مقدّمة:
تشهد مدينة سلمية، وسط سورية، شحنًا طائفيًّا شديدًا، يهدّد بانحدار المدينة إلى حافّة تصعيدٍ دمويٍّ يصعب تقدير مداه. وفي طيّات الأحداث، تطلُّ جملةٌ من المشكلات المعقّدة، والتي تهدّد بالانفجار، على الرغم من الكابح الذي يمثّله التطرّف الجهاديّ القابع على حدودها، والذي كان له دورٌ كبيرٌ في كتم الصراعات واستعصائها في المدينة ذات الأغلبيّة الإسماعيليّة.
وقد سبق لمركز دراسات الجمهوريّة الديموقراطيّة أن قدّم تقريرًا عن واقع الميليشا المسلّحة في مدينة سلمية()، وصراعها مع المجتمع، وعلاقتها مع سلطة الأسد، في تاريخ (1/أكتوبر /2015)؛ وما تشهده المدينة حاليًّا من احتقانٍ طائفيٍّ شديدٍ، هو امتدادٌ لحالاتٍ سابقةٍ مستمرّةٍ من المشكلات المجتمعيّة المتولّدة من فاعليّة الأجهزة الأمنيّة (ومنها الحالة الطائفيّة، والمافيويّة)، وفشل ما تبقّى من مؤسّسات الدولة المدنيّة (غير العسكريّة والأمنيّة) في دورها الخدميّ، وهو ما زاد الأمر تعقيدًا بعد أن أضيف لوطأة نفوذ ضبّاط الأجهزة الأمنيّة عليها، نفوذ زعامات الميليشيا المحليّة، التي مارست الفساد والاحتكار والخطف بشكلٍ علنيٍّ وفجٍّ، كما أمعنت في امتهانها لكرامات الأهالي وحرّيّاتهم عن طريق ممارساتها التعسفيّة (التشبيحيّة)، هذا ما زاد من منسوب الاحتقان لدى الأهالي ورشّح انفجارًا قريبًا، قد يكون ما حدث في الآونة الأخيرة مقدّمةً له. لذا فإنّ التحليل الذي سنقدّمه، هو امتدادٌ للتحليل الذي تمّ إنجازه في التقرير السابق.
المسألة المركزيّة التي ينحو التقرير لتتبّعها، هي زيادة الأخطار على حياة المدنيّين، من خلال تتبّع التفسّخ الذي يصيب شبكة القوّة المسلّحة التي أنشأها نظام الحكم الذي انهار أو يكاد، وتطوّرات نموّ شخصيّةٍ مستقلّةٍ، أو شبه مستقلّة، لمكوّنات هذه الشبكة، ما يوصلها في حالاتٍ موصوفةٍ إلى الاقتتال فيما بينها على مناطق النفوذ وموارد الثروة، وما يزيد من اعتداءاتها على المجتمع وتضرّره منها.
الأحداث الأخيرة
في عصر يوم (9/6/2016)، قتل ثلاثة أشخاصٍ من المدينة في مزارعهم التي تقع شمالها، هم “علي أمين السنكري”، “كنان أبو قاسم” و”عبد الجبار إبراهيم”، وأصيب عددٌ آخر بجروحٍ، من بينهم القاتل “وليم ديب”. وللوقوف على خلفيّة الحادث؛ فإنّ “علي السنكري” و”كنان أبو قاسم” من الطائفة الإسماعيليّة، أحدهما مدنيٌّ وهو “السنكري”، والآخر متطوّعٌ في ميليشيا “الدفاع الوطنيّ” أو ما يعرف بالشبيحة التي يقودها “آل سلامة”، إضافة إلى قيادتهم مجموعاتٍ أخرى مرتبطةً بهم في المنطقة. أمّا القاتل “وليم ديب” وأخوه “عيسى ديب” فهما من الطائفة العلويّة، ومن أصحاب النفوذ في الدفاع الوطنيّ أيضًا. والقتيل الثالث “عبد الجبار إبراهيم” وهو من الطائفة العلويّة، وتشير الأخبار إلى أنّه مدنيٌّ، وربّما قتل عن طريق الخطأ. وقد تضاربت الأنباء حول الأسباب المباشرة للنزاع الحاصل.
بعد وصول الجثث والجرحى إلى المشفى الوطنيّ في سلمية، قام أهالي القتيلين “علي السنكري” و”كنان أبو قاسم”، بقطع الطريق المحيط بالحيّ الذي يقطنونه، وهو قريبٌ من المشفى الوطنيّ، مطالبين بتسليم القاتل “وليم ديب” إليهم.
في هذه الأثناء قامت الميليشيا التابعة لـ”آل سلامة” (علويّين) بوضع الدشم والحواجز المزوّدة بالرشاشات – وهذا يحدث لأوّل مرّة– حول الحيّ الذي يقطنونه في المدينة، كون القاتل “وليم ديب” هو من عناصرهم المقرّبين، وتجمعهم به علاقة قربى.
ما حدث بعد ذلك ما زال يتكشّف تباعًا، وقد استطاع معدّو التقرير، عبر شهاداتٍ متقاطعةٍ، التأكّد من أنّ عناصرَ مسلّحةً من الطائفة الإسماعيليّة، من المتطوّعين في الدفاع الوطنيّ، انحازوا فعلًا إلى جانب أهالي الضحيّتين (“أبو قاسم” و”السنكري”)، وقاموا بإشعال دواليب السيارات، وإطلاق النار بشكلٍ كثيفٍ في الهواء، إضافةً إلى إجبار أصحاب المحلّات في شارع حماه (وهو شارعٌ رئيسٌ قريبٌ من الحيّ الذي شهد حالة الاحتجاج) على إغلاقها. وكانت المطالب تتمحور حول: تسليم القاتل “وليم ديب”، وإنهاء حالة “الفلتان الأمنيّ” في المدينة. مع العلم أنّ المطلب الثاني سبق للأهالي أن قدّموه مرارًا للسلطات ولكن لم يتمَّ تحقيقه، رغم وعود وزير الداخليّة، ومحافظ حماه، وقائد الشرطة في حماه، وهذا ما تطرّقنا له في تقريرنا السابق عن المدينة.
وفي صباح (10/6/2016) قام المحتجّون بفتح طريق السلمية – حماه لعدّة ساعاتٍ ثم أعادوا إغلاقه، حين شعروا بأنّ النظام لن يسلّم القاتل “وليم ديب”، وسوف يماطل في وعوده كما في كلِّ مرّة، وفق تعبير أحد الناشطين من المدينة.
إلا أنّ حادثًا آخر وقع، أدّى إلى دقِّ ناقوس الخطر؛ حيث أقدم مجهولون على قتل الشقيقين “لؤي حمدان” و”علاء حمدان”؛ وهما من عناصر الدفاع الوطنيّ (الشبيحة)، ولهما سمعةٌ سيّئةٌ جدًّا في المدينة، فهما متّهمان بعدّة عمليّات قتلٍ واختطافٍ وسرقةٍ، ويتبعان لـ”آل سلامة”. وسرت اتّهاماتٌ بأوساط القتيلين، بأنّ من ارتكب عمليّة القتل؛ إمّا هم من عائلة “أبو قاسم”، ولاسيّما أنّ القتل جرى في مكانٍ قريبٍ من الحيّ الذي يقطنه أغلبهم، أو من عائلة “السنكري”.
بعدها، قام النظام بقطع شبكة الإنترنت عن المدينة عند الساعة الرابعة عصرًا (10/6/2016)، ولا تزال الطرق داخل المدينة مقطوعةً جزئيًّا إلى لحظة إعداد هذا التقرير، مع تزايد الاحتقان.
وأكّدت مصادر من داخل المدينة، أنّ نحو (200) شابٍّ من الطائفة الإسماعيليّة ينتسبون بغالبيتهم إلى الدفاع الوطنيّ، قد توجّهوا من قراهم المحيطة بالمدينة إلى داخل المدينة، في حالة جاهزيّةٍ للقتال. أمّا “آل سلامة” فإنّهم حصّنوا بعناصرهم الحيَّ الذي يقطنونه (ضهر المغر) بمزيدٍ من الأسلحة. بينما سيّرت أجهزة الأمن (“الأمن السياسيّ” و”الأمن العسكريّ” و”المخابرات الجويّة”) دوريّاتٍ في المدينة لمحاولة منع التصادم بين الأطراف.
وأشارت مصادرُ موثوقةٌ من المدينة إلى أنّ مفاوضاتٍ بين الأطراف العديدة (من جهاتٍ أمنيّة، وعائليّة، وقياداتٍ من الميليشيات “الشبيحة”) بدأت في المجلس الإسماعيليّ في المدينة منذ صباح (10/6/2016)، واستمرّت لوقتٍ طويل، ولا توجد معلوماتٌ موثوقةٌ حول نتيجة هذه المفاوضات إلى الآن؛ في حين تضاربت الأنباء حول مصير كلٍّ من القاتلين “وليم ديب” و”عيسى ديب”، بين أن يكون الأوّل قد سلّم نفسه، أو قام بالفرار مع الثاني. وتشير بعض الأنباء المتسرّبة إلى أنّ “مصيب سلامة”، وهو الأبرز من “آل سلامة”، رفض القدوم إلى المفاوضات بسبب مقتل الشقيقين “علاء ولؤي حمدان”.
وقد أشاعت المفاوضات أجواءً من الأمل بعدم انحدار الصدامات للأسوأ، ما أدّى لعودة الحياة في الشوارع، وذهاب معظم أصحاب الأعمال لأعمالهم، في حين اقتصرت حالة التوتّر على الحيّ القريب من منزل “علي السنكري”. وفي نهاية يوم (10/6/2016) كانت الأنباء تشير إلى حصول هدوءٍ عامٍّ، مع تفاؤلٍ بإنهاء حالة الغليان والتمرّد، إلّا أنّ إشاعاتٍ غير مؤكّدةٍ عن مقتل “سمير الظريف” (الملقّب بسمير الجربوع) في صباح (11/6/2016)، وهو صهر “مصيب سلامة”، أعاد حالة الغليان والترقّب، على الرغم من أنّه مصاب بمرض السرطان، ومن تردّد شائعاتٍ تقول: إنّه توفي نتيجة المرض وليس قتلًا.
ومن آخر المعلومات التي وردت لمعدِّي هذا التقرير، أنّ جثّتي “علي السنكري” و”كنان أبو قاسم” (إسماعيليّ) قد تمّ دفنهما، في حين لم يتمّ فتح مجلس عزاء، وهو ما يعني – وفق التقاليد– أنّ أهالي القتيلين مازالوا يطالبون بالقصاص من القاتل وتنفيذ الحكم فيه. وفي الطرف المقابل، رفضت بدايةً عائلة القتيلين “لؤي وعلاء حمدان” (علويّ) استلام جثّتيهما في دلالةٍ على مطالبتهم بأخذ الثأر، وعادت ودفنتهما في وقتٍ متأخّرٍ من يوم (11/6) أو مبكّرٍ من صباح (12/6) بصمتٍ ومن دون جنازةٍ، ما يحمل معه الدلالة الثأريّة ذاتها.
انفجارات أهليّة تتقاطع مع صراع العناصر الميليشياويّة على النفوذ
نبدأ عرض هذا الملخص من الأحداث التي سبقت حادثة القتل (9/6)، ابتداءً من “حلِّ” آخر أزمةٍ عصفت بالمدينة، مع وعودٍ جديّةٍ قطعها مسؤولون كبار في النظام، بإنهاء حالة الفلتان الأمنيّ (للاطلاع يمكن مراجعة تقرير: الصراع في مدينة سلمية). وقد خلص التقرير المشار إليه إلى أنّ قبول المجتمع، ممثّلًا بالأهالي وناشطين مدنيّين، بالوعود المؤجّلة التي قدّمها النظام، وقبوله بإلغاء اعتصامٍ رمزيٍّ صامت، يعني خسارته الكبيرة أمام شبكة المافيا – الشبيحة المتشكّلة، ويعني أنّه سيمضي في قبول ما تسبّبه الميليشيات/ المافيا من أوضاعٍ متوتّرةٍ والانتهاكات التي تقوم بها. وهذا ما حدث، إذ لم تتوقّف انتهاكات المافيا –وإن خفّت في الفترة الأولى التي أعقبت وعود النظام– حتى وصلت إلى الحادثة الأخيرة. فما هي أبرز الأحداث التي قامت بها “المافيا” منذ ذلك الوقت إلى الآن؟
1- تاريخ (30/11/2015) مقتل “علي مخلص عيد” (إسماعيليّ) في جبهة حلب، وهو قائدٌ سابقٌ لميليشيا “صقور الصحراء” في مدينة “سلمية”، وله شعبيّةٌ واسعةٌ في وسط المؤيّدين للنظام في المدينة. وقبل مقتله حدث خلافٌ داخل “صقور الصحراء” أدّى إلى استقالته من قيادتها، وتبعًا لشهادة ناشطٍ من المدينة (لم يتسنَّ لنا التأكّد من دقّتها) أنّ “علي عيد” ومجموعةً من العناصر التابعين له (إسماعيليّين) حاولوا تأسيسَ تشكيلٍ عسكريّ لحماية مدينة”سلمية” من انتهاكات “الشبيحة” الآخرين، في إشارةٍ ضمنيّةٍ إلى “الشبيحة العلويّين”، وكان اسم هذا التشكيل قد تمّ طرحه على صفحةٍ مغفلة على موقع التواصل على شبكة الإنترنت “الفيس بوك” معنونة بـ “فدائيّون قادمون”. وبعد مقتل “علي عيد” سادت القناعة بأنّه ذهب ضحيّة صراع النفوذ بين أقطاب الميليشيا المسلّحة، وأنّ الحديث عن “فدائيّون قادمون”، والشهادة سابقة الذكر، كانا يتضمّنان فكرةً مركزيّةً صحيحة، وهي أنّ زعاماتٍ إسماعيليّةً مسلّحةً باتت تحاول الاستقلال بقوّةٍ عسكريّةٍ خاصّةٍ بها تحوز شرعيّةً طائفيّة، وتسيطر على أغلب المدينة بدعوى أنّ أغلبيّة القاطنين فيها من الطائفة الإسماعيليّة.
2- خلال الشهرين الأخيرين من عام (2015) جرت حملة اعتقالاتٍ ضدَّ عناصرَ أساسيّةٍ وقياداتٍ من الشبيحة، مثل “فراس سلامة” و”بهاء سلامة”. حينها راجت شائعةٌ أنّ النظام بصدد التخلّص من “قوّات الدفاع الوطنيّ” (الشبيحة) لصالح تشكيلٍ عسكريٍّ آخر، يكون ولاؤه روسيًّا، بدلًا من الولاء الإيرانيّ الذي يصبغ الدفاع الوطنيّ بسبب التمويل والتدريب الإيرانيّ في الدرجة الأولى. لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، إذ تمّ إطلاق سراح المعتقلين، بل قامت الأجهزة الأمنيّة بتسوية أوضاع (400) عنصرٍ من “الشبيحة” ممّن تواجههم اتهاماتٌ بالقتل والخطف والسرقة (تؤكّد مصادرنا أنّ ذلك لم يتمَّ دون حصول ضبّاطٍ من الأجهزة الأمنيّة على مبالغ وصلت إلى (250) مليون ليرة سورية) ومن بينهم “محمود عفيفة” (علويّ) وهو ذو سمعةٍ سيّئة جدًّا، ومتّهم بالتعذيب عن طريق إلقاء ضحاياه إلى ضبعٍ يحبسه في قفص، كما منحت الأجهزة الأمنيّة العناصر الذين تمّت تسوية وضعهم، بطاقاتٍ أمنيّةً خاصّةً بـ”الأمن العسكريّ” و”المخابرات الجويّة”، وذلك في شهر (12) من عام (2015).
3- في شهر (12) من عام (2015) وقعت عدّة حوادث خطفٍ في المدينة، حيث جرى اختطاف (3) أشخاصٍ منذ بداية هذا الشهر حتى منتصفه، ما كرّس فكرة انتصار “المافيا” على “الدولة” والمجتمع، وفشل المجتمع في ردعها، وفشل “الدولة” –بعد وعودها– في وضع حدٍّ لعمليّات الخطف والفلتان الأمنيّ.
علمًا أنّه حدثت عدّة عمليّات أو محاولات خطفٍ أخرى، طوال هذه الفترة حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
4- في تاريخ (17/2/2016)، قُتل “رامي عزو” (إسماعيليّ) بانفجار قنبلةٍ يدويّةٍ داخل المدينة، وشاع أنّ مجهولًا رمى القنبلة عليه ولاذ بالفرار. في حين يشير ناشطون من داخل المدينة، أنّ مقتل “عزو” كان تصفيةً ناتجة عن خلافاتٍ بين المافيات. أمّا سبب التصفية الدقيق فلا يزال مجهولًا، لكنَّ هناك أخبارًا تشير إلى أنّ تصفيته لها علاقةٌ بمقتل “علي عيد”.
5- في تاريخ (18/2/2016)، جرت حادثة طعنٍ داخل المدينة، استهدفت “كنان جمول” (إسماعيليّ) و”واثق القطريب” (إسماعيليّ) وذلك من قبل عناصر تابعين لـ”غزوان السلمونيّ” (علويّ – قائد شبيحة في قرية صبورة العلويّة في ريف سلمية). ويبدو أنّ الهدف هو مجرّد إثارة قلقلةٍ في المدينة، وربّما للتغطية على مقتل “رامي عزو” في اليوم السابق. وفي اليوم التالي (19/2/2016)، قام عناصر من المافيا بالهجوم على المشفى الوطنيّ في المدينة وإخراج الأشخاص الذين قاموا بطعن الشابّين، وهم من التابعين لـ”غزوان السلمونيّ”، ولم يتمّ إعادة اعتقالهم ثانية.
6- في تاريخ (27/2/2016)، انفجرت سيارةٌ مفخّخةٌ قرب “حاجز معمل البطاطا” شرق مدينة سلمية، وكان لهذا الحادث دلالةٌ وأهميّة خاصّتان:
إذ قُتل في التفجير ثلاثة عناصر مسلّحةٍ (إسماعيليّين)، وتمّ توجيه الاتّهام من قبل عناصر هذا الحاجز إلى مجموعة “غزوان السلمونيّ” بتدبير التفجير؛ ذلك أنّ السيارة المفخّخة قد عبرت حاجزًا يسيطر عليه علويّون، قبل وصولها إلى هذا الحاجز الذي يسيطر عليه إسماعيليّون، وأنّها قدمت من قرية صبورة حيث يقيم “غزوان السلمونيّ”.
وبعدها راجت شائعاتٌ أنّ الشبيحة الإسماعيليّين سوف يقومون بتنفيذ اغتيالاتٍ بحقِّ شبيحةٍ علويّين، ولاسيّما “آل سلامة”.
7- في اليوم التالي (28/2/2016)، تمَّ اغتيال “محمد خبازي” (إسماعيليّ)، وهو قائد قطاع صبورة للدفاع الوطنيّ، ويتبع لـ”غزوان السلمونيّ” ويعدُّ المسؤول المباشر عن إطلاق سراح العديد من مرتكبي الأعمال الإجراميّة.
8- في اليوم ذاته (28/2/2016)، وصلت جثامين (6) قتلى علويّين إلى مشفى مدينة سلمية، ضمن تكتّمٍ إعلاميٍّ شديد.
9- في تاريخ (1/3/2016)، صدر قرارٌ بإزالة الحواجز عن الطرق المحيطة بالمدينة، ممّا حدا بـ (150) عنصرًا من عناصر الدفاع الوطنيّ بتسليم سلاحهم احتجاجًا على هذا القرار؛ لأنّ رواتبهم لا تكفيهم، وهم بحاجةٍ إلى الرشاوى التي يتقاضونها من خلال سيطرتهم على هذه الحواجز، وفي اليوم التالي تمّت إعادة الحواجز.
10- في تاريخ (26/5/2016)، تمَّ إلقاء قنبلةٍ على سيارة “خالد جبر” (إسماعيليّ)، وهو عقيدٌ متقاعدٌ يعمل في اللواء (47) الذي تسيطر عليه قوّاتٌ إيرانيّة.
يمكننا أن نلحظ تطوّر الخلافات بين زعامات الميليشيا، المتحوّلين لمافيات، وقيامهم بعمليّات تصفيةٍ ضدّ بعضهم.
أمّا الوضع المعيشيّ في المدينة، فيمكن تلخيصه بضغوطٍ معيشيّةٍ شديدة، منها قلّة الأعمال، وقطع الكهرباء والمياه لفتراتٍ طويلةٍ جدًّا، واضطرار الأهالي لشراء المياه بمبالغَ كبيرةٍ. كلُّ هذا في سياقٍ يكرّس لاقتصاد الحرب()، ما يجعل المدنيّين على يقين بأنّ قادة الميليشيات “الشبيحة” يعتاشون على زيادة الأعباء عليهم، ومن ذلك ما يشاع عن أنّ هذه المافيات هي من يقوم بقطع المياه والكهرباء عمدًا.
الحركة الذاتيّة للمافيا
اعتمد النظام السوريّ منذ انطلاق الثورة في (2011) على تكوين تشكيلاتٍ مسلّحةٍ غير نظاميّةٍ تابعةٍ له من المهمّشين في المجتمع، عبر إغرائهم بالمال والسطوة، بغية قمع جميع أشكال الاحتجاج في المجتمع. فلم يكن دور هؤلاء في البداية الوقوف بوجه أيّ تنظيمٍ معارضٍ مسلّح؛ فالنظام أنشأ هذه التشكيلات (الدفاع الوطنيّ – الشبيحة) في الوقت الذي لم يكن هناك تهديدٌ فعليٌّ من قبل معارضةٍ مسلّحة، وحين كان الجيش والأجهزة الأمنيّة لا يزالان بكامل قوّتهما. ما يظهر أنّ الهدف من تأسيس ميليشيا الدفاع الوطنيّ “الشبيحة” كان هو قمع المجتمع المحليّ، واختراقه عبر بعض أبنائه، وتوريطه في صراعاتٍ بينيّة، وأخرى مع محيطه القريب عبر حالات اعتداءٍ على النازحين من مدينة حماه المجاورة، ولاحقًا أضيف لها مهمّة توريط المدينة في عداءٍ مع محيطها البعيد (حين تمَّ استخدام هذه الميليشيات في معارك في محيط السلمية، وصولًا إلى العديد من المناطق في سوريا).
فعناصر “الشبيحة” ( كما هو الحال غالبًا في كلِّ سوريا) هم من الطبقة المهمّشة الفقيرة غير المتعلّمة، وهؤلاء سيكونون أدواتٍ سهلةً بيد النظام الأمنيّ، على صعيد العنف، والولاء، كما يتميّزون بقربهم من المجتمعات المحليّة؛ فهم “متطوّعون” من هذه المجتمعات بدعوى “الدفاع عنها من تهديدٍ محتملٍ”، ومن “المؤامرات”، وما شابه…
وهكذا يكون النظام قد شكّل طبقةً أمنيّةً أضافها لطبقة الأجهزة الأمنيّة الأربعة الأساسيّة والرسميّة: المخابرات الجويّة، الأمن العسكريّ، الأمن السياسيّ، أمن الدولة (المخابرات العامّة)، وتحتلُّ –وظيفيًّا– المكان بين المجتمع وبين الأجهزة الأمنيّة، هي “الشبيحة”.
ومع تقادم الصراع، ولأسبابٍ عديدة()، بدأت تتحوّل زعامات ميليشيات “الشبيحة” إلى “مافيات”، بعضها مكوّنٌ بشكلٍ رئيسٍ من عائلات (أبرز هؤلاء “آل سلامة”)، فحازت المزيد من الاستقلاليّة الذاتيّة عن كلٍّ من الدولة/النظام وعن المجتمع، وبدأت تظهر خلافاتٌ فيما بينها.
وقد بدت علامات الاستقلاليّة سابقة الذكر من خلال عجز أجهزة الأمن في الكثير من الأحيان عن ضبطها، لتظهر احتجاجاتٌ من قبل المجتمع في مدينة سلمية ضدّها، فكان “المجتمع” ينادي بعودة سيطرة “الدولة” القانونيّة على المدينة بدلًا من المافيا. إذًا، انفصلت طبقة الشبيحة – الدفاع الوطنيّ بذاتها، لتصبح فاعلًا أساسيًّا في تحديد طبيعة علاقتها بالدولة وبالمجتمع.
وكأيّ عصابة مافيا، بدأت تتشكّل خلافاتٌ مستمرّةٌ بين مكوّنات هذه العصابات المختلفة، لتأخذ شكل تنافسٍ بينها على مناطق النفوذ، كالسيطرة على حواجزَ معيّنةٍ، وغيرها من الأمور المتعلّقة بالربح والفائدة الماليّة الإجراميّة في الدرجة الأولى؛ وهو الصراع الذي أخذ شكلًا طائفيًّا إسماعيليًّا – علويًّا بتزايد.
وضمن هذا الصراع تولّدت قناعةٌ في أوساط عناصر “الشبيحة” الإسماعيليّين، بأنّهم يحتلّون مرتبةً ثانية، وأنّهم خاضعون لنظرائهم العلويّين، في مدينة ينتمون فيها للأغلبيّة الطائفيّة؛ كذلك بدأ ينمو لدى هؤلاء شعورٌ بأنّهم باتوا معزولين عن مجتمعهم، إضافة إلى التوتّر بينهم وبين “العلويّين” الأقوياء، ولاسيّما بعد الاحتجاجات التي قامت في المجتمع ضدّ “منتهكي القانون”.
الاحتقان الحاليّ وآفاقه
إنّ سرعة انخراط عناصر الميليشيا الإسماعيليّين في ردّة الفعل الاجتماعيّة التي نتجت عن عمليّة القتل الأخيرة، ودفعهم للحركة الاحتجاجيّة في منحًى طائفيٍّ عنفيٍّ، يجعل من سلطة الأسد، ممثّلة بأجهزته الأمنيّة، حَكَمًا بين متخاصمين، وليس الجهة المسؤولة فعليًّا عن الحالة الراهنة وما نتج عنها من جرائم، بعد اختزال الصراع من كونه صراع مجتمعٍ مع طبقة مافيا وظيفتها الأساسية حماية هذه السلطة، إلى محض صراعٍ بين زعاماتٍ مافيويّة علويّة وآخرى إسماعيليّة. وفي حين عملت الزعامات المافيويّة العلويّة على تدعيم “شرعيّتها” من امتدادها في المجتمع العلويّ، وهو أقليّةٌ في مدينة سلمية وقراها، ودعم وجودها من قدرتها الماليّة؛ تسعى زعاماتٌ مسلّحةٌ إسماعيليّة إلى اكتساب شرعيّتها من خلال تجيير الاحتقان المستعصي للمجتمع في مدينة سلمية، ودعم قدرتها على البقاء من خلال مواردها الماليّة غير الشرعيّة. لكن الفرق الهامّ بين الفئتين: أنّ الأولى كانت الأم للثانية، سابقة التشكيل عليها، ومؤسّستها الفعليّة، والتي تملك القوّة الأكبر. أمّا الثانية فهي ضعيفة التشكّل، منبوذةٌ من مجتمعها الذي مارست القمع ضدّ أبنائه.
لذلك يمكن القول: إنّ الثانية استغلّت جريمة القتل التي حصلت، لتحقيق مكسبين:
الأوّل: انتزاع تمثيل المجتمع السلمونيّ، من خلال ادعاء دعمه بالقوّة المسلّحة في تحقيق “العدالة” والقصاص من القتلة.
الثاني: تصفية حساباتها مع الزعامات المافيويّة العلويّة، لتحسين مواقعها في التركيبة المافيويّة المهيمنة على المدينة.
وإذ ينوء مجتمع المدينة تحت ضغطٍ مركّب، فمن جهةٍ هناك المافيات والميليشيا التي تسيطر عليها، وأجهزة المخابرات، ومن جهةٍ أخرى هناك الخطر الجهاديّ التكفيريّ الذي يتحرّك على بعد عدّة كيلومترات عن المدينة (ففي تاريخ 11/6 حدث هجومٌ لداعش على غابة تل التوت التي تبعد عن سلمية أقلّ من 10 كم)، يصعب على هذا المجتمع أن يشكّل قوّةً مدنيّةً وطنيّةً قادرةً على طرح برنامجٍ مطلبيٍّ يناقض السياق الطائفيّ العنفيّ الذي يهيمن، مع غياب أيّة مساحةٍ حرّةٍ لعمل المجتمع المدنيّ ومنظّماته، إضافة إلى أنّ التشكيلات المدنيّة الديمقراطيّة التي نشأت في بداية الثورة استنزفت نتيجة القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنيّة والمسلّحون التابعون لها.
خلاصة
أمام هذا الواقع المرير، لا يجد الكثيرون من ناشطي المدينة في منفاهم، وقد جرى الاتّصال مع العديد منهم، من إمكانيّةٍ لحماية المدينة دون تدخّلٍ دوليٍّ. الأمر الذي يؤكّد كيف أنّ إستراتيجيّة سلطة الأسد لمواجهة الثورة()، أنهت أحاديّة تسلّط نظام الحكم الذي ثارت أغلبيّة السوريّين ضدّه، وأوجدت ظروفًا لم يعد بإمكانها السيطرة عليها، في الوقت الذي جرّدت المجتمع من قدرته على خلق آليّات حمايةٍ مدنيّة، ما جعل المجتمع الدوليّ هو الأمل الوحيد لكثيرين من أجل وقف عمليّة الانحدار والتفكّك الدمويّ، والقيام بخطوات قانونيّة تنهي إمكانيّة الإفلات من العقاب لردع الاعتداء على المدنيين، وحماية المجتمع المدنيّ وإجبار السلطات على السماح له بضبط الأوضاع، وهو ما يشترط حلّ الميليشيات العسكريّة داخل المدينة، ومنعها من التدخّل بأعمال ما تبقّى من مؤسّسات الدولة (غير العسكرية والأمنية) لتقوم الأخيرة بتقديم خدماتها. وهو ما لا يوجد مؤشّرٌ على إمكانيّةٍ له في ظلِّ صراع الدول الكبرى على سوريا، وأولويّاتها التي لا يبدو أنّ حماية المدنيّين من ضمنها.
– يمكن العودة لكتاب “استراتيجية سلطة الاستبداد لمواجهة الثورة”، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، http://goo.gl/ggyWRL
إعداد: يوسف فخر الدين، غريب ميرزا، طارق عزيزة، همام الخطيب، خالد سالم
مراجعة: أنور البني
رئيس المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات الجمهورية الديمقراطية