يخوض رجال الملك محمد السادس المقربون، منذ نحو ثمان سنوات، حربا شرسة بينهم، للظفر برضا ولي نعمتهم.. حرب كل شيء فيها مُباح، بما في ذلك الضربات تحت الحزام. وللمعركة “قوانينها” الحرة بما يجعلها أشبه بما كان يجري بين المصارعين الرومانيين، الذين كانوا يتواجهون فيما بينهم شبه عراة بعضلاتهم المفتولة، وأسلحتهم الفتاكة المسنونة، حيث يكيلون لبعضهم الطعنات القاتلة، وسط حلبة ” الكويليزيوم” – المغلقة المكتظة بخاصة القوم وغاغتهم (الغوغاء) – التي ما زالت أعمدتها ومدرجاتها الحجرية الصلبة، قائمة تتحدى الزمن، في قلب العاصمة الإيطالية روما، وكما كان يحدث في ذلك الصراع البدائي الشرس، فإن الكوكبة المحيطة بالملك محمد السادس، ضمن مجموعة حكم أوليغارشي سافر، يفعلون كل شيء للنيل من بعضهم البعض.
لنلامس بعض المعطيات المتوفرة حول هذا الصراع البدائي، بين رفقاء الملك المغربي: نُذَكِّر في البداية بما حدث مع قضية الكاتب الخاص للملك محمد منير الماجيدي أو “إم 3″ اختصارا، في الأيام القليلة الماضية. ونعني بها فضيحة الهكتارات المفوتة لـ ” لكتاتبي ديال الملك” لقاء مبلغ زهيد يقل بعشرات الأضعاف عن سعرها الحقيقي. وبغض النظر عن الجعجعة الكبيرة التي أثارتها القضية، فإن العارفين ببعض ما يعتمل من صراعات ودسائس بلاط الملك محمد السادس انتشلوا من القضية آثار الأصابع الدقيقة لرجل يُعتبر هو الثاني في هرم السلطة بالمغرب فعليا (وليس الوزير الأول إدريس جطو كما يُفيد بذلك التسلسل البروتوكولي لهيكل الحكم) ونعني به كاتب الدولة في الداخلية فؤاد علي الهمة، ذلك باعتبار أن أمر التفويت الذي استفاد منه الماجيدي، يعود إلى زهاء سنتين خلتا، وبالتالي هذا السؤال: لماذا إثارة القضية بعد مضي كل هذه المدة؟ يجيب العارفون بكواليس ما يعتمل في عقر بيت الحكم بالمغرب، أن الماجيدي كان بصدد حرق المراحل لنيل حظوة أفضل لدى محمد السادس، أو هكذا بدا الأمر بالأعين الحذرة لـ “ولد الرحامنة” الهمة، وبما أن هذا الأخير يتوفر على “أصدقاء” في إدارة المحافظة العقارية فقد أمدُّوه بما طلب: أي ملف أملاك الماجيدي وزوجته وبنتاه وباقي أفراد أسرته، ولينتشل بالتالي فضيحة التفويت، التي قد تقضي على المستقبل المخزني الزاهر لكاتب الملك..
نعم.. ليس في الأمر مبالغة، فالرجل – أي الماجيدي – يوجد في قلب قضية ترامي على ملك عمومي، قد تطرح بقوة، في أوساط المجتمع المدني، وأعمدة الصحافة، ولأول مرة، مسألة تصرف المَلك في المِلك العمومي، بما يجعله نهبا للنافذين في حلبة المخزن الضيقة، وهو ما لا يُنتظر أن يغفره محمد السادس لكاتبه الخاص، اللهم إذا ما حدث – كما هو معهود في الملوك ذوو السلطات المطلقة – وتشبث الملك بكاتبه “العزيز” ولو انقلبت الدنيا رأسا على عقب. في انتظار تبين الخيط الأبيض من الأسود، في هذه القضية الشائكة، فإن ” الماجيدي” يوجد حاليا في إحدى الجزر العالمية الحالمة، بأمر من ولي نعمته، عساه يطفئ بعضا من لهيب “الكية” التي كالها له خصمه في حلبة الصراع المخزني الشرس.
إذن، ضربة “الهمة” مُحكمة التصويب ودقيقة في إصابة الهدف، وهي تُذكِّرنا بأخرى مماثلة سابقة، كان الهمة قد وجهها أيضا لمدير ديوان محمد السادس “رشدي الشرايبي” ومؤداها يتلخص في التالي: فقبل بضع سنوات خلت، نشرت جرائد محلية، معروفة بأداء خدماتها للنافذين في المخزن الجديد، خبرا من النوع الذي تتهافت عليه الصحافة الشعبية، يفيد أن مدير ديوان الملك، تورط في فضيحة تزوير وثيقة أحوال شخصية، بغاية الزواج للمرة الثانية من إحدى عشيقاته. وتعتَّقَ طُعم الفضيحة أكثر، لأن المعني عضو في اللجنة التي كان محمد السادس قد شكلها لمتابعة ملف “خطة إدماج المرأة في التنمية”.. وأتى العقاب توا، حيث نحَّاه الملك، من مهمته الرفيعة في بلاطه وطوَّح به إلى أرض العزل الخلاء، ويا ويح من طوَّح به المخزن من علياء أبراجه الشاهقة، إذ تتكسر ضلوعه وتطمع في لحمه أبناء آوى ولا يستطيع لها ردَّا.
ظل رشدي الشرايبي قابعا في بيته، يأتيه أجره أشبه بالصدقة من بيت المخزن، وهو يجتر ندمه على شططه في اقتفاء أهوائه القلبية والجسدية.
ولأن رائحة الدسيسة كانت قوية، فقد اتجهت أنظار العارفين تجاه “علي الهمة” الساعد الأيمن للملك محمد السادس في إدارة شؤون المملكة الشريفة، ليتبين أن الرجل – أي الهمة – تحين الفرص، ونصب الفخ جيدا لغريمه الشرايبي، وحينما ابتلع هذا الأخير الطعم كاملا، جذب بقوة قصبة الصيد وأطلعه من يمِّه متخبطا مدمى، كما سمكة غليظة. وليجتاز السيد الشرايبي محنة وجود مخزني ممضة حاول خلالها بشتى الطرق: وسطاء مشفقين، من بين الدائرة المحيطة بالملك.. إشارات تذلل واضحة.. ومن هذه الأخيرة مثلا أنه عمد مرة إلى حلق شعر رأسه كاملا إلى حد الصلع وتدبر أمره، بمساعدة أصدقائه، ليقع عليه نظر الملك خلال إحدى المناسبات الرسمية، وذلك في إشارة مخزنية عتيقة جدا من أحد الرعايا في مرتبة عبد لسيده. ويبدو أن الإشارة المخزنية البليغة أتت أكلها حيث عاد السيد الشرايبي إلى الديوان الملكي لكن بدون منصب محدد، اللهم القرب من دائرة الضوء، وفيها يمتد حبل النجاة.
القصة المخزنية “الشيقة” إياها تجرنا إلى أخرى مماثلة، لكنها أقل صدى في وسائل الإعلام، بل تلوكها ألسن العارفين، بكثير من الشماتة، أو الإشفاق – في وعلى – شخص ضحيتها، وتتعلق بالناطق الرسمي باسم القصر سابقا، ووالي جهة مكناس تافيلالت سابقا أيضا، السيد حسن أوريد، المعروف بكونه المثقف الوحيد ضمن كوكبة رفاق الملك محمد السادس، منذ كانوا يُبلون قعور سراويلهم على مقاعد الدرس، كما يقول المثل الفرنسي، أي منذ أزيد من ثلاثة عقود حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
فهذا الرجل الأصلع الأربعيني (45 سنة تحديدا) كان التلميذ المفضل لمدير المدرسة المولوية ( حيث يتلقى الأمراء والأميرات دروس تعليمهم الأساسي) الأكاديمي الكبير محمد شفيق، ولا أدل على ذلك من أن التلميذ النجيب لهذا الأخير – أي حسن أوريد – هو الذي ورث الطموحات الفكرية والمؤسسية ذات الأبعاد العرقية الأمازيغية العميقة للأستاذ شفيق، حيث أسس في أواخر حكم الحسن الثاني معهدا أكاديميا أطلق عليه اسم “طارق بن زياد” وجمع حوله ثلة من المثقفين الأمازيغيين، شأن أحمد عصيد وأحمد بوكوس و الدكتور أوسادن…إلخ من الذين كانوا يتحينون الفرصة المواتية للاستفادة من رعاية وجيب المخزن.
وليس من شك أن الدأب والكد الدراسيين، لحسن أوريد أهَّلاه، عقب فتوى من أحد رجالات المخزن الأذكياء، ليتبوأ منصبا غير مسبوق في دار المخزن وهو “الناطق الرسمي باسم القصر الملكي” وذلك عقب بضعة أشهر من تولي محمد السادس الحكم، بيد أن انصرام “سبعة أيام ديال الباكور” – كما يقول المثل الشعبي المغربي – أظهر أن المخزن لا يتحمل الجديد، ولو كان على مستوى الشكل، وهكذا بقي “أوريد” متمترسا في بطالته المقنَّعة إلى غاية تخليصه من مهمة “الصامت باسم القصر” بتعيينه واليا على جهة مكناس تافيلالت، وبطبيعة الحال تفاجأ مَن يعرفون أوريد المثقف، والصحفي السابق، بهكذا تعيين للرجل في منصب مخزني بامتياز، غير أن مَن تربى في دار المخزن لا يملك دفعا لمشيئته، هذه هي القاعدة واستثناءاتها نادرة جدا، تورد مقترفي الرفض من موارد التهلكة المُميتة.
واليوم، فإن “أوريد” يوجد في وضع لا يُحسد عليه، إنه قابع في بيته، عقب تنحية مباغتة من منصبه، وهذه إحدى خاصيات المخزن المغربي: يُؤتيك أو يَأتيك من حيث لا تحتسب. والسؤال اللغز هو: مَن كال الضربة الجديدة الموجعة لحسن أوريد؟ الواقع أنه ليس ثمة من جواب دقيق.. فمن قائل أن الوالي المعزول لم يُظهر من ” الهمة ” والنشاط ما يرسخه في منصبه المخزني العتيق، إلى قائل بأنه في منزلة بين منزلتين، طرفها الذي لم يظهر لحد الآن، هو قُرب تعيينه في منصب سفير للمملكة الشريفة ببلاد العم سام، إلى الموشوشين في الأبهاء المعتمة لدار المخزن، بأن المثقف الذي يتحلَّق حوله أمازيغيو النظام، اشتط به اللسان عقب جرعات نبيد مكناسي زائدة، فتبجَّح أمام آذان متسقطة لهنات من هذا العيار النادر، بأنه فارس القلم الذي لا يُشق له غبار، ودليله أنه مَن كَتَب جل خُطب الملك محمد السادس، فكانت القاضية.. يشير القائلون بهذا التعليل الأخير أن أصابع ” ولد الرحامنة ” الهمة ليست بعيدة عن هذه الحبكة الدقيقة.
إنها دسائس البلاط الملكي كما ترون، وهي مثلها في ذلك مثل الصراعات الجسدية الشرسة التي كانت تجري في “كويليزيوم” حكام الرومان القدامى، تنتهي، كما تعلمون، ببقاء مُصارع واحد ينتصر على الجميع بقوة الساعد، ودهاء تجنب ضربات الخصوم ودقة تصويب هجماته عليهم، فهل نتجه إلى النتيجة عند انتهاء صولات علي الهمة في بلاط محمد السادس؟ أي على غرار ما كان عليه الأمر خلال حكم الملك الحسن الثاني، حيث ارتفع إدريس البصري إلى درى الحكم المخزني، مستحوذا على أسماع وذهن سيده، ليظل آمرا ناهيا، وصانعا لمسار المغرب متوغلا به في أعماق العبودية والاستعباد؟
يُؤكد المقربون من محمد السادس، وبينهم ذراعه اليُمنى في حكم المغرب، أي الهمة ذاته، أن تجربة إدريس البصري لن تتكرر أبدا، هل تُصدقون هذا الكلام؟ شخصيا لست بمصدق، والقرائن التي تفيد العكس موجودة في كثير من تفاصيل التدبير الأوليغارشي للحكم بالمغرب. وإليكم هذه القرينة القوية: لا صوت في المغرب، سواء كان صوت البرلمان أو الحكومة أو الأحزاب.. يعلو على صوت الكوكبة الضيقة جدا المحيطة بمحمد السادس، وأقواها صوت علي الهمة.. كوكبة تسير بمصير المغرب والمغاربة إلى حيث لا أحد يعلم. غير أن هناك عاملا غريبا ربما سيحد من طموح الهمة ” المصارع ” الداهية في بلاط محمد السادس، ويتمثل حسب إفادات عديدة – ورجاء لا تضحكوا – في تلك العلقات الساخنة من اللكم واللطم، التي يتلقاها من سيده كلما تجاوز الحدود المرسومة له، باعتباره أحد الرعايا الاستثنائيين المقربين جدا من الملك.
نعتقد أن رسما لبعض ملامح شخصية السيد فؤاد علي الهمة، ستكون مفيدة لاستكمال تضاريس هذا المقال الذي بين أيديكم.. قال بعض ممن جالسوا الرجل أنه شخص ” ذكي ومهذب، يستمع أكثر مما يتكلم ” كما قال عنه محمد الساسي نائب الكاتب الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد، مضيفا “إن لديه قدرة ملفتة على صياغة برنامج وخطط الدولة بشكل واضح ومركز”.
أما آخرون ممن عاشروا ذات الرجل لوقت أطول من تلك اللحظات الوجيزة التي ظفر بها الساسي وكانت وبالا عليه ( حيث تلقى سيل انتقادات لاذعة باعتباره سقط ثمرة سهلة في شباك المخزن الذي طالما انتقده ) فيقولون: ” الهمة لا يكشف أبدا عن نواياه من خلال صمته الثقيل، تاركا فحسب نظراته الثاقبة الماكرة، تغوص في ذوات المتهيبين الذين يبتسم لهم الحظ بمجالسته، من الوزراء والسياسيين والعسكريين… إلخ ” ومن القائلين بهذا نجد الصحافي المخضرم خالد الجامعي، الذي عمل إلى جانب الهمة لبضعة أشهر من بداية حكم محمد السادس، قبل أن يختلف معه ويتركه عائدا سيرته الأولى، أي كيل الانتقادات للمخزن بصيغته القديمة – الجديدة، يقول الجامعي عن الهمة: ” إنه وغد وغبي وعمله ينحصر في تطبيق أوامر سيده الملك “.
أما وثائق حديثة لجهاز الأمن السري الفرنسي، كشف عنها الصحافيان الفرنسيان “كاترين غراسيي ونيكولا بو ” قبل بضعة أشهر في كتابهما ” حين يصبح المغرب إسلاميا ” فتقول عن الهمة، من بين ما تقوله من دقائق: ” إنه شخص مكروه من قِبل العاملين في القصر إلى جانب الملك محمد السادس، وذلك لشراسته وقسوته ” و ” مدمن كحول، احتاج غير ما مرة إلى جلسات علاج في إحدى المصحات المتخصصة السويسرية”.
في حين قال عنه طريد القصر الملكي “هشام منداري” على عهد الملك الراحل الحسن الثاني لكاتب هذه السطور، على هامش حوار أجريته معه لجريدة “الصحيفة الأسبوعية” أواخر شهر يوليوز سنة 2004 (لم يُنشر في إبانه لأسباب احترازية من طرف مديرها أبو بكر الجامعي، ليتم نشره بعد مضي عام كامل، أي في شهر يوليوز من سنة 2005 على أعمدة نفس الجريدة ) قال هشام منداري جوابا عن سؤال طرحتُه عليه حول شخص ” الهمة ” : ” إنه رجل وضيع، كثيرا كما كان يأتيني، حينما كنت مسموع الكلمة في القصر الملكي بالرباط، ليطلب مني بادجات – تراخيص مرور – من الدرجة الأولى المُخولة للدخول إلى أبهاء القصر، وحينما كنت أسأله لماذا يريدها ولديه واحدة من الدرجة الثانية؟ كان يجيبني: حتى أتباهى به أمام الحسناوات”.
وزير الدولة القوي في الداخلية السابق إدريس البصري، المخلوع، الممروض الممعود، يقول عن الهمة الذي سبق أن اشتغل مرؤوسا له لبضع سنوات بوزارة الداخلية: ” إن اسمه الحمة وليس الهمة، ولتذهبوا للتأكد من ذلك في دفاتر الحالة المدنية ” مضيفا في حنق واضح: “راه غي بخوش مايقد على والو” (إنه مجرد حشرة عاجزة).
مهما يكن من أمر فإن الرجل – أي الهمة – يوجد اليوم في موقع حساس جدا إلى جانب ولي نعمته ورفيق دراسته منذ مرحلة اليفاعة، الملك محمد السادس، حيث يُصدر قرارات مُلزمة وراهنة لمستقبل مجتمع قوامه 35 مليون نسمة، من قبيل تصَدُّرِه للوفد المفاوض في قضية الصحراء الغربية أمام دهاة جبهة البوليساريو.
ولمُتسائل أن يتساءل: “كيف يوجد مصير كل هذه الملايين المُملينة من الناس بأيدي هذه الكوكبة الأوليغارشية الضيقة؟ ومُردفا بحنق واضح: “أين الأحزاب؟ أين المعارضة؟ أين البرلمان؟ أين الحكومة؟
لنقول له: على رسلك يا صاح ” راه لي زربو ماتوا ” (الذين تسرَّعوا ماتوا) – كما لا يمل بُسطاء المغرب من الترديد فيما بينهم – وإليك الجواب بالمختصر المفيد: الأحزاب مشغولة بتدبير أسباب الظفر ببضعة مقاعد في الانتخابات التشريعية القادمة.. أما المعارضة فيمارسها حزب العدالة والتنمية الإسلامي ” المعتدل ” بكثير من اللطف واللباقة.. والبرلمان يناقش بببغائية في قاعة فسيحة شبه فارغة، مشاريع القوانين التي تحيلها عليه الحكومة.. وهذه الأخيرة لها لقب تعريف شكل وماهية: ” حكومة صاحب الجلالة “… رُفِعت الأقلام وجفت الصحف.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط