كان القطب الشمالي وما زال عالمًا يكتنفه الغموض، وتحيط به الأسرار والأساطير، حيث للطبيعة أمزجة متقلبة ومظاهر غريبة. لكن الظاهرة الأغرب والأجمل هي ظاهرة نور الشمال أو الشفق القطبي، حيث تزامن ظهوره هذه السنة مع المناسبة الأبهج عند الشماليين، وهي مناسبة عودة الشمس. عودة الشمس ففي النصف الثاني من شهر كانون الثاني من كل عام، يحتفل الشماليون بعودة الشمس بعد غياب شهرين كاملين تغرق خلالهما المدن في ظلام متواصل لا يسمح ببزوغ الفجر، مع استمرار الحياة اليومية، بأشغالها وصخبها وأنشطتها، غير عابئة أومعنية بالظلام الذي تفرضه الطبيعة. وحدها عقارب الساعة تحدد موعد شروق الشمس وبدء الحياة، وتقرّر زمن العودة إلى البيوت.
إذن، فالمناسبة تستحق احتفال أهلها وتوجههم إلى الشمال، للمشاهدة والمشاركة في فرح عودة الشمس وتسجيل ظاهرة “الأورورا”.
وجهتنا كانت مدينة “ترومسو” كبرى مدن الشمال النرويجي، مدينة هادئة تستريح في أعلى القطب الشمالي، لكنها صاخبة وتضج بالحركة الثقافية والعلمية، كونها أكبر مركز للأرصاد الجوية. حملتنا الطائرة نحو شمال الشمال في رحلة طويلة، وحين غرقت الطائرة في عتمة فاحمة، رغم أننا في عز الظهيرة، أدركنا اننا دخلنا أجواء المدينة التي تستعد للمناسبة، وعرفنا أن المناسبة لن تفوتنا وذلك بسبب صعوبة تحديد زمن الظاهرة على وجه الدقة.
استعداداتنا كانت على أكمل وجه، الملابس الدافئة، الكاميرات على أنواعها، الديجيتال، الفيديو، اضافة إلى الكاميرا التلفزيونية مع المصور الخاص. كان الوقت نهاراً، لكن العتمة توحي بانتصاف الليل.الطرقات تغص بأناسها الذين بدو بأبهى حللهم. لا أضواء كهربائية بدت لنا ربما لعدم التشويش على مفاجأة الأضواء المنتظرة. في مركز الأرصاد الجوية، غصت الطاولات بشراب الشوكولا الساخن (الكاكاو) و”كعك الشمس”، وهو عبارة عن كعكة صغيرة مدورة ذهبية اللون ومحشوة بالكريما. اصطف الكعك كشموس صغيرة على الطاولات، فأدركنا أن الشراب والكعك هما من ضمن تقاليد هذا الاحتفال بهذه المناسبة. كان واضحاً لدينا من تسمية الكعكة وشكلها ولونها أنها ترمز للشمس وعرفنا انها تصنع خصيصا لهذا اليوم. لكن أسباب شرب الشوكولا أوضحها لنا أحد الحضور: في قديم الزمان كان جدودنا وأهلنا فقراء، وكان شراب الشوكولا باهظ الثمن ولا طاقة لهم على تناوله بشكل مستمر، فكانوا يدّخرون المال لشرائه في الأعياد والمناسبات العظيمة، وليس أعظم من مناسبة عودة الشمس. اليوم، ورغم تدني ثمن هذا الشراب، الا أنه أصبح طقساً من طقوس الإحتفال ونحن نحافظ عليه ونتوارثه. اشعال النار في العراء وسط طقوس مسرحية، هو جزء من الاحتفال، فقد انتظرنا وقوفا نشهد العرض في درجة حرارة كانت كافية لتجليدنا وتجعلنا غير قادرين على تمييز احاسيسنا. كانت العاصفة الثلجية قد أرسلت نذرها. أخبرني أحدهم ان العاصفة قادمة لا ريب، ونأمل رؤية الأورورا قبل وصولها.
كان تخميني ان البيوت والأبنية قد خلت من ساكنيها الذين ضاقت بهم الساحات والطرقات الواسعة. الرؤوس مرتفعة والعيون شاخصة نحو السماء. توزعت نظراتي بين السماء وبين هؤلاء الناس أرقب فضولهم وسلوكياتهم. بزغ فجر النهار وان كان خجولا بعض الشيء، تدافع الناس يتبادلون التهاني والقبلات بدون تمييز ولم أعد اعرف من اين تأتيني التحيات والقبلات، فدخلت في حمى المناسبة معهم. لحظات انتظار أخرى أعقبها ظهور ضوء أخضر وتلاه لون أزرق، وكأن السماء انشقت وألقت بغلائل ملونة شفافة تتراقص كما لو أن ريحاً تداعبها، تمدد النور طولاً وعرضاً: لم نستعمل أياً من الكاميرات التي تدججنا بها. لأن مركز الرصد الجوي حذرنا من ذلك وأخبرنا أن هذا الضوء يتلف كل أنواع الكاميرات ولا تستطيع أي كاميرا التقاط صور له. ابتسمت وقلت لمرافقنا: ربما معه حق في اخفاء جلاله ليحتفظ بمهابته. وكان علينا الحصول على الصور من مركز الرصد الجوي لامتلاكه الكاميرات الخاصة والقادرة على التقاط صور له. كما عرفنا من المركز ذاته بأن الضوء هو غلالة ضوئية تظهر في السماء بطول 100 كلم وعرض 10 كلم، تتماوج وتغير بين الحين والآخر ألوانها، ومن هنا جاءت تسميتها بالراقصات المرحات عند الأسكتلنديين. ومنذ ان عجز الانسان قديماً عن فهم ظاهرة هذا الضوء، فان خياله نسج الأساطير حولها، محاولا فهم طبيعة تلك الأرواح المتراقصة، او “الجماعات المتقاتلة” في السماء. فساد الاعتقاد عند البعض انها عذارى ترقص وتلوح. أما في عصر الفايكنغ، فقد أرجع فهم تلك الظاهرة، على أنها اشارات من عذارى أموات. الأسكيمو والغرين لاند وكندا، رأوا أن “الأورورا” هي عالم الأموات، وعندما تتغير الألوان بسرعة فهذا يعني أن الأموات يحاولون الاتصال بأقربائهم الأحياء. الأمريكان اعتقدوا بأنهم يستطيعون استحضار الأرواح والأشباح بالهمس إلى النور.
والرأي السائد على أي حال أن الله نفسه يضيء العتمة في ذلك المكان البارد من العالم. وفي الدنمارك، ساد الاعتقاد بأن حشدا من الاوز يطير نحوالشمال، حيث يصيبه البرد، وكلما رفرفت الأوزات بجناحيها ظهر ضوء “الأورورا”. اذا كانت “الأورورا”، تجتذب السياح اليوم فقد كانت في الماضي مصدر رعب للناس فيمكثون الأطفال داخل البيوت عند انتشارها في السماء، لاعتقادهم بأنها تقترب من الأرض وتقطع رؤوسهم، فهي روح حاقدة وتواقة للانتقام وهي مصدر تهديد لحياة الناس وصحتهم.
ومع اختلاف العقائد المتعلقة بها، كانت تلك الظاهرة مرتبطة بالدين، واعتبرت أنها رسالة من الخالق واشعاعها يعني أن الله ما زال مهتما بهم. وفي الحكايا الشمالية قالوا ان اشتعالها يعني أن الله غاضب، وهي نذير حرب أو كارثة أو وباء، واعتقدوا أنها كانت مصدر الكثير من الكوارث والحروب التي أصابتهم.
التفسير العلمي لهذه الظاهرة
كان هذا تطور المفهوم الشعبي ورؤيته لهذا الضوء، لكن للعلم تفسيراً آخر. الباحث بول بريكي مدير مركز الرصد الجوي يوضح التفسير العلمي فيقول… الضوء الشمالي مصدره الشمس، اذ من خلال انفجار في الشمس تتطاير كميات ضخمة من الجسيمات الشمسية في الفضاء فتشكل غيوما من البلازما، ترحل عبر الفضاء بسرعة تتراوح بين 300 و1000 كلم في الثانية. ورغم هذه السرعة الكبيرة، (أكثر من مليون كلم في الساعة) فإن هذه الغيوم تحتاج من يومين إلى ثلاثة أيام لتصل إلى كوكبنا وعندما تقترب من الأرض، يلتقطها الحقل المغناطيسي للأرض ويجذبها نحوها بواسطة قطبين مغناطيسيين أرضيين، الأول جنوبي والثاني شمالي. وفي أثناء نزولها باتجاه القطب المغناطيسي الأرضي، تعترضها طبقة الغلاف الجوي التي تشكل درعاً فعالاً ضد هذه الجسيمات القاتلة. وعند توقفها تصطدم بغاز الغلاف الجوي الموجود، فتكون الطاقة الناجمة عن التصادم بين الجسيمات الشمسية والغاز، حيث يقذف الغاز جزئيات ضوئية، ومن خلال العديد من التصادمات تحدث “الأورورا”، فتُرى وهي تتحرك في السماء.
حدّث أبو حسام وهوأحد المهاجرين العرب الذي سكن في شمال النرويج قال: “كنت ذات يوم أسير في الطريق، وأفكر بالقدر الذي حملني إلى هذه البلاد، وكانت السماء كما هي دوماً معتمة، وفجأة رأيت ضوءاً أخضر كبيراً ينتشر في السماء. شعرت ان السماء قد انشقت وأرسلت هذا الضوء المتراقص، الذي أخذ ينتشر بسرعة مغيراً ألوانه، اصطكت قدماي وايقنت أن “القيامة قد قامت” فأسرعت عدواً نحو البيت وأنا أقرأ الشهادتين”.
أحد الكتاب المشهورين هنا كتب عن هذا النور “لا يستطيع قلم ان يرسمه، ولا ريشة أن تلونه، ولا تستطيع الكلمات وصف فخامته ومهابته”.
albakir8@hotmail.com
* كاتبة فلسطينية من لبنان ومقيمة في النروج
“الأورورا” بالفيديو: