يرى البعض أن هناك صحوة دينية كبرى فى مصر ويدلل على هذا ببعض المظاهر التى يلحظها بالفعل أى زائر لمصر هذه الأيام مثل الانتشار الواسع لارتداء الحجاب – وأحيانا النقاب- بين النساء والفتيات وحتى الأطفال وإطلاق اللحى وارتداء الساعة فى اليد اليمنى على مستوى الرجال ، بالإضافة إلي بعض مظاهر الدروشة الأخرى.
والحقيقة أن ماعدا هذه المظاهر فانك لا تلاحظ أى مظهر يدل على أنك فى مجتمع يشهد صحوة دينية من أي نوع ؛ إذ أن حالة التدين الحق لابد أن تنعكس على سلوكيات الناس في الأساس فغاية الدين لا يمكن أن تنحصر فى مظهر خارجى يبدو حسناً ولكنه يخفى مخبراً عفناَ .
إن غاية كل الأديان هي الرقى بالسلوك الإنساني وعدم الخوف من قول الحق والكرامة والاعتزاز بالذات ونبذ التدني والنفاق والتسيب ونشر المحبة والتسامح مع الآخر والاتساق مع الذات والأمانة في التعامل والتفاني في خدمة المجتمع والعمل على نهضته وتقدمه والأخذ بيد الضعيف ومراعاة مشاعر الآخرين وحب النظافة والنظام والالتزام … الخ.
والسؤال الحائر الذى أطرحه على الجميع بمنتهى الصدق هل يمكن أن يكون المجتمع ـ أى مجتمع ـ متديناً وأفراده يسلكون عكس كل ما ذكرت ؟
وهل يمكن أن يوصف مجتمع يقر كل أفراده بأنه يعيش أسوأ عصور الفساد والانحطاط في تاريخه بأنه مجتمع متدين ؟
ان مظاهر القبح والفوضى والقذارة والعشوائية والغش والاهمال والسرقة والمتاجرة باسم الدين واللامبالاة ـ وهى الأخطر ـ تطالعك في كل مكان في مصر هذه الأيام ولا يمكن الا لمنافق أو معتوه أن ينكرها ، فهل هذه هى سمات المجتمع المتدين ؟
والأكثر من هذا فاننا لو أمعنا النظر فى شكل الحجاب الذى ترتديه غالبية الفتيات لاكتشفنا على الفور أننا أزاء حالة تدين كاذبة. فما يسمى بحجاب الرأس يتبع الآن خطوطاً عديدة للموضة ووجوه الفتيات “المحجبات” مغطاة بكل أنواع مستحضرات التجميل والحواجب مرسومة بشكل شيطانى والعيون ملونة بعدسات لاصقة والشفاة منفوخة. والأدهى من هذا أن معظم الفتيات يرتدين أغطية الرأس هذه على بنطلونات جينز ضيقة وبلوزات أضيق . فهل هذا ياترى هو الحجاب الاسلامى ؟
لقد تم اختزال الحجاب فى كونه مجرد غطاء للرأس ، اما إبراز جمال الوجه ومفاتن الجسد بشكل سافر والتهتك فى الشوارع فإن كل هذا لا يمثل أى مشكلة عند هؤلاء الفتيات وعند شيوخ الأفك والنفاق . الم يرى هؤلاء مثلاً كيف يتسم غطاء رأس وملابس أى راهبة مسيحية ؟
ومن المفارقات العجيبة أنه عندما هاجم وزير الثقافة المصرى الحجاب منذ عدة أشهر تعرض لحملة ضارية على كل المستويات وخرجت الفتيات فى مظاهرات فى الشوارع وهن يحملن لافتات كتب عليها ” إلا حجابي ” ولسان حالهن يقول أفعل بى ما تشاء ولكن لا تمس حجابي ، يمكنك أن تسرقني وأن تنهب مقدرات وطني … الا حجابي ، يمكنك أن تمتهن كرامتي كإنسانة وأن أحيا فى ظروف لا تقبلها الحيوانات … إلا حجابي ، يمكنني أن أشرب مياه المجاري واللبن المسموم وأن يتسبب الاهمال فى مقتل أولادي وأن أشرد من بيتي وأنام في خرابه … الا حجابي ، يمكنك أن تغتصب أختي في قسم الشرطة وأن تعتقل زوجي وأبنائي لسنوات دون توجيه أى اتهام لهم بموجب قانون الطوارىء … الا حجابي ، ليس عندى مشكلة أن يعم الفساد والاستبداد وأن يورثنا رئيسنا المبارك الى أبنه العبقرى وأن نتحول من شعب إلى عبيد وأن نصبح أضحوكة العالم … الا حجابي ، فلنكن أكثر فقراً وأكثر تخلفاً وليذهب الوطن الى الجحيم … الا حجابي ، نعم إن كل هذه القضايا لا تستوجب الخروج فى مظاهرات ضد حكومتنا الفاسدة طالما أن الحجاب المشوه لبناتنا الساذجات بخير .
أننا نعيش أزمة معقدة فى مصر سببها لنا نظام حكم الرئيس مبارك على مدار ربع قرن تدهورت فيه كل المنظومات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فى مصر حتى أن الدين نفسه لم ينجو من هذه الأزمة فنجد هذا الخلط فى المفاهيم والبديهيات فى عقول الناس بشكل لا يبشر بأى خير . ومصيبتنا الكبرى أن معظمنا يعتقد أننا نعيش فعلاً حالة صحوة دينية لا يوجد لها أى أثر أو مقومات في الشارع المصري أو المدرسة أو الجامعة أو المستشفى أو أي مؤسسة حكومية ، فى أي مكان من هذه الأماكن ستلمس على الفور حجم ما وصلنا إليه من تدنى أخلاقي وتردى حضاري. ستجد الفساد والاهمال يمرحان ويلعبان بحرية وعلى مرأى من الجميع دون أن يشكو أحد من ادعياء الصحوة الدينية المزعومة .
أننا بحاجة الى صحوة من نوع آخر ، صحوة ضمير وصحوة صدق وصحوة وعي وصحوة عقلانية حتى ندرك حقيقة ما نحن مقبلين عليه من مزيد من التدهور الأخلاقى والتخلف الحضاري وانهيار البنيان المجتمعي .
لن نتمكن من اللحاق بركب الأمم المتقدمة مالم نتحرر من ضغط الفكر الديني المتخلف كما فعلت أوربا وغيرها. ولن نتمكن من إجراء أي إصلاح حقيقي طالما أننا نهتم فقط بتطوير البنية التحتية ونهمل عن عمد تطوير البنية الفوقية ألا وهى الإنسان والثقافة. وللأسف فقد تراجعت مصر كثيراً في كل مجالات البنية الفوقية منذ أن ابتلت بحكم الرئيس الحالي وهو رجل عسكرى أكاد أجزم أنه لم يقرأ كتاباً واحداً فى حياته ولم نعرف له إنجازاً سوى اصلاح شبكة المجاري. ولا تصدقوا ما يدعيه نظامه الفاسد من أن هناك تنمية إقتصادية حقيقية فى مصر هذه الأيام لسبب بسيط الا وهو أن كل التجارب التنموية الناجحة على مستوى العالم صاحبتها جهود حقيقية ومخلصة لتنمية الفرد ذاته بالإضافة إلي إعادة توزيع الدخل بما يضمن منح الفقراء نصيباً عادلاً من عوائد التنمية الاقتصادية وهذا عكس الحاصل فى مصر الآن حيث تدهورت كل الخدمات التعليمية والصحية بشكل مخيف وازدادت معدلات الفقر ومعاناة الفقراء بسبب إحتكار طبقة رجال الأعمال والمنافقين للثروة ولكل ثمار التنمية .
ولا عزاء لنا في صحوتنا الدينية الكاذبة.
mahmoudyoussef@hotmail.com
*مستشار اقتصادي مصري