تشكل الشريعة الاسلامية في معظمها قواعد عقابية تؤدي دورا وظيفيا رادعا لمرتكب الجريمة. فلم يخلواي مجتمع ما من وضع ضوابطه وقواعده القانونية لضبط السلوك الاجتماعي داخله. ففي كل وطن وجدت القوانين ووجدت التشريعات. لكن ما يميز الحالة الاسلامية انها وصفت الشريعة بالقدسية وان تطبيقها، حتي ولو لم تكن محققة عدلا وضبطا للمجتمع، الا لانها ما ارتضاه رب هذه الجماعة التي ظهرت الي الوجود من قلب الجاهلية العربية. فمجرد ان يدخل الفرد الي حظيرة الاسلام الا وعليه تطبيق ما ارتضاه رب الجماعة وليس ما ابدعه هو بتوافق مع باقي اقرانه في مجتمعه. فالقانون او اي شريعة لاي مجتمع هي ما يلزم كعقاب بعد ان يرسي المجتمع ما يمكن تسميته “سوسيولوجيا الفضيلة”. لكننا نفتقد وجود هذا التاسيس السوسيولوجي في نواه المجتمع النبوي الاسلامي الاول الا بكونهم آمنوا غيبيا باله واحد أحد.
من الممكن ايضا اعتبار ان القانون والشريعة لاي مجتمع هو عملية تقنين للتنوير او تشريع للحالة التنويرية الجديدة علي سادت بين افراده بعد إعادة تصورهم عن انفسهم في وضع جديد مخالفا واكثر تطورا من وضعيتهم السابقة. فمن اجل بناء مجتمع انساني وسليم يفترض ان يتم عقلنة العالم والمجتمع قبل ان يتم وضع القانون الضابط لسلوكه. لهذا فان ايديولوجيا العقل هي التي اتت بالتنوير الفرنسي الذي تاسس عليه العقد الاجتماعي ومن ثم القانون الضابط لعلاقات افراده ارضاءا لما رضوا هم عنه بعد مخاض الثورة وولادتها وانتصار قيمها. ويتكرر المشهد في التنوير الامريكي الذي ارسي قواعد علم سياسة الحريات. وعليه جاء الدستور الامريكي كاعظم وثيقة تاريخية ترسي قواعد للقانون الذي يساوي بين اعضاء المجتمع الامريكي كافة وكان هو السبب الرئيسي لثورة لوثر كنج ومقتله في آن واحد. يبدو التناقض هنا واضحا والجدل ظاهرا لكنه ذات الجدل الذي اتي بـ “اوباما” حاليا رئيسا لاقوي دولة في العصر الحديث. أما بريطانيا بقيادة الجزء الانجليزي منها والمحافظ بطبيعته فقد رهنوا انفسهم لعلماء الاجتماع باعتبارهم فلاسفة اخلاقيين. ولان المجتمع الانجليزي محافظا فقد الزم نفسه بما هو قائم ولم يرتكب جريمة الثورة مثلما حدث علي الارض الامريكية او علي الارض الاوروبية في فرنسا وروسيا فيما بعد. وتعويضا لهم عن منهج الثورة ومنطق العقل فقد رهنوا انفسهم للمنهج التجريبي لاستخلاص القيم الخلقية وبالتالي القوانين التشريعية لضبط المجتمع. فالتجريب الذي اسس قواعده الفيلسوف الانجليزي “دافيد هيوم” هو النصف الاخر للعقلانية واتت منه قوانين ثابته تتفق ومدي ما يقول به الواقع المادي المستقر بالضرورة. لهذا تبدو المادية كصفة متنحية رغم فاعليتها بنشاط في المجتمع البريطاني بينما هي واضحة لا تخطئها عين في المجتمع الفرنسي والامريكي.
ولن نتطرق الي مجتمعات اخري اهمها الهند والصين لانها ارست لنفسها قوانين وضوابط خلقية وقانونية آتية من من واقع الحال وليس من مصادر قيل انها من وراء الطبيعة. تقول القصص الهندية والصينية ان “بوذا” خرج يوما فصدمته مظاهر البؤس الانساني مما دعاه للاعتزال والتدبر في امر الناس. فخرج عليهم قائلا ان عليهم الابتعاد عن خرافت ما وراء الطبيعة والالتفات الي واقع حياتهم باعتبار التجربة الانسانية المعاشة هي اساس الدين والاخلاق والقانون.
عند هذه الحكمة البوذية يمكن إعادة الحديث عن الشريعة الاسلامية حيث كان المجتمع الجاهلي قبل ظهور الاسلام مباشرة يعج بمظاهر عديدة كثيرة كلها تصب في خانة مطلب إعادة ترتيب البيت اجتماعيا. فعلاقاته كلها التي باتت قائمة علي التجارة وجمع الاتاوة لخدمة زوار مكة من اقصي الجنوب واقصي الشمال في رحلات التجارة ومعها علاقات عبيدية بين ملاك للثروة وفقراء معدمين . لم يكن هذا المجتمع خاليا من ايه قيم او قوانين لضبطه عقابيا او بالفضيلة والحكمة. لكن الجاهلية العربية بكل مفرداتها وقواعدها القانونية كانت هي الضامنة لبقائه واستمراره في تلك المرحلة.
أتي الاسلام بقواعد تبدوا جديدة حسب الدعاية الايمانية له، لكن في ضوء قواعد التاسيس الفرنسية والامريكية والانجليزية وعلي رأسهم اقوال بوذا فان التدقيق في الشريعة الاسلامية لن تخرج كثيرا عما ارتضاه عرب الجاهلية عن انفسهم. فالقانون او الشريعة، في التعريف العلمي لهما، هو مجموع توافقات المجتمع واتفاقاته حسب وضعيته كل في بيئته الخاصة والتي تلزمة بقواعد سلوكية معينة وبالتالي بقوانين عقابية تناسبها.
فالامثلة كثيرة فيما هو منقول من عرب الجاهلية الي عرب الاسلام ليس فقط لغويا وادبيا بل ايضا اجتماعيا وسلوكيا وقانونيا وبالتالي تشريعيا. فالجديد في الاسلام ليس ترتيبا جديدا لعلاقات العمل علي الارض او تبديلا للبيئة الطبيعية او تغيير البشر باناس جدد، إنما هو الغاء لبعض الالهه وتثبيت لاله واحد. هذا هو الجديد في الاسلام. وهو ذاته التحذير فيما اشاعه “بوذا” بين الناس في قومه منبها اياهم اليه. فالجاهليين هم انفسهم الاسلاميين وقتذاك، لم يات اليهم غازي اجنبي او محتل غاصب ليغير ما بهم. لهذا انتقلت بسهولة ويسر قوانين مثل قطع يد السارق واستحلال اموال المهزومين وتقسيم غنائم الحروب حسبما كانت توزع عند الجاهليين، وحيازة اكثر من امرأة في وقت واحد قد اقرت مثلما كانت قبل الاسلام بل اصبح من الممكن ان يصل عددهم الي مالانهاية بالتبديل تركا للقديمة واستجلابا للجديدة.
ففي حالة السرقة او الاعتداء علي الاملاك لم ياتي السجن او الحرمان من الحضور الاجتماعي كوسيلة وتقنين عقابي لها، علي سبيل المثال لا الحصر في قوانين الشريعة الاسلامية، لا لسبب الا لان قولة بوذا السابقة هي مفتاح لهذا اللغز. فالبيئة والبشر وعاداتهم وقواعدهم السلوكية ونظمهم الانتاجية التجارية مازالت علي حالها لم تتغير. فان يتناسي الناس هبل واللات والعزي وتستبدل الهتهم باله آخر واحد أحد، ليس كافيا لاعادة ترتيب المجتمع في وضعيته الاجتماعية حتي تظهر قواعد جديدة للسلوك وبالتالي قوانين جديدة للعقاب. فشروط العمل ومدي الحاجة الي اليد العاملة في مجتمع الجاهلية او مجتمع الاسلام ظلت علي حالها لهذا استجلبت نفس قواعد التعامل معها قانونيا في حالة السرقة من الجاهلية الي الاسلام. فمجتمع الندرة وكما اوضحنا في مقال سابق ومعه مجتمع له اساس رعوي قبلي متنقل فيما قبل الاستقرار بمكة او المدينة يجعل السجن شيئا مستحيلا بل ويصعب علي العقل تدبيره كوسيلة عقابية. فالجاني المحكوم عليه عقابيا يحتاج الي الطعام والكساء بل والي سجن وسجان بكل اعبائه الخدمية ايضا وهو ما يعجز مجتمع التنقل والترحال بكل ما فيه من ندرة طعام وكساء وامن من توفيرها. فما اسهل قطع اليد في هذه الحالة وخاصة ان الاحتياج لها للعمل ليست مما هو ضروري. هكذا ظل القانون العقابي متوارثا علي حاله من زمن الرعي والتنقل مرورا بفترة الاستقرار بمكة جاهليا وورثه الاسلام بعد ان اضفي عليه قداسة دينية. ولو تتبعنا الشريعة في كل قواعدها لوجدناها استمرارا لما قبلها لا لسبب سوي ان التغيرات الكبري والتحولات العظمي لم تتم في هذا المجتمع مثلما جرت في الامثلة الثلاث التي سبق وقدمنا لها في الحالات الامريكية والفرنسية والانجليزية.
ولو انتقلنا الي اللغة العربية الحاملة لكل ما هو اسلامي لوجدناها ايضا خاضعة لنفس معايير البيئة التي تفرض التنقل والرعي. وهو ما يشرح لنا لماذا ظلت الشفاهية قائمة لازمنة طويلة ولم يعرف هؤلاء الناس التدوين الا بعد ان استقر القائمين علي نشر الاسلام في امصار تعرف الاستقرار منذ الاف السنين في ارض العراق ومصر. فمنذ الترحل رعيا للاغنام وراء الكلأ والماء لم يكن ممكنا ان يحمل العربي مدوناته ولوحاته وجدارياته واحجاره معه (لو انه انجزها). كان البديل بالضرورؤة هي لغة مكثفة حتي ولو كانت مشوهه في قواعدها وصرفها ونحوها من اجل الاختزال الشديد لها بهدف حفظها في العقل حفاظا علي تراثه وتاريخه وانسابه. لهذا قيل فيما بعد ان الشعر هو ديوان العرب. فهو ليس ديوانا بالمعني الحضاري انما مجرد ذكراه التي امكنه الحفاظ عليها وتوريثها شفاهيا عبر الاجبال المتتالية. ولهذا انتقلت هذه القيمة الحضارية رغم بدائيتها ايضا الي ما بعد الاسلام مرورا بمجتمع الاستقرار المكي. فالعنعنة وقواعد استخلاص صحة الحديث هي قضية مرتبطة بالشفاهية العربية الماقبل جاهلية. بل ان جمع القرآن من الحفظة الشفاهيين تم علي نفس المنوال زمن عمر وعثمان. وهي ذاتها القضية التي سببت ارتباكا وخلافا ومشاكل لا حصر لها في مجتمعات كانت اكثر رقيا لمعرفتها التدوين بزمن اطول واكثر عمقا في التاريخ من زمن الجاهلية العربية.
الاسلاميون حاليا يطالبون بتطبيق الشريعة رغم استحالة تطبيق قيم ازمنة قديمة في ازمنه اخري حديثة تختلف جذريا عنها ولا يكفي اضفاء القداسة عليها حتي يسلم الناس بها. فعلاقات البشر حاليا حتي في نفس البيئة التي انجزت ما سمي يوما ما “شريعة اسلامية” باتت مختلفة، وتطبيقها هو مخالفة لسنن البشر المتغيرة والتي يحتاجون الي ما يتناسب وعصرهم اللهم الا بان يرتدوا الي عصور القبلية والرعي حتي تصبح الشريعة صالحة.
elbadry1944@gmail.com