وحده الشغف يُوقِد فينا جمرة الإبداع، ويضعنا في بريق الدهشةِ، ومتعة المغامرة، ويمنحنا بهجة الحياة، ويُلهمنا جنون الفكرة، ويُلهبنا دفقة الحماس، ودفء المشاعر، إنه الشغف الذي يُفعمُ الإنسانَ بالرغبةِ في اقتراف فعل الحياة والجمال والتمرد والتحديق والمجازفة والتفكير، باشتهاءاتٍ خلاقة وروح وثّابة وحماس متجدد وتفكير خلاّب، إنه الشغف المنصهر في أعماق الإنسان بخليطٍ متجانس ومتناقض ربما من المشاعر والأحاسيس والعواطف والاندفاعات والتوثبات والأفكار والانطباعات والصور والتخيلات، تلك التي تشكّلُ نهراً من القوى الخفيّة والظاهرية أيضاً في أعماقهِ وفي توجساتهِ وانفعالاته وفي رغباته وإراداته، والتي تضعه عميقاً في اشراقات الشغف ليتدفق فيه اتجاهاً وحالةً نفسية وشعورية وذهنية وثقافية، تنزع نحو التجلّي والإبداع والابتكار والمجازفة والتمرد والجنون والتهور أيضاً..
وأن يَشغف الإنسانُ بشيءٍ أو بحالةٍ أو بطريقةٍ أو بفكرةٍ ما، ذلك يعني أنه قد ارتقى مستوىً من أعلى مستويات التعلّق بذلك الشيء، والفتنةِ به والانصهار والتداخل والتجاذب معه، وحتى التفلسف فيه خلقاً جديداً، فلا يمكن لكَ أن تكونَ شغوفاً بشيءٍ ما، من غير أن تسير به أو يسير بكَ إلى أعلى مستويات التعلّق به حباً وفتنةً وابتهاجاً وابداعاً وتألقاً، ولا يمكن أن نكونَ شغوفينَ بشيءٍ ما حدَّ الامتلاء به، من دون أن نكونَ مستمتعينَ به حدَّ الانتشاء، فالشغف حالةٌ وافرة من الاستمتاع بالأشياء التي نشغفُ بها، ونهيمَ بها شغفاً، هذا الاستمتاع يعني إننا على قيد الشغف، نتجلّى به تفنناً وابداعاً وتذوقاً، ويتجلّى بنا بهاءً وافتتاناً وترفاً، ونمارسه باستمتاع باذخ المزاجية، نتلمَّسُ فيه ومن خلالهِ وعن طريقهِ براعة التواصل الحميمي مع الحياة والأشياء في أعماقنا ومن حولنا..
وحينما يقلُّ منسوب الشغف بالأشياء التي مارسناها وتعلّقنا بها وتعلّقت بنا أيضاً، فذلك ربما يعني أن رغبتنا بتلك الأشياء قد أصابها الضمور والوهن، تلك الرغبة التي تتأرجح دائماً بين أن تكون متوهجة واستحواذية وطافحة بالتوثب والاشتهاء، وبين أن تكون في حالات أخرى واهنة وخاملة ومنطفئة، أنها الرغبة التي في كثير من الأحيان لا نعرف تحديداً كيف انبثقت وكيف تفجَّرت في أعماقنا تجاه ما رغبنا به، ولا نعرف أيضاً كيف ولماذا تخفتُ فينا فجأة، قد تكون الرغبة وليدة اللحظة البارقة ومعايشتها بكل الحماس والانفعال والتودد، أو قد تكون وليدة حاجةٍ ما أو حرمان ما، فالرغبة باحثة دائمة عن الارتواء والاشباع، وقد تكون وليدة الحماسة المفاجئة، وقد تكون وليدة الوعي والتصميم والإدراك، وقد تكون وليدة الانفعالات الشعورية العابرة، وقد تأتي الرغبة من اللاشيء أو تظهر في الإنسان وتكبر نتيجة الإرادة اللاعقلانية العمياء كما يقرر ذلك الفيلسوف شوبنهاور، وقد تنشأ الرغبة في مخاض التناقضات، وتبقى ملتبسة وغامضة في تكوينها وانطلاقتها واستمراريتها، ولم تتفق ربما الفلسفة الكلاسيكية على تفسيرها تحديداً..
وربما ليست الرغبة هيَ التي تكون قد ضمرت أو خمدت، بل الأشياء ذاتها هيَ التي قد اعتراها الصدأ أو التكرار أو الروتين وفقدت تالياً بريقها ولمعانها وجاذبيتها وحيويتها، ولكن في مطلق الأحوال يبقى الإنسان خارقاً في صناعة الأشياء التي تبعث فيه بهجة الشغف وتجعله على قيد الشغف مشتعلاً بالحياة والإبداع والأمل، وخارقاً في الوقت نفسه باستبدال الأشياءَ، بأشياءٍ أخرى كلّما شعر بحاجتهِ لتغييرها واستبدالها، إنه باحثٌ دائماً عن ذاته الشغوفة بالتجديد والتنوع والانطلاق والحركة والاشتعال..
وأن يتوهّج الشغف بالأشياء اشتعالاً في أعماق الإنسان وفي حواسه، فذلك ربما يعني أنه يريد أن يبقى على قيد الرغبةِ ملتذاً برغبته الفارهة تلك، ومستمتعاً بها إلى الدرجة التي أصبحَ يحلّق بها في مدارج الإبداع والتألق، فكلّما كانَ الإنسان شغوفاً بشيء ما، كانَ على نفس المقاس ربما ذاهباً برغبته سفوح اللذة والاشتهاء واللاحدود، ولذلك ربما حينما يتكاثف الشغف في الإنسان، فذلك يعني أن الرغبة في أعماقه تبقى مشتعلة بالتجدد والحيوية والتوهج، إنه الشغف الممتليء بالرغبة، ويزداد امتلاءً كلّما ازدادت الرغبة في الإنسان وكبرت..
وقد تكون الرغبة بالأشياء جمرة الاشتعال الأولى في حقول الشغف، وقد يكون الشغف بداية الرغبة اللامتناهية في الشعور، ولا أدري تحديداً هل تنشأ الرغبة في الإنسان أولاً، أم أنَّ الشغف يأتي أولاً، ولكني ربما أستطيع القول أنْ ليست هناك ثمة فواصل بين الشغف والرغبة، فهما متداخلان عميقاً ومتشابكان، ويستندان على بعضهما البعض في تعالق جمالي وحميمي، وينهلان توهجهما وتألقهما واشتعالهما من ينبوع واحد، ويستمران بالتدفق ربما في اتجاه واحد، ويزدادان فتنةً وابتهاجاً وتواصلاً ببعضهما البعض..
ربما الشغف يعني في أكثر معانيهِ تألقاً وتفرداً وتوهجاً وتدفقاً وحريةً، هوَ أن يتركَ الإنسان قلبه حراً، طليقاً، ويركض خلفه، وأن يلاحقه أيضاً مفعماً بحماس التودد للتسابق معه، وحين يتركَ الإنسان لقلبه الحر الطليق قيادة الشغف، ذلك ربما يعني أنه أصبحَ يطوي بقلبهِ الحر خطوات عمره شغوفاً، بما يفعله، وبما يريده، وبما يرغبُ فيه، وبما يتمنّاه أيضاً، فالقلب الحر، ربما هو استدعاء خفي للعقل الحر، يتماهى معه حريةً وعنفواناً وانطلاقاً وتفرداً أيضاً، ومَن يملكُ قلباً حراً، هو ذلك الذي يتركهُ طليقاً في مراتع الشغف، يحلّقُ جريئاً ومقداماً ومتمرداً في فسحات المدى البعيد، لا يهاب العثرات، ولا توقفهُ الهنّات، ولا يخضع لليأس، ولا يستسلم للضغوط والسائد، ولا يركن للوهن والتراجع، يركض بالشغف خلف قلبه الحر، مُبتكراً طريقته المتفردة في فلسفة الحياة، مبتكراً أسلوبه في صناعة الحب والجمال، ومبتكراً تفكيره متوهجاً بالجرأة والتحديق والحرية وشغف السؤال، ومبتكراً حتى حلمه الآجل، وتمنيّاته الحاضرة وربما اللاحقة أيضاً، إنه في سباق محموم مع قلبه الحر الطليق الراكض المترع بشغف الإلهام، الإلهام المتّقد بالحياة وحرية الحُلم وتجلّيات الإبداع التأملي..
وعندما نكون في غمرة الشغف متسربلينَ بعطاءاته الباذخة، تتبدى لنا التجلّيات ساطعةً ومُلهمةً أيضاً، إنها التجليات الشعورية والإبداعية والثقافية التي تمنح الشغف شغف التواصل معه بروح خلاقة وحماس متجدد، فحينما يكون الإنسان على قيد الشغف مشتعلاً بالشغف تظهرُ له التجليات بارقةً بإضاءةٍ جديدة، وفكرةٍ أخاذة، وأفق أرحب، وعمقٍ حقيقي، أليسَ ذلك الذي يشغفُ بفكرةٍ ما، ويبقى مشتغلاً عليها، مستسلماً لشغفه الأخّاذ، ستتبدى له في غمرة شغفهِ هذه، تجلياتٌ تأملية أكثر سطوعاً، وأكثرَ استنطاقاً، وأليسَ ذلك الشغوف بالحب يتجلّى في غمرةِ شغفه ذاكَ إبداعاً وتفنناً وتفانياً وجنوناً أيضاً، وأليسَ ذلك الذي يمارس إبداعه في شتى الفنون الإنسانية، تتبدى له التجليات الفنيّة الإبداعبة في غمرة إبداعه الشغوف بالشيء الذي يمارسه، فالشغف هو بمعنىً أكثرَ عمقاً وامتداداً يعني التجلّي، والتجلّي يعني أن الشغف أصبحَ قيد الاشتعال والتوهج والألق والإبداع..
وعندما نمارس الأشياء بمتعةٍ فائقة، وبلذةٍ فارهة، وبمزاج فاتن، وبإبداع خلاّب، فذلك ربما يعني أننا أصبحنا نمارس الأشياءَ ذاتها تلك، ولكن بألق الشغف وتوهجّه واشتعاله ومتعته البالغة، فالأشياء لا تغدو بالنسبة إلينا أشياءً ماتعة أو باذخة أو فاتنة أو باهرة أو قادحة بالإبداع، إلا حينما نهبُها رونق الشغف، فنمارسها بشغفٍ عميق، ونتجلّى بها إبداعاً، ونتعلّق بها حباً واخلاصاً، فليستَ الأشياء بحد ذاتها هيَ التي تمنحنا متعة التواصل الخلاق مع الحياة، بل الشغف الذي يمارس بها تلك الأشياء، وفي هذا المعنى تحديداً، يقول الروائي باولو كويهلو في روايته إحدى عشر دقيقة ( ليسَ الجنس أكبر متعةٍ، بل الشغف الذي يمارس به، حين يكون هذا الشغف من نوعيةٍ عالية، يأتي الجنس لاتمام الرقصة، لكنه ليسَ الشيء الجوهري أبداً ) ويحدث هكذا بالدرجةِ نفسها من الممارسة الشغوفة بباقي الأشياء، فمثلاً حين نمارس القراءة بشغف تفعيل الحضور الذاتي في فعل القراءة ذاتها، وبشغف محاورة الفكرةِ ودلالاتها، فإن القراءة حينئذ تصبح أكثر متعةً لنا، وأكثر تشويقاً، وتضعنا دائماً على دكة الاشتهاء المعرفي، وما يحدث مع القراءة، يحدثُ أيضاً مع الكتابة ذاتها ومع الموسيقى والرسم عندما تمارس بشغف باهر وعال، ويحدث كذلك مع مختلف الفنون والآداب والإبداعات الإنسانية الأخرى..
كاتب كويتي
tloo1996@hotmail.com