الجزء الثالث
في رواية “عربة المجانين” للكاتب الاورغوياني “كارلوس ليسكانو” الذي كان سجيناً سياسياً لثلاثة عشر عاماً إثر محاولة انقلاب فاشلة قام بها مع رفاقه ضد السلطة الدكتاتورية في بلاده آنذاك، ذاق الكاتب في السجن شتى أنواع التعذيب والإذلال، لدرجة شعر أنه لم يعد ثمة فرق في القيمة بينه وبين حذائه الرث.. يقول عن نفسه وعن رفاقه المعتلقين “جئنا من العدم. العدم في بلادي هو عدم امتلاك اسم، وعم، وأصدقاء معروفين من الجميع، وعدم امتلاك أية صلة بالسلطة، جئنا من لا مكان، ونريد أن نكون محترمين. كيف نفرض احترامنا؟ حسناً، من خلال شيء ما، شيء يمكننا القيام به كي نبقى صامدين.” تلك العبارات المؤثرة تكاد تمثل حال شعب السعودية في هذه الفترة، كأنهم ركاب أتوا من العدم وجمعوا في مكان ما، لكنهم يريدون أن يثبتوا أنهم محترمون بالرغم أنهم أضاعوا صلتهم بأرضهم، وتبددت أمامهم الجهة الجغرافية الصحيحة لها، حتى صارت هويتهم تتمثل إما في أوهام اختلقوها هم لأنفسهم مثل العروبة والإسلام، أو في مدى التصاقهم بالسلطة أو ابتعادهم عنها، سواء أكانت السلطة سياسية او دينية أو قبلية، لم تترك لهم مساحة حميمية ليحبوا وطنهم، ولا صورة طيبة ليظهر فيها وطنهم حبه لهم.
اليوم في السعودية بالرغم من تصاعد سعر برميل البترول، وبالرغم من كثرة السيولة المالية والمشاريع الاقتصادية، وبالرغم من الدور الريادي الذي يقوم به الملك عبد الله بن عبد العزيز في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن السعوديين يمرون بأزمات أمنية عصيبة. بين حين وآخر تُحاك حولهم مكائد خبيثة وتكاد تكون قاتلة. المحزن أنها ليست من أعداء لهم، بل من أحب ابنائهم وأقرب فلذات أكبادهم. أمر لم تتصور السلطة السعودية أنها ستواجهه يوم ما، أو أنه سيحدث بهذه الدرجة من الخطورة. تلك المحن التي تعيشها المملكة لها أسباب كثيرة لكن أهمها هو ضياع الهوية واضمحلال الانتماء للوطن.
رأينا عبر التاريخ السعودي أن العروبة والإسلام كانتا دواء لمن كان فيه داء الغربة عن الوطن. فقد تجرع ذاك الدواء كل الأصناف المتشددة دينياً وقومياً، فتضخمت في داخلهم العروبة، وتفاقم الإسلام عندهم حتى تحول إلى سلاح فتاك لإثبات الذات وسحق الآخر في داخل البلد وفي البلدان الأخرى.
لكن العروبة والإسلام لم يكونا وحدهما كافيين لشفاء علل جميع الفئات والطوائف في البلد. لذلك فإن الكثيرين من السعوديين توجهوا إلى نواحي أخرى لإسكات أوجاعهم وإرضاء أرواحهم التائهة. على سبيل المثال فقد وجد القبليون وطنهم في القبيلة. التحموا بها بشدة وبطريقة عجيبة. أصبحت القبيلة كوكبهم الذي يدورون في فلكه ويتبعونه في الصواب والخطأ. تحولت بعض المؤسسات الحكومية إلى مضارب بادية لقبائل معينة. حتى “الشركات الحكومية” الضخمة مثل “أرامكو السعودية”، و”سابك”، و”سكيكو” تحولت إلى شبه أوكار للقبليين، فمن لا ينتمي إلى إحداها هُمـّش وأُهمل على السلم الوظيفي حتى يبلغ التقاعد أو تأتيه المنية.
بالطبع فإن المجتمع السعودي يحتوي على شرائح أخرى مختلفة، حيث لم تكن جميع الأصناف لديها النعرات القبيلة مترسخة في الأعماق، لذلك اتجهت بنفسها إلى مفهوم هش آخر وهو المنطقة. فالنجراني لنجرانه، والقطيفي لقطيفه، والحجازي لحجازه، والإحسائي لإحسائه، والعسيري لعسيره، والحائلي لحائله، والنجدي لنجده، وكل يغني على ليلاه. تمحور المناطقيون، إن صحت التسمية، حول مناطقهم، وتشبثوا بها. عزلوا أنفسهم ذهنياً وعاطفياً عن البلد بدون دراية، وكأن كل منطقة هي دولة بحد ذاتها، وليس لها صلة بالمناطق الأخرى. كل ذلك من أجل أن لا يفقدوا أنفسهم وتضيع هويتهم المأزومة أصلاً. آخرون، وبالأخص الأقليات، تَمثَل لهم الوطن في الطائفة او المذهب الذي اعتنقوه، وتوحدوا به حتى صاروا يشعرون أنه خلاصهم من هَم الغربة ومن أوجاعها، فهو الذي يتجمهرون من أجله ويحتمون بمظلته لدرجة أنهم اتهموا صراحة بعدم ولائهم لوطنهم، وأنهم طابور خامس سيخلخل ثوابت الأمة.
المسعودون ربما تبدو احوالهم على السطح طبيعية، ولكنهم في الحقيقة يعانون من تهميش مُتعَمد ويتعرضون مرات كثيرة لعنصرية مشينة. لذلك يظلون ينتمون لفئتهم ويتزاوجون فيما بينهم، وكثير منهم يشيدون بيوتاً في بلدانهم الأصلية، لأن الوطن المتبنى لا يحتويهم وبالتالي لا يكنون له أية مشاعر وطنية.
الفئة الأكبر المغيبة وغير المرئية هي النساء. فغني عن الذكر أن ما يدركه العالم بأسره هو أن نصف المجتمع السعودي بلا وجود ولا هوية، فالنساء مواطنات بلا درجة، مواطنات مع وقف التنفيذ، فكيف يمكن لمن ليس له وطن أن يربي جيلاً على حب وطن، فهل فاقد الشيء يعطيه؟
إذن، القاعدة التي لا استثناءات لها هي: أن مشاعر اللاوطنية متفشية بشكل واضح بين جميع فئات الشعب السعودي، لأن الوضع الحالي المرتبك والسياسات القاسية المتبعة منذ عقود طويلة في جميع مناحي الحياة، جعلت مفهوم الوطن لدى السعوديين باهتَ الصبغة تماماً. فهو ما زال مجرد اسم ونشيد وطني وشعارات وقصائد بليدة تـُردد في المحافل والمناسبات على الناس، وكأنها ألحان خافتة جدا تُعزف على مسامع حشد من الصم. فهل يا ترى يسمع من به صمم؟؟
الحالة التي يعيشها الشعب السعودي صعبة جداً، ولا بد من حلول لها وبعض هذه الحلول يجب أن تكون جريئة وجذرية، من أجل أن يخرج المجتمع من هذا النفق شديد القتامة. الحل هو الإصلاح الحقيقي والترميم من الداخل على حسب ما طرح الملك عبد الله عبد العزيز حين اعتلى سدنة الحكم. الوطن اليوم يشبه سفينة تمخر ضد التيارات وسط أعاصير هوجاء، وأمواج عاتية، فإما أن ينجو الجميع معاً أو يغرقوا معاً، ولن ينجو أحد سوى بالإصلاح، فهو الخلاص والبوصلة الصحيحة التي ستوصلهم إلى بر الأمان. الإصلاح الحقيقي بنوده معروفة وطالبَ بها الكثير من الشرفاء الوطنيين، أهمها المشاركة السياسية، وتوزيع الثروات بين الناس، وتحقيق سيادة القانون، والعدالة واحترام الحريات الشخصية. من أجل أن يصبح الوطن للجميع يجب أن تذوب تلك المصالح والمحسوبيات وتصب جميعها في مجرى الصالح العام، فلا يكون ثمة فرق بين فقير وأمير، وبين امرأة ورجل، وبين صغير وكبير، وبين خضري وقبلي، وبين أقلية وأكثرية.. لا فرق بينهم أبداً لا في الحقوق ولا في الواجبات. الجميع سواسية كأسنأن المشط. فتحت مظلة العدالة يتم القضاء على الفساد الإداري والمالي وإيقاف كل التجاوزات والاختراقات، ويُرفع القهر والظلم الواقعان اليوم على كثير من فئات المجتمع. فلا سلام ولا أمن ولا وطن بلا عدالة. فحين يشعر المواطن بآدميته ووجوده وكيأنه وقيمته لا محالة ستنغرس في داخله بذور الوطنية وحب الأرض التي ترعرع فيها، ومن ثم ينمو الولاء لبلده ويكبر وينجب ثمار الخير والمحبة.
القرار في نهاية المطاف للسعوديين وحدهم. فهل يريدون أن يكونوا شعباً بوطن، وينعموا بخيراته الكثيرة، أو أن يظلوا تائهين في بقاع الدنيا، يعملون مرتزقة لأمراء الحروب والنزاعات، وملاحقة وهمٍ يؤويهم ويشعرهم بالانتماء، معتلين بمرض (عشم إبليس في الجنة)؟؟
salamhatim2002@yahoo.com
وجيهــة الحــويدر: السعوديون أرض بلا وطن (2)
وجيهــة الحــويدر: السعوديون أرض بلا وطن (1)