في السادس عشر من كانون الأول الماضي، أقلعت طائرة من مستودع للأمم المتحدة في مقاطعة برينديزي الإيطالية لتحط في مطار رفيق الحريري الدولي في اليوم نفسه. الطائرة محمّلة بإمدادات إنسانية طارئة للنازحين السوريين إلى شمال لبنان جرّاء أحداث العنف في بلادهم. والمساعدات هي كناية عن وحدتين طبيتين قادرتين على معالجة عشرين ألف حالة مختلفة لمدة ثلاثة أشهر، إضافة إلى وحدة متخصصة بمعالجة الحروق الناجمة عن الحروب، ومولدات كهربائية وبطانيات ومستوعبات لتخزين المياه.
كاد الخبر أن يكون عادياً لو أن حيثياته لم تُحدث صدمة في بيئة قوى الثامن من آذار نتيجة شعورها أن ثمة خروقات سياسية ولوجستية وإدارية وأمنية تمرّ من تحت أقدامها، وهي التي تُشكّل الغطاء السياسي للحكومة وتُحتسب عليها.
ففي الحيثيات، أن رئيس المجلس الوطني السوري برهان غليون وجّه نداءً إلى الحكومة الإيطالية لمساعدة اللاجئين السوريين إلى لبنان، فاستجابت. وأوعز وزير الشؤون الخارجية الإيطالي جيوليو تيرتسي إلى الجهات المعنية الإيطالية بالتحضير لنقل الإمدادات المطلوبة. وجرى تنظيم الرحلة بدعم السفارة الإيطالية في بيروت والتنسيق الوثيق مع السلطات اللبنانية. فحطت الطائرة حاملة سبعة عشر طناً من المساعدات بقيمة مائة وخمسين ألف يورو في مطار رفيق الحريري الدولي، وكان على متنها اثنان من المسؤولين في الخارجية الإيطالية سلّما الشحنة إلى ممثلين عن الحكومة اللبنانية والمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة.
المهمة جرت من دون ضجيج إعلامي. وما أن أنجزت ونُقلت الإمدادات إلى الشمال، حتى تنامت معلومات عن الطائرة
إلى مسامع أحد حلفاء سوريا، من كبار الضباط السابقين، الذين كانوا أيام الحقبة السورية قبل اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، يعرفون كل شاردة وواردة تحصل على الأراضي اللبنانية. أخذ ذاك المسؤول الأمني يتقصى عن ماهية الطائرة ومصدرها وكيفية وصولها، ليكتشف عقب اتصالات مع زملائه الأمنيين الحاليين الموثوقين من الفريق السياسي الحاكم أن أحداً منهم أو من أجهزتهم لم يكن على إطلاع بما جرى. وليتبين، بعد التدقيق، أن مسألة إرسال المساعدات تمّت بموافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وأن قبوله تأمّن من زاوية الطرح الإنساني، فيما أياً من وزراء الثامن من آذار لم يكن في الصورة مطلقاً.
شكّلت تلك المعطيات مفاجأة لدى تلك القوى، التي كانت تعتبر أن مداخل البلاد الشرعية جواً وبحراً وبراً هي تحت السيطرة الأمنية المُحكمة لحزب الله وفريقه. ودارت تساؤلات أكثر حساسية في ضوء ما يعتبره هذا الفريق «خرقاً» حول ما الذي يمنع مستقبلاً من وصول أنواع أخرى من الإمدادات اللوجستية ذات الطابع الأمني أو حتى العسكري إلى شمال لبنان، والتي يمكن أن تُمرّر إلى المعارضين السوريين عبر الحدود المتداخلة بين البلدين؟!.
وفي جانب من المفاجأة – الصدمة أن المساعدات الإيطالية، التي أمّن رئيس الحكومة الغطاء السياسي لها، جاءت تلبية لطلب رئيس المجلس الوطني السوري، وكأنه إقرار ضمني به، وهو ما اعتبرته الأكثرية الحاكمة خرقاً سياسياً لا يُستهان به لحكومة تُشكّل الظهّير السياسي في حسابات النظام السوري.
هذة الواقعة دفعت بحلفاء سوريا إلى التنبه والحذر في التعامل مع كل ما يلامس ملف النازحين السوريين. فإلى الانزعاج من أداء ميقاتي وتفرّده في هذا الملف، جرى طرح الموضوع في مجلس الوزراء من زاوية رفض أي دور للمنظمات الدولية والأمم المتحدة، ولا سيما المفوضية العليا للاجئين، من بوابة أن النازح السوري لا تنطبق عليه قانوناً صفة اللاجئ التي تتطلب إقامة مخيمات لجوء على غرار المخيمات التي أنشأتها السلطات التركية. وتالياً التصدّي لأي محاولة للتساهل في إقامة ما يُشبه المخيمات أو التجمعات، وما يترتب على ذلك من عمليات إحصائية أو قوننة لواقعهم الاجتماعي، من دون إقفال الباب أمام تلقـي المساعدات، شرط أن تُقدّم إلى الحكومة اللبنانية التي تتصرّف بها عبر أطرها المؤسساتية كما تراه مناسباً.
الحذر لدى حلفاء سوريا ينطلق من توجّس بأن ما يجري في المناطق الحدودية الشمالية، ولا سيما في وادي خالد وبعض قرى عكار، هدفه تعبيد الطريق وتهيئة الظروف الملائمة لإقامة منطقة عازلة وفق الروزنامة الدولية إذا اقتضت الضرورة، خصوصاً أن ثمة قناعة باتت راسخة لدى أركان محور الممانعة، من إيران إلى الشيعية السياسية في العراق ولبنان وغيرها من دول الخليج، أن المنطقة دخلت مرحلة تتخطى حركة الاحتجاجات الشعبية إلى مواجهة على الأدوار والأحجام والاتجاهات السياسية. وما يجري في سوريا اليوم هو استخدام لساحتها في إطار الصراع الإقليمي، نفذ إليها مناهضو النظام بعدما فتحت الاحتجاجات الشعبية الباب واسعاً، فتغلغلوا في أرجاء البلاد، مستفيدين من احتضان دمشق، في العقود السابقة، لـ «القاعدة وأخواتها» لمحاربة الأميركيين في المنطقة، ما كشف ساحتها راهناً. أما الحديث عن «القاعدة» في لبنان، فمسألة أخرى!
rmowaffak@yahoo.com
كاتبة لبنانية
“اللواء”