صوّت نواب البرلمان الألماني الاتحادي، “البوندستاغ”، أمس الخميس 2 يونيو بأغلبية ساحقة على مشروع قرار يعترف بإبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية بين عامي 1915 – 1917، وذلك بعد جدل طويل ومحاولات تركية لثني ألمانيا عن الخطوة لم تفلح في التأثير على آراء ومواقف غالبية برلمانية ألمانية. وتنضم ألمانيا بذلك إلى صف أكثر من عشرين دولة في العالم تعترف رسمياً بوقوع أعمال إبادة جماعية ضد الأرمن خلال سني الحرب العالمية الأولى، وهذا ما يمكن عدّه صفعة ألمانية على الخد التركي، نظراً لأن ألمانيا تُعتَبَر أقرب دولة إلى تركيا في الفضاء الأوروبي!
وإذا كان التصويت قد نجح في إقرار وقوع جريمة الإبادة الجماعية ضد الأرمن، إلا أن ذلك خلق انزعاجاً واضحاً لدى بعض الساسة الألمان أيضاً. فالبرلمانية الألمانية “بيتينا غودلا” قالت في بيان لها إن اعتراف بلادها بمزاعم إبادة الأرمن سوف يضر بالعلاقات بين تركيا وألمانيا، الأمر الذي سيؤدي إلى صعوبة تنفيذ الاتفاق التركي – الأوروبي حول تدفق اللاجئين، وتعتقد البرلمانية “غودلا” أن تقييم الأحداث التاريخية خارج ألمانيا ليس من مهام البرلمان الألماني.
من جهته اعتبر البرلماني “أوليفر فيتكه”، من “حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي”، أن قرار “البوندستاغ” من شأنه إعاقة المصالحة بين تركيا وأرمينيا بدلاً من تشجيعها.
ورغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان أحد الأحزاب الألمانية الخمسة التي شاركت في إعداد مشروع القرار، فإن أغلب نوابه في “البوندستاغ” لم يشاركوا في جلسة التصويت، إضافة إلى المستشارة ميركل، ووزير الخارجية المعارض لإقرار المشروع فرانك شتاينماير، ورئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي سيكمار غابريال.
حاولت تركيا خلال الفترة السابقة ثني الجانب الألماني عن الاعتراف الرسمي بإبادة الأرمن، وفي هذا السياق أجرى الرئيس التركي أردوغان اتصالاً هاتفياً بالمستشارة الألمانية ميركل معرباً عن قلقه من مشروع القرار وتحذيره من احتمال تدهور العلاقات بين البلدين.
من جهته خفف رئيس الوزراء بن علي يلدرم من وقع التصويت، وقال بأنه يفتقد أي قيمة.
أما الخارجية التركية فأعلنت في بيان أن قرار البرلمان الألماني “مخجل” و”غير منطقي”، مشيرةً بالمقابل إلى سجل ألمانيا من العنصرية والجرائم ضد الإنسانية الممتد من ناميبيا إلى الهولوكوست ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية!
في حين انتقد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن خطوة البرلمان الألماني واعتبرها غير قانونية ناعتاً البرلمان الألماني بـ”عديم المسؤولية”.
بينما دعا رئيس “حزب الحركة القومية” اليميني، “دولت بخجلي” الحكومة التركية إلى فرض عقوبات دبلوماسية على ألمانيا، وقراءة التعاون العسكري التركي – الألماني في قاعدة إنجرليك التركية في ضوء الاعتراف بإبادة الأرمن.
يعد موضوع إبادة الأرمن أحد أهم الملفات المزعجة للحكومات التركية في السياسة الخارجية، سيما مع بلدان الغرب، وذلك لدى كل خطوة من شأنها الاعتراف بها، كما جرى سابقاً حين أطلق بابا الفاتيكان تصريحات عنها، أو حين اعترفت سويسرا وفرنسا وروسيا ودول أخرى بوقوع الإبادة ضد الأرمن.
الخطوة الألمانية نقلت التوتر في العلاقات بين تركيا وألمانيا إلى مستوى آخر متقدم في ظل التوتر المستمر منذ أشهر على خلفية ملف سخرية إعلامي ألماني من الرئيس لتركي رجب طيب أردوغان. ومن شأن هذه الخطوة تأزيم علاقات البلدين والتأثير سلباً في الاتفاق الأوروبي – التركي الهش أصلاً فيما يتعلق بمنع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا انطلاقاً من الأراضي التركية. وقد بدأت نذر تأزم العلاقة بين انقرة وبرلين أمس مع استدعاء الخارجية التركية للقائم بأعمال السفارة الألمانية روبرت دولغر، كذلك استدعت تركيا سفيرها في برلين حسين عوني قرصلي أوغلو للتشاور.
وقد حذرت صحيفة “شبيغل أونلاين” الألمانية على لسان مسؤولين في وزارة الدفاع الألمانية من احتمال تضرر المشاريع العسكرية المشتركة بين البلدين، سيما وأن ألمانيا تدير مشروعاً عسكرياً في قاعدة إنجرليك بالتعاون مع تركيا، في إطار الدعم الألماني للتحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم داعش من خلال طائرات الاستطلاع الألمانية “تورنادو”، إضافة إلى تحذير بعض المسؤولين الألمان من الأثر السلبي لمصادقة البرلمان الألماني على جهود مراقبة حلف الناتو لمياه بحر إيجه لمنع الهجرة غير الشرعية باتجاه اليونان.
تختلف الروايتان الأرمنية والتركية في الموضوع. ففي حين يؤكد الأرمن أن نحو مليون ونصف مليون أرمني قد تعرضوا للقتل بطريقة منظمة بين عامي 1915 – 1917 على يد قادة السلطنة العثمانية، ويصفون ما وقع بـ”الإبادة العرقية” و”التهجير العرقي” للأرمن من عدة مناطق في تركيا العثمانية، فإن تركيا الرسمية تخفف من ذلك عبر اعتبار الرواية الأرمينية نوعاً من المزاعم المشكوك في صدقيتها. وتتحدث المصادر التركية في هذا السياق عن مقتل ما بين 300 – 500 ألف أرمني بين 1915 – 1917 نتيجة لظروف الحرب الروسية – العثمانية في شرق وشمال شرق الأناضول، وبالتالي تنفي الرواية التركية تسمية “الإبادة العرقية” وتستعيض عنها بتوصيف الحدث كـ”مأساة” ألّمت بالطرفين معاً!
لكن غالبية المؤرخين، وكذلك الديبلوماسيين الغربيين في الدولة العثمانية في ذلك الحين، يؤكدون في كتبهم ومراسلاتهم وقوع إبادة عرقية ممنهجة في السنوات بين 1915 – 1917 استهدفت الأرمن وأقليات مسيحية أخرى في الدولة العثمانية كالسريان والآشوريين.
حاولت تركيا وأرمينيا في 2009 اعتماد سياسة الانفتاح في علاقاتهما. وقد وقعت حكومتا البلدين على بروتوكولين لفتح الحدود وإنشاء العلاقات الديبلوماسية بينهما وفتح المعبر الحدودي المغلق منذ 1993 على خلفية الحرب الأذرية – الأرمينية على إقليم ناغورني كاراباغ. وحضر الرئيس الأرميني حينها سيرج سركيسيان مباراة لكرة القدم بين فريق بلاده والفريق التركي في مدينة بورصة التركية، لكن الانفتاح بين البلدين لم يصمد طويلاً وسرعان ما تراجع إلى المربع الأول ما قبل الانفتاح.
mbismail2@gmail.com