لعل من بديهيات الكون والحياة البشرية سنن التغير والتطور والتحول، ويشمل ذلك الأديان والنظم الروحية، إذ يشير التراث الديني إلى تعاقب مئات إن لم يكن آلاف الأنبياء على هداية البشرية، كان آخرهم النبي العربي محمد ابن عبد الله (ص) في القرن السادس الميلادي، ويمكن القول إن كافة الأنبياء كانت لديهم نظم وقوانين وتعاليم متباينة نسبيا، وفقا للمستوى الحضاري للأمم التي تحركت فيها رسالاتهم، وعندما تفقد هذه القوانين قدرتها على إدارة الحياة البشرية فان الناس تضل عنها، وتضع لنفسها أنظمة جديدة، إلا إنها توضع عادة وفقا لمصالح الطبقات الحاكمة، لتحرم من فوائدها الشرائح الضعيفة كالنساء والعبيد والعمال والفلاحين والكسبه، لتتعرض في نهاية الأمر للاضطهاد والتهميش والحرمان، ما حتم ضرورة إرسال أنبياء جدد يحملون رسالات جديدة، ليكون في مقدمة أنصارها وأتباعها أبناء هذه الفئات، سعيا منهم نحو التحرر والانعتاق من هيمنة الطبقات الحاكمة والاستفادة من الثروات وإصلاح الأنظمة المركزية وجعلها أكثر عدالة وإنصافا وشمولية لكافة مكونات المجتمع.
ويعد دين النبي محمد (ص) آخر الأديان التوحيدية إلى جانب اليهودية والمسيحية، وقد انقسم الإسلام كسابقيه إلى مذاهب وفرق، بلغت أكثر من 100 فرقة، انقرض معظمها في هذا العصر، إلا أنها جميعا إلا ما شد ونذر كانت على ثوابت الإسلام كدين سماوي، هذه الثوابت تنقسم إلى قسمين، ثوابت عقائدية كالإيمان بالله ونبوة محمد (ص) والإيمان بالقران والأنبياء والعقاب والثواب والحياة بعد الموت.. الخ..، وثوابت أخلاقية وقيمية كالصدق والرحمة والبر والتعاون، والالتزام بأداء الفرائض الروحية كالصلاة والصيام والحج والزكاة..الخ… مع اختلاف المذاهب في قوانينها المنظمة، إلا إن هذه الثوابت تعتبر قليلة ومحدودة في نهاية الأمر، ومعظمها من المشتركات مع الأديان السماوية والأرضية الأخرى، إذا ما قيست بحجم الاختلافات الواسعة من كافة النواحي ما بين الفرق الإسلامية، في مقدمتها اختلافها في نظم الاستنباط واستخراج الأحكام والقوانين الشرعية، وتفسير التعاليم من النصوص المقدسة وشبه المقدسة ( القران والسنة) وهو ما يعرف بالفقه، أي علم استنباط الأحكام الشرعية، فأحكام الدين الثابتة وهي ما يعرف بأحكام الشريعة والتي هي الأحكام القطعية والتي تشكل مدخلا وأساسا لاعتناق الإسلام كدين، بحيث لا يمكن تصوره مجردا منها، كتحريم الزنا والسرقة والقتل وشرب المسكرات واكل لحم الخنزير، أما أحكام الفقه فهي الأحكام الاصطناعية التي نشأت وفقا لظروف وعوامل مختلفة ومتنوعة زمانا ومكانا، وهي خاضعة للتبدل والتحول والنظر والنقد والفحص والتمحيص، لأنها ناتجة عن علم الفقه، الذي هو صناعة بشرية، يخضع لما يعتري العلوم الأخرى من تطور وانتكاسة، ويصيبه ما يصيب صانعه من تقدم وتخلف، ويتأثر إيجابا وسلبا ببيئته البشرية والنظم الحضارية الأساسية التي يتحرك من خلالها.
وفي هذا العصر انفتحت المجتمعات الدينية – بشكل عام- على بعضها واطلع أتباع المذاهب الإسلامية – تحديدا – على نظم بعضهم الفقهية والعقائدية والثقافية والفلكلورية، وتجاورت بشكل تلقائي الثقافات والأفكار والآراء، بسبب سيادة تقنيات العولمة والقرية العالمية، فانكشف بشكل مباشر وجلي ما تعانيه المجتمعات الدينية المنغلقة من سلبيات وإرهاصات ومعضلات، خاصة مع التحول الدولي السريع نحو اقتصاد المعرفة، وعدم قدرة الاقتصاديات القطرية التقليدية المعتمدة على مصادر دخل تقليدية- كالنفط- على المحافظة على التنظيمات الاجتماعية القائمة على الانغلاق وتشكيل بيئات اصطناعية منفصلة عن العالم الخارجي، فظهر بشكل واضح عدم قدرة الفكر الديني السائد فيها على إدارة دفة الأمور، وبروز المشاكل الكبرى في نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والتي بدأت تنخر فيها ببط شديد، فتشكلت نتيجة لذلك تيارات فكرية وثقافية واجتماعية جديدة، اصطدمت مع التيار الديني التقليدي، وعمدت إلى كسر هالته التقديسية وتابوهاته المحصنة.
كافة هذه العوامل ساعدت في نهاية الأمر على نشوء تيار ديني جديد داخل التيارات الدينية التقليدية، منها المذهب السلفي المعروف في بعض الأوساط بالمذهب الوهابي، نسبة لمؤسسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي عاش قبل 200 عام تقريبا، فالوهابية ظهرت تحديدا في القرن الثامن عشر الميلادي، في ظل انهيار شامل للحضارة العربية، وتخلف هائل في الفكر الإسلامي والنظام الاجتماعي العربي، وتراجع حاد في العلوم والمعارف الإسلامية، وفي ظل انهيار قيم التسامح والتعدد والتنوع التي كانت سائدة نسبيا في عصور الازدهار العربي ( في الحقب العباسية والأندلسية)، علاوة على البيئة المتخلفة للجزيرة العربية بشكل عام، لا سيما في المناطق الوسطى التي ظلت مهملة من قبل الدول المتعاقبة، حيث لم تشهد أي تنمية إنسانية وحضارية يعتد بها منذ قرون، لبعدها عن العواصم والحواضر الكبرى، ولعدم تمتعها بأية أهمية اقتصادية وسياسية، بعكس مدن الحجاز ومصر والعراق وبعض مدن الساحلين الشرقي والغربي لشبه جزيرة العرب.
لقد كان لهذه الأوضاع اثر محوري وصميمي في تشكيل السمات الأساسية للتيار السلفي النجدي، الذي تميز بعدم قدرته على تقبل الآخر والتفاعل الايجابي مع منتجات العصر الذي يعيش فيه، ما أذى إلى حمله نظرة اقصائية للواقع بكل معطياته وإفرازاته، ومناداته بالعودة إلى عصر صدر الإسلام ممارسة وأيدلوجية ونظما، أي إسقاط الماضي بحذافيره على الحاضر بكل ما يحتوي من تعقيدات واختلافات وتباينات مع الماضي.
على هذه النظم الفقهية والعقائدية قامت الوهابية كمذهب ديني ومشروع إصلاحي انتشر في الجزيرة العربية وبعض بقاع العالم العربي والإسلامي، وكان لنشاطه الديني أبعاد تجاوزت العالم العربي إلى الدول الغربية، وخاضت مؤسساته وقواه الفاعلة مواجهات حامية الوطيس مع أندادها من المذاهب الأخرى والتيارات الأيدلوجية الفكرية والفلسفية والسياسية.
وقد ظلت السلفية كتيار مذهبي مركزي سائد ومؤثر في المجتمعات التي تحكمها حتى نهاية القرن العشرين، حيث ظهرت وسائل الاتصالات المتطورة التي كسرت نظم الانغلاق والعزلة الذاتية التي فرضتها المجتمعات الدينية على نفسها، ومنها المجتمعات السلفية، وكان من أعظم نتائجها ظهور تيارات دينية جديدة في أوساطها، حيث بدا تيار سلفي جديد – إن صح التعبير- بالتشكل والتكون، أهم ما يميزه عن التيار التقليدي السائد هو تفسيره المغاير للنصوص، مبني على ثقافته المتشبعة بروح العصر والانفتاح عليه، فالإنسان ابن بيئته كما يقولون، والسلفيون الجدد انفتحوا على الواقع وعلى خلفياته الفكرية والثقافية والسياسية ولمسوا يقينا ايجابياته وقارنوها بشكل تلقائي بأنماط ونظم مجتمعاتهم وحجم الإشكاليات التي تعانيها جراء تمسكها المستميت بها، الأمر الذي دفعهم إلى الإدلاء بآراء دينية مغايرة تماما للفكر الديني السائد في أوساطهم الدينية والمذهبية، وهذا أمر طبيعي، فالسلفيون الأوائل نشئوا في بيئة منغلقة ومعزولة فكانت أرائهم متأثرة بها وناتجة عنها، أما السلفيون الجدد فقد كانت آرائهم نتيجة لانفتاحهم على العالم الخارجي وانهيار جدران بيئتهم الاصطناعية، ويأتي جهرهم بآراء مختلفة عن أراء مؤسساتهم الفقهية التقليدية لكون الفقه في نهاية الأمر علم بشري يتأثر بالبيئة ومعطيات العصر الذي يتحرك في دهاليزه.
أحمد الغامدي
من ابرز السلفيين السعوديين الشيخ احمد الغامدي (رئيس هيئة أمر مكة المكرمة) الذي لا يرى حرمة للنشاط الاجتماعي المشترك ما بين الرجال والنساء، يقول:” أنا على قناعة بان الاختلاط ليس من منهيات التشريع مطلقا وما نشرته خلاصة دراسة حديثية مستفيضة تجاوزت المائتي صفحة استغرقت مني قرابة ستة أشهر جمعا وتخريجا وتحقيقا ودراسة ثم ظلت حبيسة أدراجي لأكثر من عامين، وما أفصحت عنه منها الآن سبق أن أفصحت عن جزء يسير في عام 1429هـ.”
ويرى عدم وجوب صلاة الجماعة وإغلاق المتاجر وقت الصلاة، “إن هناك فرق بين إقامة صلاة الجماعة في الناس وبين إقامة الناس في صلاة الجماعة، فإقامة الجماعة في الناس فرض من الفروض على ولي الأمر ولتحقيق ذلك تبنى المساجد ويرفع الأذان، ويحث الناس عليها أما إقامة الناس في صلاة الجماعة فمسألة اجتهادية اختلف العلماء في حكمها.
ويقول في نقده لظواهر التشدد والتطرف والغلو التي يعاني منها المجتمع السعودي “أن التشدد والغلو قد ولدا الكثير من الخلل في مجتمعنا، وأثرا فيه أثرا بالغ الخطورة، حين غلف هؤلاء المتشددون عقول بعض أفراد المجتمع عن التفكير والتأمل والفهم الصحيح، واستخدموهم أداة ضاغطة لتحقيق أجندتهم، باعتبار ذلك المناخ المناسب والآلة التي يمكن أن يوظفها المتشددون وبعض ذوي التوجهات والانتماءات الفكرية والحزبية المنحرفة في مجتمعنا لصالح أجندتهم”
وفي الجانب العقائدي تبرز آراء وأفكار ومعتقدات الشيخ حسن بن فرحان المالكي، احد خريجي المدرسة المذهبية النجدية، يقول في كتابه ((نظرة في كتب العقائد)): ” والخلاصة هنا: أن ما ننشره في كتب العقائد من تكفير وذم مبالغ فيه للجهمية والقدرية والشيعة والمعتزلة كان إتباعا منا للسياسة الأموية دون علم فنحن ورثنا خصومات علماء الشام مع هؤلاء ووصفهم لهم بالكفر والزندقة والمجوسية والحكم عليهم بالنار و0…00 تماماً مثلما حكمنا على أبي حنيفة تقليداً لبعض العلماء، فتلك الفرق والطوائف كانت في الجملة طوائف إسلامية تدعو للكتاب والسنة وتنادي برفع الظلم ونشر العدالة، هذه كلمة أبتغي بها وجه الله وقد سبقني لها كل من قرأ بإنصاف عن هذه الطوائف كما فعل القاسمي وعطوان وغيرهما.
ويقول في لقاء تلفزيوني “أول ما صدر كتابي ( قراءة في كتب العقائد.. المذهب الحنبلي نموذجاً) كمذكرة، طلب مني وزير من الوزراء بعدما تفاجأ لماذا أنقد المذهب الحنبلي في العقيدة، فكان جوابي أن الإمام أحمد (رحمه الله) مع فضله هو تحت الكتاب والسنة وليس فوق الكتاب والسنة، وهكذا جميع المذاهب، فكان مستغرباً كيف أنت سني وتنقد الإمام أحمد؟ طبعاً، المشكلة أنه لا يوجد فهم للسنة.. وإذا كنت سنياً يجب أن تقدم السنة على أقوال الرجال هذه لا يفهم البعض، البعض يفهم من السنة إما أن تتبع فلاناً، إذا كنت حنبلياً فاتبع أحمد في جميع ما قاله، هذه منطقة افتراق فلذلك أنا ذكرت وأكدت على أني سني لأن هناك شبهة.
كل من نقد الإمام أحمد أو المذهب الحنبلي في مسألة أو ابن تيمية أو الشيخ محمد يصنف مباشرةً على أنه في فرقة أخرى، إما شيعي وإما صوفي وإما أشعري، وهذا غير صحيح. وأيضاً كوني من الجنوب هناك شبهة عند الزيدية الذين كان لهم تواجد وأنا أحترم الزيدية وأحترم الصوفية وأحترم الشيعة، لكن ليس بالضرورة أنه عندما تحترم الشافعية أن تكون شافعياً أو تحترم الزبدية أن تكون زيدياً، فلذلك عندما أؤكد هذا، أنا من المدرسة نفسها لكني لا أحاول وأنا أدين للمدرسة بهذا التعليم وبأشياء كثيرة وأنا تعلمت على أيدي علماء كثر داخل المملكة، لكن ليس معنى هذا التعلم أن تتبعهم وتقلدهم في جميع ما يقولون وأن نصبح متقوقعين فقط.”
وفي نقده للفكر الديني السلفي القائم على الضدية وتزكية الذات “رسائلنا الجامعية في المملكة كلها ضد الآخر، ضد الشيعة، ضد الخوارج، ضد القدرية، ضد الجهنية، ضد المرجئة.. ليس هنالك رسالة واحدة في نقد الذات، ونحن أولى، خاصةً ونحن نجد داخل التراث الكبير من أيام الإمام أحمد، إلى أيام الشيخ محمد وهذه المدارس الثلاث: أحمد، ابن تيمية، الشيخ محمد، هناك ملحوظات كثيرة يجب أن نكون منصفين ونبدأ بنقدها بدل التركيز على الآخر، كل بلاء في الآخر ونحن بريئون.”
أحمد بن باز
وفي الجانب الفكري يبرز الشيخ احمد بن عبد العزيز بن باز، نجل مفتي عام المملكة السابق، حيث يؤيد قيادة المرأة السعودية لوسائل المواصلات، بالرغم من فتوى والده بتحريمها: “أن قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة هي قضية حقوقية بالدرجة الأولى، والحديث فيها ينطلق من حقوق الإنسان التي أعطاه إياها الإسلام كحق التملك وحرية التنقل، وأن قيادة المرأة للسيارة من مبادئ الحرية الأصلية غير المكتسبة، والتي تقوم أيضا على أصل الإباحة والبراءة الأصلية فيما لا نص فيه، مبينا أن قيادة المرأة للسيارة حق وليس أولوية، لأن الأولوية قد تكون ترفا باختلاف الناس وقدراتهم وعاداتهم الاجتماعية.”
ويؤكد على حتمية إيجاد نظام متوازن ما بين الموروث والحداثة:” ليس كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ، ولا أدري لماذا نرى عيباً في التجديد إذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:(يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها) فالثوابت قليلة ويجب أن تحترم ولكن المتغيرات كثيرة واستنباط الأحكام المناسبة للعصر هو التجديد. ”
وينتقد التقليد في الفقه ويصف آراء الفقهاء بأنها ليست سوى اجتهادات بشرية، على الفقهاء المعاصرون أن لا يعدوها من مسلمات الشريعة الإسلامية: “المشكلة أننا محكومون بتفسيرات لبعض النصوص ما هي إلا اجتهادات بشرية لزمن غير زماننا، وإذا لم نخرج من إسار التقليد فإننا سوف نقع فيما عابه الله على أهل الكتاب من عبادتهم لأحبارهم ورهبانهم.”
ويعتقد بان للمرأة حقوقا مساوية للرجل في المجتمع الإسلامي: “الرسول عليه الصلاة والسلام قال:(النساء شقائق الرجال) أي إن المرأة والرجل متساويان في الحقوق كونهما مخلوقين مكرمين من الله وكذلك متساويان في الواجبات بحكم عبوديتهما لله، وهذه قاعدة عامة، والاستثناءات نادرة وليست إلا بقصد أن يكمل كل منهما مهمة الآخر في الأسرة، لا أن يصبح كل الرجال قوامين على كل النساء.”
ويضيف: كل منا له مواهبه وإمكانياته فلماذا نعطل إمكانيات نصف المجتمع؟ على فكرة أعجبني الشيخ محمد الدحيم الذي طالب في برنامج إضاءات أن تكون المرأة عضوه بهيئة كبار العلماء، وقرأت لرئيس تحرير “الوطن” جمال خاشقجي أن الشيخ عبد العزيز بن باز سئل عن رأيه بكون بناظير بوتو رئيسة لوزراء باكستان فسكت، وهذه سعاد صالح شيخة أزهرية تفتي بأن الولاية العامة حق للمرأة مثلها مثل الرجل وسبقها إلى ذلك الشيخ محمد الغزالي وغيره.”
ويقول أيضا:” المرأة حاضرة في كل المجتمعات ونحن ما زلنا نعتبرها عيبا وعورة؛ وما زلنا ننظر إلى اللقاء بين الرجل والمرأة حتى لو كان جادا كأنه الغول الذي سوف يلتهمنا جميعاً، مع أن المرأة لو حضرت لخفّفت هذه القسوة والبشاعة التي نعيشها، فما قيمة العالم كله بدون امرأة؟
ويؤيد فتوى الشيخ الغامدي في جواز الاختلاط: “نعم أؤيده لأن تحريم الاختلاط ليس له أصل في الشرع كما قال الشيخ الغامدي، والخلوة المحرمة هي التي تتم في مكان ويمكن أن يمارس بها نكاح”.
ما كانت السلفية في ذلك استثناء وإنما هي حلقة من حلقات مسلسل السنن الطبيعة في التنظيم البشري، فكافة الأديان والمذاهب الدينية والسياسية والحركات الإصلاحية بشكل عام تضم بين أجنحتها تيارات تجديدية، ففي المسيحية ظهرت البروتستانتية في مقابل الكاثلوكية، وفي اليهودية برزت حركة ” النيولوج” الإصلاحية في مقابل اليهودية الاورثوذوكسية، وفي المذهب الشيعي ثمة تيار إصلاحي كذلك، من أشهر رموزه المرحوم السيد محمد حسين فضل الله، والمعاصر الشيخ يوسف الصانعي، ومن أهم مفكريه الدكتور علي شريعتي، والمعاصرين الشيخ احمد القبانجي والسيد علي الأمين والأستاذ احمد الكاتب، وغيرهم من رجال الدين والمفكرين الذين حملوا على عاتقهم العمل على إنتاج تيار ديني شيعي أكثر مدنية وانسجاما مع المذاهب السنية الأربعة وغيرها من مذاهب الملة الإسلامية والأديان والأيدلوجيات البشرية المتنوعة.
كما شهدت الساحة الإسلامية منذ القدم بشكل عام ظهور العديد من الحركات التجديدية كإخوان الصفا، التي سعت إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، وابن رشد وصراعه مع التيار التقليدي الذي كان يمثله الإمام محمد بن حامد الغزالي، وحركتي الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم الكثير.
إن الصراع يؤيد إلى التصادم، والتصادم يؤدي إلى التغيير والتنوير، وهذا ما حدث ويحدث في كافة التنظيمات الإنسانية، وفي مقدمتها النظم الدينية ومن ضمنها الحركة السلفية المعاصرة، بيد إن التيار السلفي الجديد لا يتحرك خارج روح النص ومسلمات الديانة الإسلامية، ولكنه ينطلق من خلال ثقافته المعاصرة بما تحتويه من قواعد شرعية ومفاهيم دينية واضحة الأركان والمباني، تمكن بكل سهولة من إسقاطها على واقعه الراهن، بغية إيجاد قاعدة أيدلوجية ونظم اجتماعية تقوم على المصالحة ما بين الدين والحرية والتراث والحداثة، من أهمها عدم وجود نصوص قطعية للكثير من المحظورات، وإنما بني التحريم بناء على مسبقات ذهنية وأعراف اجتماعية تقوم على الاحتمال والظن، فقام بتوظيف ذات المعايير والقواعد الفقهية، فبنا معيار الإجازة والإباحة على قاعدة المصلحة وعدم مخالفة الثوابت، وإرجاع التقدير في الحرمة والإباحة في ما يمكن من الشئون للفرد لا للمجتمع، وتقليص العمل بقاعدة سد الذرائع، وتوسيع المباحات وفقا لقاعدة كل شي مباح حتى تتضح حرمته أو يظهر ضرره، فعندما يقول الشيخ احمد بن باز بعدم تحريم قيادة المرأة للسيارة فانه ينطلق من عدم وجود أية نصوص شرعية تفضي إلى عدم الجواز، وإنما القول بذلك جاء نتيجة لاجتهاد مبنية على قواعد غير متصلة بأصل الموضوع في الفقه لا الشريعة، يمكن مناقشتها وتفنيدها، ولكون الآثار المحتملة لقيادة النساء للمركبات الخاصة عارضة وليست أصيلة، ويمكن احتوائها وتحجيم ضررها، ولكون الأصل في هذه المسالة أمر عائدا للفرد لا الجماعة، فهو صاحب التقدير والرأي والعزم، وعندما يدلي الشيخ احمد الغامدي بقوله بعدم وجود مسوغ شرعي لإيقاف الرجال والنساء في الشوارع والطرق بتهمة الخلوة الغير شرعية، فانه ينطلق من ذات الأصول والقواعد، التي تحرم الشك بالناس والتجسس عليهم، وعدم وجود مسوغ شرعي للبحث في المنكرات الغير ظاهرة، ويتحرك من قاعدة بديهية في السلوك الإنساني تقول بان الإنسان لن يمارس الفاحشة في الشوارع وإنما خلف الأسوار والأماكن المنعزلة.
إذن السلفيون الجدد وكافة المصلحين الدينيين في الإسلام لم يخالفوا روح النص وقواعده الارتكازية، وإنما يعتمدون في قراءتهم على حقيقة مطلقة تقول بعدم وجود نص قطعي الدلالة للكثير من المحرمات، وإنما بني التحريم على إسقاط بعض القواعد الفقهية المخترعة على الموضوع مدعومة بثقافة وأعراف المجتمع ونتائجها الايجابية، فكل ما قاموا به هو العكس تماما! حيث بنو الإجازة على قواعد فقهية أخرى مدعومة بثقافة العصر ونتائجه الايجابية.
إن المجتمع السعودي اليوم واقع ما بين أربعة تيارات رئيسية. الأول التيار الديني التقليدي، والثاني التيار الديني المتطرف، والثالث التيار الليبرالي، والرابع التيار الديني التجديدي، ولا شك أن حصر الشعب بتيار واحد لن يكون أمر مجديا وواقعيا، نظرا لكون المجتمع السعودي متعدد ومتنوع، كغيره من المجتمعات الإنسانية، لذلك فان حيادية مؤسسة الدولة، وإتاحة تنوع الخيارات والاتجاهات والميول أمام أبناء المجتمع واتجاه الدولة نحو التنظيم المدني وتركيزها على أداء واجباتها الوطنية، سيؤدي إلى ترسيخ دورها كمؤسسة مركزية وتحولها إلى عصبة لكافة أبنائها، الأمر الذي سيعزز من قدرتها على إدارة بلادها وتذويب الهويات الفرعية في الثقافة الوطنية المركزية، الأمر الذي سيساهم في نهاية المطاف في تطوير المجتمع وتنمية وإزهار البلاد.
من ناحية أخرى يتيح التعدد لشريحة كبيرة من الفئات الاجتماعية المتدينة لاعتناق الفكر الديني السلفي التجديدي، بما يوفره من انسجام ايجابي بين الدين ومعطيات ومتطلبات الحياة العصرية، ويتيح الفرص في نفس الوقت لمعتنقي التيار الديني التقليدي، والأيدلوجيات الأخرى لتكوين تنظيماتهم الاجتماعية وممارسة أنشطتهم المختلفة والمتنوعة من دون الحاجة لخوض صراعات تؤدي إلى إيقاف عجلة التنمية والأعمار، بينما ينتج عن التعددية واتساع فضاءات الحرية ضمور التيارات المتطرفة، دينية كانت أو آيدلوجية، لكونها تيارات شمولية واقصائية، مما يحولها في الرأي العام إلى حركات جرثومية دخيلة لا بد من القضاء عليها لكونها خطرا على كافة التيارات والقوى والمؤسسات دون استثناء.
إن السعوديين كغيرهم من أبناء المجتمع الإنساني يحبون الفرح والجمال، والأخذ بأسباب التقدم والازدهار وتنظيم مجتمعهم بروح العصر وثقافته ونظمه ومعايره، بما لا يلغي هويتهم التاريخية وشخصيتهم الإنسانية المتميزة، كعرب ومسلمين، ولتحقيق هذا الهدف في العالم العربي بشكل عام لا بد من إجراء عملية جراحية مؤلمة ما بين الدين والدولة، تتحول الدولة بموجبها إلى منظمة شعبية عامة، تحتضن كافة مواطنيها دون استثناء أو تمييز، ويتحول الدين إلى جزء من النشاط الاجتماعي والثقافي والفكري، ومراعاة تعدد اتجاهاته ومذاهبه، بينما تصبح مسلماته وقوانينه المشتركة جزء من النظام العام في إطار واسع من تعدد الرؤى والتطبيقات، وكل ذلك بهدف دفع التنظيم الاجتماعي في العالم العربي نحو المزيد من الحراك الذي سيساهم بفاعلية في تطور وارتقاء الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
raedqassem@hotmail.com
* كاتب من السعودية