ما سبب الانحطاط : السلطات الفاشلة أم الجماعات الجاهلة ؟
أدت السقطة الفلسطينية المؤخرة المتمثلة في اشتعال الاقتتال بين حماس وفتح وما صاحب ذلك من ممارسات بالغة البشاعة من قبل عناصر في حماس ضد مسئولين في فتح ، والانقسام الخطير الناتج عن هذا وما يحمله من مخاوف حقيقية نحو مصير القضية الفلسطينية برمتها ، أدت هذه “النكبة ” الجديدة إلي تصاعد السؤال مرة أخرى عن أسباب توالي النكبات والهزائم والانحدارات العربية حتى أصبحت الأمة العربية في قاع العصر مرشحة للوقوع خارج التاريخ ، وأصبحت الدهشة تصيب من يحدق في أحوال هذه الأمة محاولاً تفهم أسباب ما يصيبها من مصائب وما تفعله هي بنفسها من كوارث كادت أن تنحصر فيها من بين سائر مجتمعات للأرض ، إذا أنه باستثناء القبائل الإفريقية الغارقة في نكبات المجاعات والأمراض والحروب الأهلية والأستئصالية فإن بقية أمم ومجتمعات الأرض من غربية وشرقية أصبحت تتمتع بقدر وافر من الاستقرار والتنمية والتقدم وحتى الرخاء وفي جو من الحرية النسبية والديمقراطية المعقولة وممارسات تحترم حقوق الإنسان .ومن بين هذه الدول من كان إلي عهد قريب أشد تخلفاً من دولنا العربية وتكاد كلها أن تكون اليوم أقل موارد طبيعية من دولنا الغارقة حتى أذنيها في الذهب الأسود . وهكذا يتقدم الجميع ونتخلف نحن وينضم الجميع إلي مسيرة صناع الحضارة ونشطاء المدنية أهل العلم والطب والبناء والفضاء والتكنولوجيا والفنون والإدارة والتخطيط والابتكار والتطوير في كافة مناحي الحياة بينما لم يعد لدينا ما نصدره للعالم سوي مشاهد البشاعة والتشوه الإنساني من ذبح وتفجير وتدمير وانتحار جماعي وحقد بدائي ولعنات وتكفير للآخرين مع تشويه وتفريط مجاني حتى لقضايانا الواضحة العادلة .
ولم يكن السقوط الفلسطيني المؤخر سوى نموذجا واحدا للسقوط العربي السابق واللاحق والشامل والمستمر .
ولا يجب النظر إلي السقوط الفلسطيني المؤخر سوى باعتباره أحد البثور المتقيحة والدمامل المتفجرة علي الجسد العربي المتهالك المكتظ بالأورام والجراثيم والأوبئة .
فما حدث بين فتح وحماس هو نفسه ما حدث ويحدث داخل كل مجتمع عربي آخر اليوم . فالسلطة الفلسطينية ليست سوى كل سلطة عربية ، سلطة تعيش بعد عمرها الافتراضي وتتحرك في الوقت الضائع منها بعد فوات الوقت الأصلي الذي كان متاحا. وهي مثل كل سلطة عربية تعاني من الفشل الذريع في تحقيق مهامها الرئيسية ووظيفتها الوجودية الأولي . وليست حماس سوى كل جماعة إسلامية أخري في كل مجتمع عربي آخر . حركة معارضة شعبية تلجأ إلي الأستقواء بالسماء ورفع الرايات الإسلامية عوضا عن أعلام الدولة الوطنية تأكيدا لاختلافها عن السلطة المدنية الفاشلة ، مستمدة رؤاها وشعاراتها ولغتها من ماض سحيق ومن سلف لا تري غيره صالحاً فتروح ترفض كل جديد وكل عصري وتعود القهقرى إلي كهوف الأصولية تبحث فيها عن الملاذ والمخبأ والحماية من تحديات العالم العصري من جهة ومن مطاردة عسكر السلطة الفاشلة الفاسدة من ناحية أخري ، فكيف لها أن تقاوم هذين الوحشين المفترسين ، وحش العصر ووحش السلطة ، سوى بالعياذ بالله منهما معا ، فتتحول المعارضة إلي حركة دينية تزداد تشددا وتطرفا مع الوقت ، حتى يصل بها الحال إلي ما وصلت إليه حماس من شطط ووبال واغتيال .
وتقف السلطة الفلسطينية والعربية أمام حماس والجماعات الدينية الأخرى عزلاء إلا من حل وحيد تحاول مجابهتها به وهو الحل الأمني ، وهو حل قاصر مؤقت غير حاسم مرة يصيب ومرة يخيب ، وبالتالي يظل الصراع غير محسوم وتظل الأمة ممزقة بسببه وتتوالى النكبات والهزائم معه .
يقدم لن المأزق الفلسطيني الأخير مدخلا لتأمل المأزق العربي الأوسع الذى له نفس طبيعته وأسبابه وأدواته . وتقوم باللعب في ساحته ثلاثة أطراف هم الغزاة علي الأبواب و السلطات الفاشلة و الجماعات الجاهلة.
الغزاة علي الأبواب :
شكل الغزاة المعتدون علي المنطقة العربية منذ القدم عاملا هاما فيما يحدث لشعوب المنطقة وقاداتها من نكبات وهزائم – ولن نعود إلي ما قبل الميلاد لندلل علي ذلك علي أيدى الإسكندر الأكبر ، ولا نحتاج لاجترار المآسي التي سببها من جاء بعده من الشرق والغرب والشمال . فتاريخ المنطقة يكاد أن يكون هو تاريخ هؤلاء الغزاة الذين قدموا من الخارج طمعا في الأرض والثروة والسلطان والمجد . وما أن قامت حركات التحرير وثوراته بالمنطقة العربية بالنجاح في طرد آخر هؤلاء وهم الإنجليز والفرنسيين – من كافة أراضي المنطقة حتى بدأت إسرائيل الوليدة في وراثة دورهم ، وليس صدفة أن أول عدوان لها علي مصر كان بالتحالف مع هذين الاثنين بالتحديد إنجلترا وفرنسا – في العدوان الثلاثي عام 56 . ثم أصبحت الولايات المتحدة هي الراعي الجديد لسياسة الهيمنة القديمة بمساندتها للاعتداءات الإسرائيلية ثم مؤخرا بغزوها للعراق ، معيدة بذلك الأسلوب السافر للاستعمار القديم بنفس أرديته المهترئة التي لا تغطي عورة أطماعه البدائية مهما منحت نفسها من الألوان الفضفاضة التي لا تختلف في شئ عن ذرائع من سبقها من مستعمرين كانوا يأتون دائما تحت دعوى محاربة الهمجية والتخلف ونشر المدنية والإيمان والنظافة والحضارة .
لا يستطيع مفكر جاد أو مراقب موضوعي أن ينفي دور الغزاة المعتدين في بعض ما أصاب المنطقة من نكبات وكوارث . ولكننا لا نستطيع التوقف عند أعتاب هؤلاء الغزاة لنحملهم المسئولية الكاملة الشاملة لكل ما يصيبنا . لأن المفكر الجاد لا يستطيع تجاهل حقيقة أن الغزاة لا ينجحون في غزو واستعباد شعب ما إلا إذا كان هذا الأخير أضعف من أن يدافع عن نفسه ، فالشعوب التي خضعت للاحتلال كانت في وضع ضعيف مهترئ ومتخلف عن لغة العصر وأدواته وأسلحته مما جعلها مطمع الطامعين ، ومن المعروف أنه في لحظة غزو نابليون لمصر بأساطيله وعتاده وعدته ومعه علماءه ومهند سوه ،أحدثت لحظة التماس هذه صدمة تاريخية ونفسية للمصريين الذين أكتشفوا فجأة مدى الهوة التي تفصلهم عما وصلت إليه البلاد التي جاء منها هؤلاء الغزاة .
التخلف – والضعف الذي يؤدي إليه – كان إذن موجودا في تلك اللحظة في مصر وفي قاداتها وسلاطينها ، وفي لغتها وأدواتها وفكرها وسلوكها – قبل وصول جيوش نابليون . التخلف كان هو السبب الذي أدى إلي نجاح الغزو ، ولم يكن الغزو هو سبب التخلف . وسيظل هذا الخلط الدائم بين السبب والنتيجة هو أهم عوامل فشلنا في التشخيص الصحيح لما يحدث لنا ، وما نحدثه بأنفسنا في أنفسنا .
بهذا يكون دور الغزاة هو فضح هذا التخلف وهذا الضعف الموجود بنا وكشفه لنا وللعالم علي السواء . الغزاة يؤكدون ويثبتون تخلفنا ولا يسببونه أو يخلقونه فينا .
ورغم أن الغزاة لن يعملوا بالطبع علي إزالة تخلفنا ولن يهتموا بتحديثنا وإمدادنا بأسباب القوة أو تعليمنا لغة العصر وبالتالي قد يسبب وجودهم تـأخيرا للحظة البدء في تعلم هذه اللغة والخطو نحو الحداثة والمعرفة والتقدم ، ففي المقابل يمكن أن يكون لاحتكاكنا بهم فائدة اكتشاف لغة العصر وأدواته وتحفيز لنا علي تعلم هذه اللغة التي منحت غزاتنا القوة التي مكنتهم من غزونا . ويعتمد هذا علي قدرتنا علي إدراك عوامل ضعفنا وفهم أسباب تخلفنا . فإذا لم نملك هذه القدرة نظل عبيداً لمن يملكها ويملكنا معها .
لا يمكننا الاستمرار في تعليق أسباب ضعفنا وتهالكنا علي الغزاة . وعلينا أن نحدق في المرأة ونفتش في قلوبنا وعقولنا للتعرف علي أسباب وهننا وعاهاتنا .
السلطات الفاشلة :
مأزق السلطة الفلسطينية قديما وحديثا هو نفسه مأزق السلطة في كل مجتمع عربي. فهي سلطة تأتي إلي مواقعها إما بالصدفة التاريخية أو بالورث أو بالعنف أو بالواسطة أو بتراضي الأطراف علي القبول بأضعفهم أملا في الهيمنة عليه ودرءا للأطراف القوية المنافسة ، وكل هذه تعني أن القيادة العربية ليست أفضل الموجودين المؤهلين لها فلا توجد آلية لدى العرب لإفراز القيادة الأفضل كما لا توجد آلية لإنهاء دور هذه القيادة مهما طال تواجدها أو أتضح ضعفها. وبالتالي فالسلطة العربية تظل سلطة مشكوكا في شرعيتها كما تظل خائفة علي نفسها من غيرها فيصبح همها الأول تدعيم مركزها وتأمين استمرارها .
ولتفعل ذلك عليها إحاطة نفسها بمن يمكن الثقة بهم من الأقارب والأتباع المخلصين أوالمنافقين وجماعات المنتفعين . وهؤلاء ليسوا بالطبع الأكثر أهلية وموهبة لإدارة دفة البلاد ، وبالتالي تظل مواهب وكفاءات المجتمع الحقيقية مدفونة في وظائف دنيا مهملة بلا نفوذ بينما يتسلق إلي أعلي مراكز القوى أهل الثقة والقربي مع أهل النفاق والشطار من التجار الذين عليهم استثمار ثروات الدولة فيما يدر بربح علي من في السلطة بالإضافة إلي التجار الشطار أنفسهم .
وبهذا تؤول السلطات في المجتمعات العربية لدوائر محدودة من أصحاب الحظ وليس القدرة أو الموهبة وتصبح هذه الدوائر مغلقة عليهم . وبالتالي تتدحرج البلاد إلي مصائرها في قاع العصر تحت القيادة الوهمية لهذه الدوائر المغلقة التي لا تملك في الواقع أن تقود نفسها ناهيك عن الآخرين .
وخلال هذا التدحرج تتلوث البلاد بمختلف أنواع الأوساخ والقاذورات من المحسوبية والواسطة إلي الرشوة والفساد والكذب والتزوير والسرقة والنهب العام . وترشح هذه السلوكيات تدريجيا خلال طبقات الهرم السلطوي الإداري فتصبح هذه سلوكيات الزمن المعتمدة المتداولة فيسود الفساد ويطال أصغر الموظفين والإداريين ولا يظل عمل أو إجراء أو شأن في البلاد إلا ويصبح فاسداً .
وبالإضافة إلي دائرة الأهل والأصحاب و المنتفعين ، تضطر السلطة أيضا إلي مهادنة واسترضاء الغزاة الطامعين الواقفين علي الأبواب دائما ، فهي لا تملك القدرة علي الوقوف أمامهم لاماديا ولا أخلاقيا وبالتالي ليس أمامها سوى الرضوخ والإذعان لما يطلب منها متخذة قدر الإمكان دور الحليف أو الصديق وكأن هذا خيارها ، وهذا ما وجدت السلطة الفلسطينية نفسها فيه إذ لم يستطع محمود عباس أن يطرح رؤية مستقلة حقيقية ولم يمنحه الغزاة شيئا بل كان هو المطالب دائما بأن يمنح ، رغم أنه كان – بالاسم – الشخص الذى طلبه الغزاة وأصروا علي قدومه بعد رفضهم التعامل مع ياسر عرفات .
ولم يعد خفيا أن بداخل فتح كان هناك من يعملون لتحقيق رغبات الغزاة داخل المجتمع الفلسطيني وتقول حماس أنه تم اغتيال بعض الأئمة مما دفعهم للمبادرة بالاقتتال. ورغم أنه من الصعب معرفة الحقائق بالضبط من الخارج ، فقد فاحت علي مدى فترة طويلة روائح التواطؤ والتبعية من ناحية والفساد والطغيان السلطوي من ناحية أخرى من قبل عدد من قيادات فتح والسلطة. وقرأنا لمراسلي النيويورك تايمز أنفسهم وصفا لمظاهر البذخ في فيلا محمد دحلان في غزة.. فكيف يمكن التوفيق بين بذخ كهذا وبين مسئوليات قادة في منظمة تحرير وطن يرزح أهله تحت وابل الحصار والتجويع والمطاردة والاغتيال ؟
وهناك روايات أخري كثيرة عن مظاهر الفساد في السلطة الفلسطينية وبهذا ينظر إليها الشعب المطحون المستهدف فلا يجد سوى ضعفا في القيادة وتبعية وتهاونا في التوجه يصل إلي حد تواطؤ البعض مع العدو مع فساد فائح وتسلط وعجرفة وظلم في الأرض فيلجأ إلي ملاذه الأخير وهي الجماعة التي تقدم له نفسها في رداء السماء الناصع البياض المجلل بالنظافة والطهر والالتزام ومخافة الله فيمنحها ثقته وصوته في انتخابات حرة يباركها الغزاة أنفسهم ولكنهم يرفضون نتائجها المنطقية .
سيناريو السلطة الفاشلة المتأرجحة في الهواء بين خنوعها أمام الغزاة وفسادها فيما بينها وقطيعتها مع شعبها هو نفسه سيناريو مأزق السلطة العربية في معظم البلاد العربية اليوم .
الجماعات الجاهلة :
أمام تخاذل وخواء وفساد السلطة الفاشلة استطاعت الجماعات الإسلامية المتشددة – بمختلف أسمائها – والخارجة أساساً من تحت عمامة الإخوان المسلمين بمصر أن تجمع حولها الساخطين المنهوبين المسحوقين الراغبين في عيش أكثر نظافة وكرامة وعدلا. ولم يكن عليها أن تفعل الكثير لاجتذابهم فقد كانت القوة الطاردة للسلطة الفاشلة كافية وكفيلة بذلك . ومع ذلك فقد فعلت هذه الجماعات الكثير وقدمت الخدمات الإنسانية والمعيشية اليومية التي تحتاجها الجماهير المهملة المنسية ، فقدمت الخدمات الطبية والإسكانية والوظيفية وخدمات الإنقاذ العاجل وقت الكوارث ، بالإضافة إلي تقديم كل هذا في إطار الرؤية الدينية الملتزمة المتقربة إلي الله تتقيه في عباده وتجاهد برفض الظلم الواقع عليهم من الغزاة والطغاة معا ، فكان لا مفر من أن تجد دعوتها هذه ليس فقط أذانا صاغية بل قلوبا مفتوحة متلهفة تلتهم الدعوة الجميلة النبيلة التهاما بكل ما بها من بهاء السماء ومكارم المقاصد ونبل الأخلاق ودف الملجأ والملاذ .
وهكذا اجتاحت الجماعات الإسلامية الشوارع العربية من الكويت إلي المغرب مرورا بالعواصم العربية الكبيرة والصغيرة ، القديمة والجديدة ، وراح بعضها يستخدم العنف ويصل إلي الإرهاب بينما راح البعض الآخر يلعب لعبة الديمقراطية ويدخل الانتخابات ليخرج منتصرا كما فعلت حماس وكما فعل الإخوان في مصر وكما فعل بعض آيات الله بالوكالة في العراق.
وحين أطلق علي هذه الجماعات صفة ” الجاهلة ” لست اقصد شتيمتها أو نعتها بالجهل بالمعني المتداول ، فالكثير من قادتهم متعلمون وبعضهم يحمل شهادات الدكتوراة وآخرون أطباء ومهندسون ومدرسون . هؤلاء إذن لا ينقصهم التعليم ، ما ينقصهم هو معرفة لغة العصر وأساليبه وفكره وأدواته . فهم جاهلون بهذه جهلا تاماً .وكل أحاديثهم وفتاواهم وأفعالهم ومظهرهم وجوهرهم تدل علي هذا الجهل بالمعرفة الحديثة والقطيعة التاريخية الكاملة مع العصر الحالي والإقامة في عصر السلف في قرون سحيقة غبرت . فهم يتكلمون في حياتهم اليومية لغة السلف البعيدة عن العصر ويفكرون ويلبسون ويفتون ويتصرفون كما كان يفعل ويفكر ويلبس ويأكل ذلك السلف في عصور سالفة ، في غيبة خطيرة عن اللحظة الكونية الراهنة ، ولهذا تأتي أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم صادمة لنا ولعصرنا بالغة الغرابة حد السخف والبلاهة في بعض أوجهها . وليس عليك سوى تأمل معني الفتوتين الأخيرتين الصادرتين عن أعلي المراجع الأزهرية بخصوص رضاعة الكبير والتبرك ببول الرسول وما تبع هذا من استهجان معظم الكتاب والقراء علي السواء . يدل هذا علي مدى القطيعة التي بين هؤلاء وبين العصر وساكنيه من بقية البشر ، وليس عليك سوى التأمل في الأفعال الوحشية التي ارتكبها أعضاء حماس من إلقاء البشر أحياء من الطوابق العليا إلي طعن وسحل بعض قيادات فتح في الشوارع إلي تعرية المأسورين منهم وبقية الجرائم والحماقات التي ارتكبت. ومثلها ما يرتكبها كل يوم أقرانهم من أتباع القاعدة السنية أو أتباع الميليشيات المسلحة الشيعية من بشاعات ومنها عمليات الذبح أمام عدسات الكاميرات والقتل لجماعي لعشرات الرجال أو تفجير النفس وسط الجموع في الأسواق أو علي الأرصفة ، لتدرك كيف تفضح هذه كلها حقيقة المتشدقين بالدين ومدى شطط عقولهم وسوداوية قلوبهم متي أطلقوا العنان لأنفسهم لتفريغ أحقاد تاريخية بدائية يختزنونها في لغة التكفير والتحقير للأخرين والحقد الدفين علي كل المختلفين .
هذه الجماعات الجاهلة لفكر العصر ولغته لا يمكن أن تكون هي البديل الناجح للسلطات الفاشلة ، فهي لن تكون بطبيعتها سوى أكثر فشلا وأعظم وبالا علي نفسها وكل من حولها . فرغم كل مساوئ السلطات الفاشلة فهي علي الأقل تعيش عصرنا هذا وتتصرف بمقتضاه. ولكن ليس ما هو أخطر ممن يخرجون علينا من كهوف التاريخ برؤية لا تمت لعصرنا بصلة ويريدون فرضها علينا والعودة بنا إلي الوراء قرونا وأزمنة قاحلة .
إن فهمنا لأسباب ظهور وانتشار الفكر السلفي لا يعني قبولنا له .
أن فهمنا له يعني ضرورة بحثنا عن الوسائل الناجعة لمقاومته وكشف مخاطره وفضح جهالته وتهافته الفكري والإنساني والأخلاقي.
الخروج من التاريخ
استمرار مجتمعاتنا العربية في التمزق في صراع مستمر بين أنظمة فاشلة وجماعات إسلامية معارضة جاهلة بينما يقف الغزاة علي أبوابنا أو ينامون في سرائرنا كما أصبحوا يفعلون في أكثر من وطن وأكثر من أرض يعني خروجنا المحتم من التاريخ لتصبح شعوبنا كما مهملا يستبيحه كل من طمع فيه بلا قدرة علي الدفاع أو القيام من علي فراش المرض المميت .
إعادة الدخول للتاريخ واللحاق بالعصر لن تتحقق إلا إذا ابتكرت مجتمعاتنا آليات حديثة لإفراز قيادات متزنة ذكية تملك الموهبة والقدرة وتعرف أن عليها أن تنجز وإلا تطرد من موقع القيادة ككل قيادات الأمم الأخرى. ولابد من الكفاح داخليا لانتزاع الحق في آلية تبادل السلطة بين أحزاب وطنية لا دينية لا تتلفح بغمام السماء ولا تتكلم لغة الأرباب ولا لغة الكهوف ولا لغة الغزاة ولكن لغة المواطن البسيط النبيل .
fbasili@gmail.com
كاتب من مصر يقيم في نيويورك