب السعوديين المضللين في العراق ، والمكنى بأبي عاصم الجدّاوي وهو يتحدث عن مهر الحورية التي تننظره في الجنة، وتأكيده أنه ما أن يقدم على فك صمام الأمان إلا ويجد نفسه بين جنبات الجنة! وما ذاك المهر الذي تحدث عنه أبو عاصم إلا السيارة المفخخة التي يقودها، وما يربض في المقعد الأمامي إلى جانبه من المتفجرات والمقذوفات المغطاة بإحكام حتى يتم له تنفيذ جريمته في حق نفسه أولا، وفي حق الأبرياء اللذين لا بد أنهم سيتلظون بلهيب نيرانها. تلك لعمري إحدى حلقات مسلسل النزيف والعنف الدامي الذي نغرق في أتونه ولظاه كل يوم في العراق وفي نهر البارد.. وهنا وهناك نتابع تفاصيله على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز بقلوب يدميها الألم والأسى، مسلسل يتواطىء فيه الصامتون مع المحرضين ومطلقي فتاوى التكفير ليشتركوا جميعا في قيادة شبابنا إلى قتلهم وقتل عشرات الضحايا الأبرياء معهم. جرائم ترتكب آناء الليل وأطراف النهار في أماكن مختلفة من وطننا العربي، يستحل فيها قتل النفس البشرية دون جرم أو ذنب اقترفته، إلا إذا كان الاختلاف الذي قرره الله سبحانه وتعالى كسنة من إحدى السنن التي قدرها على خلقه ذنبا أو جريمة!!
ليس فقط المحرضون على القتال ومطلقو فتاوى الدمار الشامل والداعون لممارسة أفعال العنف هم الذين يجب مقاضاتهم كما طالب بهذا بعض أهالي الشباب المضللين على صفحات الجرائد. ولكن الصمت شريك في نسج مآسي العنف والتقتيل، والإعراض عن اتخاذ موقف حاسم يشجب عمليات القتل المجاني، ويجرم قتل النفس الإنسانية هو الآخر شريك يساهم بصمته وتغاضيه عن تسجيل موقفه في انجرار زهرة شبابنا وراء المحرضين.
وفي ظني أن مجزرة سنجار التي راح ضحيتها أكثر من خمسمائة قتيل من اليزيدين ومثلهم من الجرحى، تعبر عن انعطاف جديد في مسيرة العنف في العراق، لتتجاوز الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، فتضع كل مختلف في العقيدة أو المذهب تحت سطوة العنف الأعمى. تلك المجزرة البشعة دفعت ستين عالما ومفكرا من عدة دول عربية لإصدار بيان يؤكدون فيه على حرمة النفس الإنسانية سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو غيرها من الطوائف الأخرى، وأنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين وأن جميع فتاوى تكفير المخالفين للمذهب أو الطائفة باطلة وبالتالي فإن سفك الدماء بناء على فتاوى التكفير يعد جريمة قتل متعمد وانتهاكا لحرمة نفس حرمها الله.
وحريُ اليوم بعلمائنا الأفاضل ومشايخنا الأجلاء محاربة الفكر التفكيري بنفس أدواته، وذلك بتفكيك مقولاته ودحض مزاعمه، مجرمين قتل النفس الإنسانية المسالمة أيا كانت عقيدتها، فيجب التأكيد على أن كل من يقتل نفسا بغير مقاومة مشروعة أو قصاص عادل أو حد من حدود الله يعتبره الشرع مرتكب لجريمة كبيرة وإثم عظيم.
أثبتت لنا السنون الماضية والتي ابتلينا فيها بكوارث الإرهاب والتفجيرات في كل مكان من عالمنا العربي، أنه لا اليأس والإحباط ولا البطالة ولا عدم القدرة على تذوق الجمال في الحياة كافي وحده كي تنزلق أقدام الشباب لارتكاب جرائهم في حق أنفسهم وأهلهم ومن يستهدفونهم من عباد الله. ولكن حمى التشدد والتعصب والغلو والتنطع التي تسري كالنار في الهشيم في عقول شبابنا، وأحادية الرؤية، وفتاوى التكفير ومقولات التحريض واستنهاض الهمم لقتال الكفار، وأبواب الجنة المشرّعة وحورياتها المترقبات لوصول الشهيد ليزف إليهن هي الدوافع الرئيسة وراء فكر التطرف والعنف الذي يقود عشرات الشباب إلى حتفهم. ليترك وراءه أمهات مكلومات وآباء غارقون في فجيعتهم يتساءلون عن أسباب اندفاع أبنائهم وراء من يحرضهم، وجثثاً متفحمة وأرواحاً بريئة تجز رقابها كل يوم دون ذنب أو خطيئة. لتتزايد مآسينا وتتراكم مصائبنا وفجائعنا يوما إثر يوم. فالخنجر الذي يطعننا اليوم لا يأتينا فقط من الخارج، بل ينطلق أيضا من داخل جسدنا توجهه ذراعنا ويقوده شبابنا المضللون بحمى الفتاوى وأقاويل التكفير وأحلام الحوريات.
لهذا لا بد أن تبدأ مقولة دحض الفكر التكفيري من تجريم قتل النفس الإنسانية المسالمة أيا كان معتقدها، فذاك هو حجر الزواية الذي يجب أن يتم عبره ومن خلاله خلخلة بنية الفكر التفكيري ليتنسى لنا هدم البنيان وتقويض دعائمه من حيث نواته ومركزه. أما القول بأن وصف الانتحاري بالشهيد يعتبر تزكية وضمان للجنة وأن تزكية النفس تدخل تحت باب المخالفات الشرعية المرتكبة، ففيه التفاف على القضية وتجاهل لأصلها وجوهرها، فهي في أصلها إلغاء المختلف حتى لو أدى ذلك الإلغاء للقتل واجتثاث للأرواح.. وهي أيضا إنكار لقيم التعددية التي يحفل بها تراثنا الإسلامي وإذكاء لنار الفتن التي يحترق بها اليوم وطننا العربي.
تاريخنا مدجج بالشواهد على سماحة الإسلام وانفتاحه على التعددية وتقبله للآخر المختلف، ومن الممكن استخراج عشرات الشواهد الدالة على تحريم قتل المختلف المسالم من دفاتر تاريخنا، والمعززة لنزعة الأنسنة والمؤكدة على التعايش بين الأديان والتي يجب استثمارها لهدم الفكر التكفيري وإعادة الضالين إلى جادة الصواب. فرسولنا الكريم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز استجاب لإرادة أهالي سمرقند عندما طلبوا منه أن لا يحكمهم المسلمون وأن يتم إخراج كل من أسلم من قومهم خارج بلادهم، فما كان من الخلفية العادل إلى أن وكّل قاضيا ليستمع إلى أقوال الأهالي ليخرج المسلمون إذا ما كانت الغالبية تريد ذلك. أمام روعة ذلك العدل وعظمة قيم التسامح والإيمان بحرية المعتقد من خليفة المسلمين انهارت كل حوائط الرفض والممانعة ودخل السمرقنديون في الإسلام زرافات ووحدانا، وأصبح من كان مناهضا للوجود الإسلامي مدافعا عنه ومنافحا عن بقائه، إلى كثير من القصص الأخرى المعززة لقيم التسامح الديني في تاريخنا والمؤكدة على انفتاح الإسلام على التعددية.
Amal_zahid@hotmail.com
* المدينة المنوّرة