من بطرس الأكبر وكاترين الثانية إلى ليونيد بريجنيف وفلاديمير بوتين، استمرّ اهتمام موسكو بشؤون الشرق البعيد والقريب. وبالطبع كانَ الحوض الشرقي للمتوسط ضمن المياه الدافئة التي ترنو إليها أنظار الروس التواقين للبقاء أو للعودة كقوة عالمية مؤثرة وفاعلة.
على ضفاف الخليج تزامن الانهيار السوفياتي مع عملية عاصفة الصحراء وتتماتها في 1990 – 1991، واليوم يسعى القيصر الجديد بوتين من خلال ثالوث السلطة الجيوسياسية والمال وثروة الغاز والنفط، إلى تأكيد التشبث بنفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط في سياق العودة إلى المسرح العالمي.
وكم كان ملفتاً في الأيام الأخيرة تزاحم الاحداث وتزامنها: تفاقم الوضع في سوريا، اضطرار سفن الاسطول الروسي لاستخدام مرفأ بيروت للتزود بالوقود (حصلت مناورات بحرية فرنسية – لبنانية كانت مبرمجة سابقاً، واستكشفت واشنطن شاطئ ضبية في حال اتخاذ قرار بإجلاء الرعايا الأميركيين)، الأزمة المالية في قبرص، ولأول مرة بدء يوم 31 آذار ضخّ إسرائيل الغاز الطبيعي المستخرج من حقل “تامار” في جرف البحر الأبيض المتوسط.
تبعاً لهذه المعطيات، بلورت موسكو سياسة تعتمد على أهمية الموقع الجغرافي ليس بالنسبة إلى العلاقة مع سوريا والقاعدة العسكرية في طرطوس فحسب، بل لارتباط النفوذ السياسي والعسكري وأمن طرق الطاقة ونتائج اكتشافات الغاز مع “المصالح المالية والاقتصادية البحثة لصقور الكرملين (مصطلح ملطف للمافيا الروسية)” حسب تعبير الدكتور خالد العزي.
ولهذا تكتسب المجابهة حول الملف السوري وفق منطق الحرب الباردة، أبعاداً إضافية لا تتصل بالنفوذ الاستراتيجي والاقتصادي فحسب، بل تتغطى بمسألة حماية الأقليات في وجه الخطر الإسلامي المتشدد تذكيراً بدور روسيا القيصرية منذ عهد كاترين الثانية في حماية الطائفة الأرثوذكسية، والذي كان يندرج ضمن الصراع الدولي على لبنان- الممر والمفترق في القرن التاسع عشر.
في لبنان المعاصر وقبل حروبه في منتصف السبعينات، اكتفى السوفيات بدور خجول إزاء النفوذ الغربي واكتفوا بحضور ثقافي وتجاري وبدعم الحزب الشيوعي واليسار، لكن المشكلة التي أثارتها محاولة خطف طائرة الميراج اللبنانية أواخر عهد الرئيس شارل حلو من قبل عملاء سوفياتيين مفترضين، كانت نقطة انطلاق أسهمت في إسقاط مرشح لصالح آخر في رئاسة الجمهورية عام 1970، وبعدها توازى وصول السفير الأميركي روبرت غودلي، الآتي من فيتنام إلى لبنان، مع وصول السفير السوفياتي المخضرم الكسندر سولداتوف وذلك عشية 13 نيسان 1975، وكأنه إعطاء إشارة لجعل لبنان أحد مسارح الحرب الباردة.
وكم يشبه الأمس القريب هذه الأيام، إذ إنّ حرب 1975 – 1976 أتت كمدخل لتسوية كامب ديفيد ولاصطفاف إقليمي مختلف، يأتي الدور الروسي الكبير في سوريا وحولها في مسعى لمنع اللاعب الأميركي من عقد صفقة انفرادية مع إيران ومن تغييب روسيا كما حصل سابقاً في العراق وحديثاً في ليبيا.
ويرتبط هذا القلق الروسي الاستراتيجي بمراقبة إنتاج وتسويق الغاز الطبيعي خصوصاً أن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أصبحت مرشحة لمزيد من المخاطر مع بدء ضخ الغاز الإسرائيلي والمسح الاستكشافي للغاز بالقرب من سواحل قبرص، مصر، إسرائيل، لبنان، سوريا، وتركيا، حيث توجد احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي.
بيدَ أن ذلك لا يعني روسيا مباشرة، إذ إنها تملك لوحدها نحو ربع إجمالي احتياطات الغاز المؤكدة في العالم (1680 تريليون قدم مكعبة، ويشكل إنتاجها 71 % من واردات الغاز لوسط وشرق أوروبا)، وسيكون الإنتاج في المستقبل في شرق البحر المتوسط هامشياً مقارنة بموقف روسيا المهيمن على السوق، وهي لا تتنافس مع إنتاج قطر على عكس ما يشاع. وعلى رغم ذلك تسعى شركة غازبروم الروسية التي تملكها الدولة إلى الحصول على حصة في تنمية هذه الموارد. ولهذا بعد نكستها الأولية في اسرائيل، تسعى إلى لعب دور توفيقي حول استثمار الغاز بين قبرص وشمال قبرص (استطراداً تركيا).
لكن التعقيدات زادت مع النكسة الأخيرة لموسكو في الجزيرة بوجه مجموعة منطقة اليورو التي فرضت ضرائب على الودائع الروسية (20 مليار يورو من أصل 35 ملياراً) وهكذا لم تعد الجزيرة ملاذاً ضريبياً آمناً لتبييض الأموال الروسية وتسللاً للنفوذ داخل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
إزاء وضع لبنان المضطرب وصلات تركيا وإسرائيل مع الغرب، يرتبط مستقبل الوجود الروسي بشكل نسبي بما سيسفر عنه الصراع في سوريا وحولها. ويبدو أن قرار إرسال تعزيزات روسية جديدة الى شرق المتوسط في أيار المقبل، والتنبه إلى أهمية مرفأ بيروت تعتبران من الخطوات الاحترازية.
تأمل البحرية الروسية الحفاظ على قاعدة الإمداد البحري ومحطة الصيانة في طرطوس، إلا أن موسكو بدأت تعمل على افتراضات عدة، والاحتمال الأرجح هو عدم الدفاع عن هذا المرفق عند انهيار نظام الأسد، بل السعي إلى استبداله في لبنان أو غيره، وربما تسعى روسيا إلى التعويض من خلال شراكات مع إسرائيل وقبرص في الغاز وقطاعات أخرى.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس
الجمهورية