هذه ليست “نكتة” ولا “قشبة” ولا “تحامل أو إفتراء أو شماتة”، بل هي “هوسة” يرددها بالفعل فلول من جيش المهدي من قواعدهم في محلة “الكاولية” في مدينة الديوانية. هذه المدينة التي تشهد قتالاً عنيفاً ومنذ أشهر بين هذا “الجيش اللغز” وبين القوات المسلحة العراقية. فقد دأبت هذه الفلول بترويع المدينة المسالمة بالقنابل بشتى أنواعها وماركاتها، وشلت الحياة فيها، وأثارت وما تزال تثير الرعب والفزع بين أطفالها ونسائها وشيوخها، وتجلب الموت لكل حي يدب على هذه الأرض الطيبة. تصر هذه الفلول على ممارسة عبثها المدمر رغم الفتاوى والدعوات التي يطلقها “قائد جيش المهدي” حول تجميد هذا الجيش غير القانوني ووقف أي نشاط مسلح له. وهنا نحن أمام لغز جديد قديم!! ماهية حقيقة هذا التجميد، هل هو إجراء حقيقي أم جزء من التورية أو “التقية” أوأكاذيب “شرعية”. وهل أن هناك بالفعل مظاهر عصيان داخل ما يسمى بالتيار الصدري وذراعه المسلح “جيش المهدي” العقائدي؟ ويبقى الجواب محيراً ولا ندري أين الصحيح وأين هو الخطأ، نظراً لممارسات مستمرة مضللة لهذه الفئة المثيرة للجدل منذ الإطاحة بالنظام الديكتاتوري في نيسان عام 2003 وحتى الآن.
لم يُسمع الكثير قبل سقوط النظام لا بالتيار الصدري ولا بتيارات مماثلة ظهرت على السطح وبواجهات دينية من شتى الألوان بعد أن زال ذلك النظام البائس. ربما تسربت قبلئذ بعض الأخبار إلى خارج البلاد عن نشاط المرحوم محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، والذي كان يتزعم مجموعة من رجال الدين تحت إسم “المرجعية الناطقة” التي تنافس “المرجعية الصامتة” المتهمة بـ”العجمية”.
ويبدو أن الصدر الأب كان يسعى إلى أن يتولى هو المرجعية لإعتبارات لا علاقة لها بالدين أو المذهب ولا بالكفاءة الفقهية. ولم يكن هذا النشاط بمعزل عن تحريك من قبل صدام حسين وألاعيبه وسعيه للتدخل في شؤون المؤسسات الدينية لأغراض سياسية. ولكن بعد أن تجاوز نشاط المرحوم محمد صادق الصدر الخطوط الحمراء التي وضعت له والتي لا يحددها إلاّ صدام نفسه، خطت الأجهزة الصدامية خطواتها المعتادة لتقوم بالغدر وبتصفية هذا الرجل تماماً كما قامت بتصفية الآلاف ممن كانوا على علاقة ووئام مع النظام سواء من داخله أم من خارجه. ولكن يبقى رحيل السيد محمد صادق الصدر والأيدي التي نفذت القتل لغزاً من كم هائل من الألغاز التي حملها صدام حسين إلى قبره، أو مازالت موجودة ضمن الأوراق والديسكات المحفوظة الآن في مكان ما، والتي تحكي عن الكثير من الحقائق الخطيرة وأسرار ذلك النظام. ولربما سيستيقظ البعض من حملة أسراره والذين مازالوا على قيد الحياة ويمتلكون الأرشيفات العامرة، وتتحرك ضمائرهم، ويكشفون الأسرار الرهيبة التي تبدأ من أعمال القتل إلى تشكيل منظمات سرية وإلى دس عملائها في جميع الحركات السياسية. إن هذا الملف الذي مازال ينتظر الكشف من قبل عملاء النظام وليس غيرهم، قد يساعدنا على حل لغز الكثير من الحركات المتسترة خاصة برداء ديني والتي نشأت بعد إنهيار النظام والكشف عن كم هائل من الحقائق. ولا يستثنى تيار مقتدى الصدر من ذلك بغض النظرعن الشعارات الطنانة التي يرفعها.
إن أول ممارسة لهذا التيار والتي يعرفها القاصي والداني من العراقيين هو السعي لتصفية من يظن أنه يزاحمه على السطو على العتبات المقدسة ومواردها في الظاهر. وهكذا جرى الغدر بالسيد عبد المجيد الخوئي وآخرين في الساعات الأولى التي أعقبت سقوط النظام.
ثم برزت ظاهرة “الحواسم” الذين نهبوا مؤسسات الدولة ومقرات السلطة السابقة وبغطاء “شرعي” من “سماحة” الصدر. ثم حوّلت هذه المغانم إلى مصادر ضخمة لتمويل هذا التيار ونشاطاته. وتولى هذا التيار السيطرة على العديد من المراكز الدينية ونشر الأجهزة القضائية الدينية المفتعلة بقوة التهديد والسلاح أو التصفيات الجسدية، وفرض نظام “طالباني” متخلف على الأماكن التي تم السيطرة عليها. ولكي يطمئن هذا التيار على المزيد من تراكم قدراته المالية، توجه إلى الخطف والخاوات والإبتزاز المالي الذي طال العراقيين بكل أديانهم ومذاهبهم. ولم يسلم من هذا الإبتزاز أي شبر من المحافظات الوسطى والجنوبية. ثم تتوج كل ذلك بإعلان تنظيمه العسكري بمسميات دينية مغرية “جيش المهدي”!!. القاعدة الإجتماعية لهذا التيار هي البرجوازية الرثة والقوى الهامشية الفوضوية في المجتمع التي زاد عددها بفعل الإنهيار الإقتصادي والثقافي في البلاد وسياسة النظام السابق، هذه الفئة الإجتماعية مستعدة للقيام بكل ما هو قبيح لقاء “ورقات خضراء” معدودات. وإستند هذا التيار إلى قوى مدربة عسكرياً وأمنياً، وغالبيتها من فلول النظام السابق، التي وجهت مرتزقتها نحو التسلل والعمل تحت عباءة مقتدى الصدر بعد إعلانهم التوبة المزيفة على يده، تماماً كما حدث لأطراف أخرى مماثلة. يروي أحد الأصدقاء الصحفيين من الذين زاروا النجف وإلتقوا الصدر بُعيد إنهيار النظام السابق، إن هذه المجموعة بخطابها وممارستها لابد أن تكون نسخة “طائفية” لفلول النظام السابق الذي له دور وضلع فيها، بما في ذلك وجود وشم النسر على أكتاف أنصاره، هذا الوشم الذي كان يوشمه أفراد فدائيي صدام على أكتافهم. وهذا يؤكد صحة الأخبار التي تسربت بُعيد إنهيار النظام عن توجيهات خاصة لبقايا الأجهزة السابقة توصي أفرادها بالإنخراط بهذا التيار والإستفادة من غطائه.
وما كان لهذا التيار أن يشق طريقه إلا بفعل مواقف إنتهازية لأطراف في الأحزاب الدينية الشيعية التي رأت في هذا التيار خير “هراوة” لإستخدامها في المنافسات بين التيارات الدينية نفسها، أو مع منافسين لها من خارج هذا “البيت”. إن إضطرابات النجف المعروفة عام 2004 وإسلوب معالجتها، حيث لم يتم محاسبة هذا التيار عن أفعاله وأغلقت الملفات القضائية ضده ولم ينزع السلاح عنه، بل بالحفاظ عليه وحتى دعمه، كرس ظاهرة خطيرة في الحياة السياسية. فقد جرى الرجوع من جديد إلى دولة اللاقانون والبلطجة السياسية التي مارسها النظام السابق. وألحق ذلك ضرراً فادحاً بالعملية السياسية الديمقراطية التي يطمح لها العراقيون. وبالنتيجة جرى ضم هذا التيار إلى القوائم الإنتخابية الطائفية، وللأسف بغطاء من المرجعية الدينية التي يناصبها هذا التيار العداء والسخرية. وشغل ممثلوا هذا التيار الأميون 30 مقعداً في أعلى سلطة تشريعية في البلاد، إضافة إلى إشغال عدد من المقاعد الوزراية. وتحولت هذه الوزارات إلى ميادين للعبث، وليس إلى مرافق لتقديم الخدمات للمواطن العراقي. والأنكى من كل هذا وذاك، مد هذا التيار يد العون المنظمات الإرهابية التي تسلطت على مدن محافظة الأنبار في ظل تبادل خطابات الود بذريعة مواجهة قوات الإحتلال، إلى أن أنهار هذا الود لاحقاً ليتحول الطرفان إلى قطبي العبث الدموي الطائفي الذي أودى بحياة الآلاف من العراقيين الأبرياء، وأحدثا شرخاً عميقاً في المجتمع. ومن اللافت هنا، أن أقطاب هذا التيار المتطرف لقي الحظوة من قبل حكام إيران وسوريا والأردن والسعودية، حيث إستقبل على أعلى المستويات، وراح أنصار له يتلقون التدريب عند حزب الله في لبنان أو على يد فيلق القدس في إيران، إضافة الى المساعدات اللوجستية بالذخيرة والسلاح.
لقد أضحى هذا التيار العبثي، إلى جانب تيارات مماثلة أخرى، خطراً جدياً على البلاد بكل المقاييس، بل وهو الخطر الرئيسي والعائق أمام إستقرار البلاد. ويطرق مثل هذا التيار الفوضوي، أو أطراف فيه، أبواباً غريبة غير معتادة ومتناقضة مع ما يحملونه من شعارات مغرية للفرد البسيط والمحروم. فهو لا يتورع عن إرتكاب المعاصي من أجل تحقيق أغراضه. ولابد أن نشير هنا إلى ما أورده الصحفي عبد المنعم الأعسم في مقالة أخيرة له عن الأحداث الجارية في مدينة الديوانية حيث يقول:” المسكوت عنه في هذه الدوامة التي تعيشها المدينة منذ اكثر من عام يتمثل في زراعة المخدرات في الحدود الادارية للمحافظة ، وطبعا، في الاموال التي تتدفق على اسياد الدوامة الامنية من هذه الزراعة المحرمة دوليا وصحيا واجتماعيا واخلاقيا، وغاليبة المنتفعين واوليائهم(من المؤكد) يعرفون الله وقبلة الصلاة والآيات القرآنية التي تردع المتاجرة بالحرام، وتفيد مصادري التي اثق بها، واتحمّل تبعة معلوماتها، فإن صحفيين معروفين لديَ حاولوا دس بصيرتهم وكاميراتهم في الخطوط الحمراء لزراعة الخشخاش(الحشيشة) في المحافظة لكنهم تقهقروا إذ تلقوا تهديدات بالقتل بوجوب التخلي عن المحاولة، ويقول اكثر من مواطن ان هذه الزراعة المحمية بأحزاب ومليشيات متنفذة تتمركز في الاراضي المروية جيدا في جنوب وغرب المدينة وعلى مشارف بلدات غماس والشامية والدغارة والشنافية”!!؟؟. وأياً كان هذا الفريق سواء من أتباعه الحاليين أو المنشقين عنه، فإن من يقوم بهذه الأفعال هو حصيلة تربية وممارسات دأب هذا التيار على إرتكابها، وقد يزيد أو “يطور” أو”يتفلسف” البعض منهم في هذا الأداء.
إذن المشكلة هي ليست في رفض البعض وجود قوات أجنبية على أراضينا ويسعى لإخراجها، وهي أمنية يسعى العراقيون إليها، بل هناك ما هو أدهى وراء رفع مثل هذه الشعارات زوراً من قبل أهل الفوضى والعبث والتكفير والأرهاب والتطرف.
وتؤكد هذه الأحداث وأحداث السنوات الخمس الماضية أن لا إستقرار في بلادنا إلا بحصر السلاح بيد الدولة وسحبه من الشارع ومن المجاميع الفوضوية والميليشيات بكل ألوانها. كما ينبغي أن تعود الحرمة للدين والتخلي عن المتاجرة السياسية به، فهي لعبة خطرة رأينا ما آلت إليه في بلادنا وفي بلدان أخرى. يجب التخلي عن الواجهات المذهبية في العمل السياسي وتسييس الدين الذي لا يجلب إلا الإحتقان والمواجهات الدموية وتقسيم المجتمع. ينبغي أن يحترم رجال الدين مهمتهم ويعودوا إلى ممارسة دورهم الروحي والوجداني، وأن لا يتحولوا إلى أداة في المضاربات السياسية فهي لا تتناسب مع رسالتهم الدينية، بل تتناقض معها، بل وتسئ إلى الدين وتنفّر الناس منه.
adelmhaba@yahoo.co.uk